Friday, August 30, 2013

رواية الرمال يافاطمة/صلاح الدين سر الختم على



صورة الغلاف بريشة الفنان الراحل أبو الحسن مدنى

 الرمال يافاطمة/رواية
 صلاح الدين سر الختم على
الناشر/ مركز الحضارة العربية القاهرة 2008

 اهداء أول
إلى : أمي وإلى كل الأمهات
إهداء ثاني

إليهم جميعا في غيابهم الجميل وحضورهم السرمدي
:شهداء ودمدنى

(بشير الطاهر- طه يوسف عبيد – عبد المنعم  رحمة _د/بابكر محمد محمود) وأخرين بأتساع المدى 


.
إن السُّيٌوفَ مع الذِين قلَوبُهمْ آَقُلُوبِهنّ إذا إلتقى الجَمعْانِ
تَلْقَى الحُساَمَ على جراءَةِ حَدِّهِ مثل الجَباَنِ بكفَّ آُلَّ جَباَنِ
(المتنبي )




الفصل الاول

حكايات النهر

حين تهب الريح يا فاطمة وتتلاعب بالضفائر الصغيرة حينها تبدو الدنيا اقل قسوة مما هى فى الحقيقة وعندها اسند ظهرى الىجذع النخلة العجوز وتنهمر الذكريات فى خاطرى سيلا وشلالا جارفا واغيب فى البعيد .
لم تكونى وحيدة ولم يكن الشيب قد استوطن برأسى وجف فى صدرى الصهيل و امسيت مجرد حصان عجوز يقتات ذكريات ايام مجيدة لا يذكرها احد سواه وينتظر رصاصة الرحمة التى يبخل الزمان حتى بها ، كان للدنيا فى ذلك الزمان ايقاع اليف ولم تكن الفوضى الشاملة التى انتظمت الكون قد وجدت لها مؤطىء قدم ، كنت عندها مزارعا صغيرا لم يزدحم رأسه بالاسئلة وكان عالمى كله هو ارض استودعتها احلامى وسكبت فيها عرقى ودمى وربيع شبابى وامرأة كانت تبدو بعيدة ونائية كنجمة فى مساء ابتلع الظلام نجومه الصغيرة واحدة تلو الاخرى وبقيت تلك النجمة تنظر اليه من عل فى تحد واصرار عظيم على البقاء ..
كانت كثبان الرمال الذهبية ممددة ككلب كسول وهى مترامية الى ما لا نهاية كالهاوية .. كالفراغ العريض .. لسبب غامض لا ادرى كنهه كانت نفسى تنقبض عند رؤية تلك الرمال .. لم اك احبها .. حتى فى ليالى السمر والانس الجميلة حين يطل القمر كإله اسطورى فريد وتبدو الرمال حينها اشبه بفركة قرمصيص زاهية تفوح منها عطورا آسرة وهى تفتح ذراعيها كعروس خجولة فى ليلة زفافها ويعلو صوت الأقران فى سماء القرية الساكنة مبددا الليل البهيم ، حتى فى مثل هذه اللحظات التى يتصالح فيها المرء عادة مع ما يكره حتى فى هذه اللحظات كنت لا احب الرمال وتنتابنى قشعريرة غامضة وكنت حين انام اراها فى منامى دائما زاحفة على الحقول الخضراء فى اصرار كحية ضخمة لا تشبع وكأن بينها وبين الخضرة ثأر قديم ، وكنت اراها وهى محمولة بواسطة الرياح التى تولول كأنها تصرخ صرخة حرب كالتى تطلقها قبيلة بدائية ايذانا بالهجوم فتتمايل البراعم الخضراء الصغيرة البائسة وتتلوى من الالم تحت لسع الرياح وتحاصرها الرمال وتدفنها بقسوة .. اسمع انين السنابل وهى توأد حية وتهال عليها اطنان من الرمال والرياح وتصرخ صرختها البلهاء كأنها تحتفل باعدام السنابل .. اصحو مفزوعا واهرول باتجاه الحقول وعندما يجيئنى هسيس الاغصان والمح اعناق السنابل الخضر وهى تتمايل مع الريح فى وداعة تلفنى سكينة ما واعود من حيث جئت واغيب فى سبات عميق لا تتخلله الكوابيس وحين تحل اولى نسمات الفجر اهرول وذكرى البارحة غامضة ترن فى ذهنى المشوش نصف من الحقيقة ونصف من الخيال فابدو مشوشا حتى تخترق انفى رائحة الحطب وهو يحترق ورائحة النهر وهو يستيقظ فى تكاسل فتعود الى السكينة واهرول كحمل صغير الى حيث امى فى مراح الاغنام اشاركها بفضولى واسئلتى الصامتة والمنطوق بها اثناء عملية حلب الاغنام واتابع ببصرى الرغوة البيضاء التى تخلفها عملية الحلب فى سطح الاناء و الشعيرات الصغيرة التى سقطت عن ظهر الشاة فى الاناء .. تستدير امى عائدة الى حيث جريد النخل المشتعل وذلك الاناء المتشح بالسواد كاثر لازم لوضعه كل صباح فوق اللهب المتصاعد من جريد النخل واوراق الاشجار الجافة التى توقد بها امى النار .. 
اتناول كوب الحليب من يد امى وافرغه فى جوفى والسعادة والاحساس بالدفء هما عنوانى الوحيد  ساعتها امد يدى الى حيث النار المشتعلة باحثا عن مزيد من الدفء فى زمهرير الشتاء وحينها ينهق حمارى احتجاجا على تأخرى فى القاء التحية  ، اترك ما فى يدى وصوت امى يلاحقنى مذكرا اياى بأن صلاة الفجر لم تنجز وان الشاى الساخن ما يزال ينتظرنى ولكننى كنت حين اسمع صوت (دليل) حمارى لا اسمع صوتا اخرا .. اذهب اليه راكضا ، امسح على رقبته الطويلة فى حب فيهز اذنيه الكبيرتين فرحا ويتمسح بى كأنه يرد التحية .. كنت احادثه طويلا كما يحدث الانسان صديقا عزيزا وكنت واثقا انه يفهم ما اقول .. انظر فى عينيه الحزينتين اللتين تبدوا لى دائما باكيتين حتى الاحمرار فاقول لنفسى لابد انه حزين على امه التى رحلت بعد ولادته بأشهر قليلة ، اقول له وانا امسح على رأسه (لا بأس يادليل الحزن احساس عابر .. انا امك واصدقائك وكل عائلتك .. الا يكفيك ذلك ؟) فلا يجيبنى ، اجلب اليه حزمة من البرسيم الاخضر من الحقل القريب وسطلا من الماء ثم اذهب صوب النهر .. اخلع جلبابى القصير القى به فوق صخرة صغيرةعند الضفة .. ادخل الماء راكضا مستمتعا بمرأى الماء وهو يغمرنى شيئا فشيئا ثم ابدأ بالسباحة .. الهو بالماء فى جذل برغم برودته القاسية . اغلق انفى بيدى واغوص عميقا .. ثم اعود الى السطح ثانية .. اعود الى الضفة وقبل ان ابلغها اتوقف عند ذلك الحجر الضخم البارز الذى تحيط المياه ببعض اجزائه وتعجز عن بلوغ بعضها فيبدو من على البعد كأنه ظهر تمساح ضخم متمدد فى انتظار فريسة يشبع بها جوعا لا ينتهى ابدا .. كانت جدتى (زينب بنت الحا ج )تقول دائما ان هذا الحجر حجر مبروك ولا تملأ جوز ماءها المكون من صفيحتين يربط بينهما عود من الخشب تعلقه على كتفها النحيل الا من هذا المكان من النهر ، وذات مرة سألتها عن سر تعلقها بهذا المكان فصمتت قليلا وغالبتها دمعة وهى تروى لى ان احدالمتعلمين من اسرتها وهو طبيب مشهور   كان يشرب من هذا المكان واوصاها ان تشرب منه لأن الماء النقى يكون فى مثل هذا المكان من النيل ومن يومها لم تعد تأخذ ماءها من النيل الا من عند هذا الحجر الاسود الغامض الذى لم ينل منه النهر ولا عوامل التعرية . 
عند هذا الحجر المبروك اتوقف واتوضأ من مائه الرقراق وصوت جدتى يأتى من الاعماق مباركا وقوفى عند حجرها وصونى لعادتها ، اخرج من الماء واقوم باداء صلاتى اسفل تلك النخلة المنتصبة عند مدخل المشرع كأنها بوابة النيل فتنادينى رائحة الجروف الصباحية بقوة وحبات الطماطم الحمراء وسط الاوراق الخضراء تنادينى بسحرها الذى لا يقاوم .. امد يدى وآخذ حبة منها .. افركها بين يدى .. انفض عنها الغبار العالق والتهمها فى تلذذ .. اسمع صوت القطار يعلن دخوله حدود (ابو هشيم) الجغرافية .. اترك ما بيدى واهرول صوب (دليل) اسرجه على عجل وانا احادثه واعتلى ظهره والكزه لكزة خفيفة بجريدة النخل القصيرة الخضراء فيمضى دون ان اشير عليه او اوجهه فى طريق يعرفه جيدا بمحاذاة قضبان السكة الحديدية فى اتجاه السوق لكى نلحق بالقطار قبل بلوغه المحطة .. نتسابق مع باقى اهل البلدة الصغيرة الذين يرومون نفس الشىء وهو بلوغ المحطة قبل القطار لاغراض شتى فمنهم المسافر ومنهم المودع ومنهم من يبتغى الحصول على صحيفة او طرد مرسل من الغائبين فى المدن البعيدة ومنهم من يبتغى اشباع فضول متجدد مع كل صافرة ورؤية الدنيا البعيدة التى تأتيهم مع كل صافرة قادمة او مغادرة .فى منتصف طريقنا الى المحطة نلمح القطار داخلا دخول الفاتحين .. الرأس الازرق اللون .. اللوحة المائلة الى اللون البرتقالى .. العربات الطوبية اللون .. ثم العربات البيضاء اللون كالحليب ... العربات الملونة فى المنتصف .. ثم العربات الشاحبة اللون المخصصة لركاب الدرجة الثالثة .. عربة البوستة المميزة .. ثم اخيراالقاطرة الاخرى التى ينتهى بها هذا الثعبان الضخم الذى يتلوى على القضبان فى تحد وخيلاء اتأمل عربات القطار اللامعة من الخارج المتسخة من الداخل حتما اكثر من مربط (دليل) وزريبة الاغنام .. وجوه المسافرين المتعبة .. الرمال التى تغطى شعورهم ووجوههم وملابسهم اكثر مما تغطينا بعد حلول عاصفة ضخمة من تلك التى نسميها (الكبتة) التى تحيل الدنيا ظلاما فى الظهيرة عندما تأتى وتقتلع الاشجار من جذوعها وتملأ شفاهنا ووجوهنا بالرمال والحجارة الصغيرة وتبدو كأنها ماردا غاضبا من الجن يصب غضبه على بنى البشر .. نلوح للمسافرين بايدينا ويردون التحية بالايدى من على البعد ويكتفى بعضهم بالنظر دون ان ينبس ببنت شفة ... مع اقتراب القطار متهاديا صوب المحطة نقترب انا ودليل والفخر يملؤنى بأن (دليل) استطاع مجاراة سرعة القطار وبلوغ المحطة معه فى ذات الوقت .
عند المحطة يبدو الناظر ببرنيطته العريضة وصدره الذى يعلو وينخفض مع خطواته الفخورة كخطوات الضباط فى حفلات التخريج العسكرية ، المحطة الصغيرة تموج بالحركة كأنها لا تعرف السكون الذى يحل بعد رحيل القطار مباشرة فتتمدد القضبان ساكنة خرساء كدار هجرها اهلها الى الابد ، وتبدو المحطة التى تموج بالحياة الان كأنها تنتمى الى العدم  بعد رحيل القطار، المح ابتسامات التجار الواسعة واسمع رجاءاتهم التى لا تنقطع للناظر كى يبقى القطار قليلا بأى حجة حتى يتمكنوا من شحن بضاعة ما او ربما تحقيق مآرب اخرى يقصر ادراكى عن معرفتها ، المح الفرحة البكر التى تعتلى وجوه القادمين الى (ابو هشيم) من البعيد بعد ظمأ وشوق طويل عندما يرون وجها مألوفا لديهم او يسمعون تحية ترحيب حارة من احد الاقارب المستقبلين تشدنى تلك المصافحات والتحايا التى توازى فى حرارتها ما تنفثه الرمال من حميم لافح فى ظهيرة يوم من ايام الصيف الملتهبة .
كان بيتنا يا فاطمة بيتا صغيرا من الطين الاخضر تحاصره كثبان الرمال الذهبية من ثلاث جهات ، وحده جانبه الذى يطل على النيل لم يكن محاصرا بالرمال وهناك فى تلك الناحية كان مربط (دليل) فدليل مثلى لا يحب الرمال وكان حين نريد الذهاب الى السوق يتخير طريقا يمر وسط المزارع الخضراء ويتحاشى الكثبان الرملية ، كانت امى امرأة ضئيلة الجسم صموتة قليلة الكلام والشكوى ولكنهاحين تمسى وحيدة تمسك حزمة لينة من السعف وتنسجها على مهل بأيدى ماهرة وتستولدها (برشا) او (قفة) او (سلة صغيرة) تستعمل فى لقيط التمر الاصفر نسميها (اللقاطة) تنسج اياديها السعف على مهل وتعيد تشكيله ويرتفع صوتها الرخيم بغناء عذب شجى فكنت اتسلل على اطراف اصابعى على وقع صوتها وانتحى ركنا قصيا بحيث لا ترانى وانصت اليها فى خشوع وانبهار لكنها كانت تعلم بوجودى دائما حتى لو كانت تعطينى ظهرها ، كأنها تشم رائحتى او تملك قدرة ساحرة على استشعار وجودى فتتوقف بغتة عن الغناء .. تنادينى بصوت دافىء .. تجلسنى على ركبتيها دون ان تتوقف عن ضفر السعف وتغنى لى وحدى غناء خاصا حتى انام فى جلستى تلك وتتراءى لى فاطمة السمحة فى محبس الغول النائم وارانى (حسن) او (حسين) ابني عمها اللذان تناجيهما بصوت شجى لكى ينقذاها من الغول الذى يريد افتراسها .اسمع وقع حوافر جوادى وصوت رنين سيفى وانا اقطع المسافات مهتديا الى كهف الغول بصوت (فاطمة) السمحة وهى تنادينى بأسمى ، انظر الى وجه جوادى فاجد وجه دليل وعيونه الحزينة والمح شوقه الى رؤية فاطمة السمحة فاهمزه بجريدة النخل فيركض حتى يطير عاليا فى الهواء ، نعلو معا فوق الغابات والاشجار والانهار وانا ابحث بعيونى عن الكهف ، ترتفع اذنا (دليل) بغتة فينتابنى خوف مفاجىء ، يطل وجه الغول البشع و اشم رائحة نتنة ، اسمع انين (فاطمة) تحته ،ارفع سيفى واضرب .. اضرب بكل ما اوتيت من قوة حتي تنفجر نافورة الدم فى وجهى ، ترتفع زغرودة خافتة من مكان ما ، تجاوبها اخرى  وثانية وثالثة .. ترتفع الزغاريد .. وجه فاطمة الجميل يملأ الفضاء .. امد يدى لاسوى خصلة شعرها التى يلعب بها الهواء ، ترتفع (فاطمة) تختفى وسط الغيوم البعيدة حتى تمسى نقطة صغيرة بعيدة . واتذكر ذات يوم فى طفولتى البعيدة كنت عند ضفة النهر مع مجموعة من اقرانى .. تشاجرنا لسبب ما ، كان صوتى عاليا فى المشاجرة الكلامية ولكن حظى كان قليلا فى الاشتباك الذى تلا ذلك ، نلت هزيمة وضربا مبرحا من احد الصبية فهرولت باكيا باتجاه الدار حيث امى وعويلى يسابقنى وحين ارتفع صوتها غاضبا وحاسما جف فى حلقى الكلام والبكاء : (الا تخجل من نفسك ؟ اتبكى مثل النساء ؟؟) لم تزد حرفا على قولها هذا واعطتنى ظهرها ومضت ولم اقل شيئا وتواريت بعيدا عن انظار الجميع سحابة النهار كله .. لم احضر للغداء كما هو شأنى .. اكتفيت ببضع حبات من التمر وكان حظى من الاحساس بالمهانة اكبر من جوعى فلم اقو حتى على اكل ما جمعت من التمر فالقيت به بعيدا وانا افكر فى وسيلة ما لاسترداد كرامتى المهدرة .. قبل المغيب سمعت صوتها وهى تنادى فلم اجب .. اختبأت خلف شجرة النخيل واخذت ارقبها وهى تجول فى البيوت المتناثرة بحثا عنى ولكننى لم استطع الاستمرار فى الاختفاء عندما لمحت الدموع فى عيونها الصغيرة وهى تهرول صوب النهر وتنظر الى صفحته الهادئة بحثا عنى ، هرولت نحوها وارتميت فى حضنها صامتا دون بكاء وعندما عدنا واجلستنى عند ركبتيها انطلق السؤال الذى كان يهدر بداخلى طيلة نهارى : (لماذا تبكى النساء يا امى ؟؟) فمسحت على شعرى وصمتت طويلا حتى خلت انها لم تسمع سؤالى فكررت السؤال بالحاح من جديد فقالت وهى تنهض معلنة اغلاق باب الاسئلة (بعض النساء يبكين سرا يا صغيرى .. وبعضهن لا يبكين على الاطلاق) .
لم افهم شيئا يا فاطمة من حديثها الا بعد سنوات طويلة عندما سمعت نشيج امك المر خلسة ذات مساء حزين .. عندها فقط فهمت الذى ارادت امى قوله فى ذلك المساء البعيد .

                       ****************************          
كانت امك قمرا اخضرا ينتصب فوق الضفتين دوما فى اعالى اشجار النخيل الفارعة .. يترك بصماته كيفما اتفق فى كل ركن وزاوية منى ومن حياتى الساكنة والصاخبة .. كنا ابناء عمومة واخدان طفولة .. صرخة ميلادى كانت قبلها ببضعة اشهر – كما قالت امى – اتت الى الدنيا تلهث خلفى منذ الميلاد الاول وظللنا هكذا .. ظلى يطارد ظلها وضحكتها تطاردنى .. تسلقنا اشجار النخيل سويا وسبحنا فى النيل سنينا حتى ما عاد ذلك ممكنا بفعل السنين وفوران الطبيعة البكر ... لهونا ليلا فى كل الكثبان الرملية فى ضؤ القمر مع الاقران لعبنا (شدت)  و (الرمة والحراس) ولعبة الاختفاء والاكتشاف(لبدت) .. حملنا مزقة الثوب القديم فى الدميرة واصطدنا اسماكا واوقدنا نارا من (العشعش) وأكلناها سويا .. حملنا مقاطفنا الصغيرة المصنوعة من جريد الصور الذى احضرناه للجدة بأيدينا وقطعناه بمناجلنا فى مواسم حصاد التمر وعبأناها بالرطب الاخضر المائل الى الصفرة والاخضر المائل الى الحمرة اللذان يعرفان محليا باسم (المغمول) و (اب رأس) وتسابقنا نحو مجلس القهوة حيث جدتنا (زينب) لنظفر بعبارات ثناءها الفريدة التى تجود بها قريحة قادرة على نظم الكلام شعرا بصورة مذهلة وحين نفرغ حمولتنا الصغيرة عندها تغسل التمر وتقدمه لجميع الرجال والنساء المتحلقين فى مجلسها الذى ينعقد عند الضحى وعند العصر قبيل الغروب كل يوم فى ذات المكان وذات الزمان حيث تدور اقداح الجبنة الصغيرة مع حبات التمر وتسكب الحبوبة القدح الاول الذى تسميه (البكرى) وتديره على الحاضرين الذين يكونوا قد تنسموا قبل ذلك رائحة البن عند قليه وهى عادة لا تتخلى عنها الحبوبة مهما يكن .. ثم يلى ذلك القدح الثانى المسمى (التنى) ثم القدح الثالث والاخير وهو المسمى (البركة) .. كان مجلس القهوة عبارة عن محطة اعلامية صغيرة يتم تبادل الاخبار السعيدة والحزينة والاراء فيها وحتى اللوم للحاضر والغائب .
كانت تربطنا جميعا بالجدة (حبوبة زينب) علاقة تشبه ما يربط بين الوردة المتفتحة وبين الغصن الذى يحملها الذى تغوص جذوره عميقا فى باطن الارض أما الوردة فتلعب بها الريح بقسوة ويحاصرها ذبول رث حتما . كانت الجدة هى الثابت النابت الذى يستطيع دائما الصمود فى وجه الرياح وكنا الوردة التى تتلاعب بها الريح قبل ان يقوى عودها وتمتلك القدرة على المقاومة والصمود .
كان لنشأة امك معنا فى البيت الكبير كما يسمونه حكاية مثيرة الفصول تجمعت فى ذاكرتى عبر السنين كقطع صغيرة متناثرة من الزجاج كانت تحوى بداخلها صورة ما او لوحة ما تناثرت مع تهشم الاطار واصبح عسيرا تجميعها من جديد كما كانت .. كان بطل الحكاية جدك والد امك يا فاطمة .. كان اول الاسئلة التى برزت امامى وانا صغير : لماذا يغيب عمى طويلا ؟؟ ولماذا يعم صمت ويسود سكون قلق عندما تجىء سيرته فى حضور جدى .. لماذا يختلسون النظرات الى جدى فى حذر ولماذا ينعقد جبين جدى حتى يداهمنى خوف ما ؟؟  كانت الاسئلة كثيرة وموجعة والصمت هو الاجابة الوحيدة .. (هل اغضب عمى جدى ياعائشة ؟؟) هكذا كنت اسأل امك ونحن لما نزال صغيرين فتهز كتفها وتقول فى هدؤ : (وما ادرانى ؟) ثم تستدرك وتستدير وتواجهنى : (لماذا تسأل هذا السؤال هل قال لك جدك شيئا ؟) .. كنت اركض بعيدا وابتلع اسئلتى واترك سؤالها بلا اجابة وانتظر حتى عودة جدتى فافرغ لديها جميع ما بى من حيرة واسئلة فتقول جدتى بعد صمت قصير : (مازلت صغيرا وليس بمقدورك ان تفهم هذا الامر ..) لكننى كنت الاحقها بالاسئلة (جدتى كيف يكون الرجل بذرة تالفة ؟) كانت تستدير فى دهشة وتقول لى : (من اين تأتى بهذا الكلام ؟ من قال لك ان عمك كذلك ؟) ادهشنى ما فى صوتها من غضب وتملكنى خوف من ان اكون قد اخطأت فقلت لها بعفوية : (سمعت جدى يقول ذلك) مسحت جدتى على شعرى بحنان وقالت بهدؤ : (جدك يقول الكثير عندما يكون غاضبا ، كل الرجال يفعلون هذا عندما يغضبون لكن الحقيقة ان عمك ليس بذرة تالفة وان جدك لا يعنى ما يقول.) اصمت قليلا واقول لها : (لماذا هو غاضب ؟) ضحكت جدتى حتى بدأ فمها الخاوى من الاسنان الا واحدة انتصبت فى الفراغ كمسافر وحيد فى الصحراء ثم قالت : (جدك يا صغيرى ككل الاباء يريد ان يخطو اولاده على الرمال مثلما يخطو .. يريد ان يحبوا ما يحب ويكرهوا ما يكره .. وينسى ان اصابع اليد الواحدة لا تتشابه ابدا ..) وقبل ان افتح فمى بسؤال اخر استدارت الجدة وتركتنى وحيدا مع اسئلتى .. اعطتنى ظهرا محنيا بدا لى ساعتها اكثر انحناء من ذى قبل وخيل الى ان ثمة شىء ما كان يترقرق فى عيونها الصغيرة قبل ان تشيح بوجهها عنى وتمضى ، كانت تلك اول مرة فى حياتى ارى فيها شخصا يبكى دون ان يضربه احد او يأخذ منه احد شيئا او يفقد عزيزا .
                    ********************

كانت دار عمى تقع امام دارنا من الناحية الشرقية باتجاه قضبان السكة حديد والصحراء وكان يفصل بينها وبين دار ابى كثيب من الرمال يزداد سمكا مع الايام وكانت امام الدار ثلاثة اشجار من الاشجار التى يحاكى عودها فى سواده قضبان السكة الحديدية وكانت الحجارة التى نرمى بها ثمار الدوم تزداد هى الاخرى مع الايام اسفل الشجيرات الثلاث التى كانت مربطا لكل الحمير التى يأتى بها ضيوف العائلة من اهل القرية والقرى المجاورة .. كانت الرمال تحاصر دار عمى من الجهات الاربع لكنها لسبب ما لا تجرؤ على دخول المساحة امام اشجار الدوم فبقيت تلك المساحة خالية من الرمال فى شكل دائرة صغيرة كأنها حدودا رسمت لمنع الاشتباك بين قوتين مدمرتين .. لكن الحصانة التى كانت متوافرة للدومات الثلاث لم تكن متوفرة لدار عمى التى كانت واقفة بمبانيها العتيقة من الطين الاخضر فى وسط اكوام الرمال كسفينة غارقة وعالقة فى وسط المحيط فلا هى تستطيع رجوعا للوراء ولا ذهابا الى الامام ، حتى الغرف الكبيرة كانت الرمال واقفة عند اعتابها كمن يهم بالدخول .
كانت الدار مهجورة صامتة فى اغلب الاوقات واكاد لا اتذكر الايام القلائل التى تموج فيها بالحركة عندما يأتى عمى .. نصحو فى الصباح فنجده يمشى بين الناس ولا نعرف متى اتى به القطار ولا من اين اتى .. كانت اسعد الايام فى حياة امك حين يجىء ابوها .. كانت تتعثر خلف قامته الفارعة صعودا وهبوطا فوق قيزان الرمال ولا تترك طرف ثوبه ابداكأنها تخشى ان يعاود الرحيل مجددا وحيث يجلس تتعلق بعنقه ولا تتركه حتى حين تنتهرها الجدة ، وكان هو يحبها حبا يفوق الوصف ويستعصى عليه ويجلب اليها فى كل مرة اكواما من الهدايا من الصعيد البعيد وتمتلىء اياديها الصغيرة بحبات الخرز الملونة الجميلة والعرائس زاهية الالوان فتمتلىء خدودها بالسعادة وعيونها الصغيرة بالفرحة وحين يأخذها بذراعيه القويتين ويرفعها الى الاعلى فينكشف ثغرها الباسم عن اسنان صغيرة بيضاء يضحك من الاعماق وهو يقبلها ويغدو طفلا كبيرا تترقرق فى عينيه دموع لا يبذل جهدا لكى يخفيها بل يتركها تسيل على اطراف لحيته الصغيرة الحليقة وعلى وجنتى امك فى ذات الوقت .. كنت اتسأءل عندها : (لماذا يرحل عنها وبدونها وهو يحبها كل هذا الحب ؟ لماذا لا يبقى هنا او يأخذها معه الى هناك ؟؟) .
لكننا كنا نصحو ذات صباح فلا نجد له اثرا الا فى دموع الصغيرة وصمتها .. يختفى العم كما جاء .. كالحلم .. كالطيف .. كسرابات الصيف اللاهب فوق كثبان رمال بعيدة .. يتبخر تماما .
كان لى نصيب وافر من هدايا عمى ومن اهتمامه حين يجىء فى زياراته القصيرة تلك .. كانت اجمل اوقاتى معه حين يحملنى على ظهره ويمخر بى فى عباب النهر كسفينة اسطورية او تمساح ضخم يحمل فريسة ما .. وحين يبلغ منتصف النهر ينزلنى بغتة من على ظهره فى الماء ويهتف بى بلهجة آمرة : (هيا اسبح .. الحق بى ..) يتركنى فى وسط النهر ويبتعد قليلا وهو يرقبنى بعينين كعيني الصقر .. اصرخ خوفا .. اضرب الماء بيدى الصغيرتين كيفما اتفق ميمما صوبه .. يبتعد عنى كلما اقتربت منه .. اعلو وانخفض وانا اضرب الماء فى خوف وانا اصرخ مستغيثا به وهو لا يجيبنى سوى بضحكة عالية صاخبة وبعض الكلمات الساخرة المملوءة بالتحدى .. اخجل من نفسى واضرب الموج بقوة وهو يسبح على ظهره فى اتجاه الضفة وانا الحق به .. الضفة تقترب .. وقواى تخور وخوفى يتبدد رويدا رويدا كلما لاحت الضفة ..هكذا علمنى السباحة رغم انفى .. وكنا حين نخرج من الماء فى خاتمة المطاف نجلس عند الضفة بانفاس لاهثة فياخذ عمى احجارا صغيرة ويرميها فى الماء ويظل يراقبها حتى ترتطم بسطح الماء بصوت مميز .. يرقب اندياح الماء فى مكان السقوط  ويقول : (هذا النهر غادر يا صغيرى ومن يريد ان يأمن غدره لابد ان يتعلم اسراره ولا بد ان يتعلم كيف يسبح وكيف يقاوم امواجه ..) ، ذات مرة صمت قليلا ثم اضاف وهو ينظر بعيدا عبر النهر كأنه يمتطيه بعينيه ويلجمه : (كان فى مثل عمرك حين اخذه النهر ..) قلت له وفضولى يشتعل : (من هو يا عمى ؟ من الذى اخذه النهر؟) لم يرد عمى على سؤالى واستدار ومضى صاعدا باتجاه القرية ومضيت اتعثر فى خطواتى وطعم الماء لا يزال بفمى وفضولى يبحث عمن يسد رمقه بلا طائل .
حين اقبل المساء ركضت صوب جدتى فنظرت الى طويلا .. كان وجهى يفضحنى امامها حين اكون ممتلئا بالاسئلة فضحكت جدتى وباغتتنى بالسؤال قائلة : (عم تريد ان تسأل ؟) رويت لها بانفاس لا هثة ما قاله عمى عند ضفة النهر فى الظهيرة وسألتها : (من الذى اخذه النهر يا جدتى؟ كيف اخذه ؟) صمتت الجدة طويلا كأنها لم تسمعنى – مثلما فعل عمى – ثم جاء صوتها فى لحظة ما خافتا بعيدا مظللا بحزن دفين : (كان ذلك تؤام عمك .. كانا صغيرين لا يفترقا ابدا حتى كان ذلك اليوم المشئوم .. تسللا فى هدؤ دون ان يعرف احد عند الفجر باتجاه النهر .. كان النهر يبدو هادئا ولطيفا .. كنت عند (المراح) احلب اغنامى حين سمعت ضحكاتهما الصافية تجلجل من ناحية النهر .. تعجبت وقلت فى سرى ياللشقاوة !! ثم انطلقت الصرخة كالعواء .. 
انزلق اناء اللبن من يدى وصرخت بأعلى صوتى وهرولت صوب النهر .. حين بلغت الضفة كانت صفحة النهر ساكنة وكان عمك وحده يصرخ كالمجنون .. يضرب الماء بيديه فى وجل وهو ينادى على تؤامه بحرقة ولا من مجيب .. كان النهر الغادر قد اخذ التؤام واخفاه بعيدا فى جوفه واسكت فى داخله الصراخ واخذ ينظر الينا فى بلاهة وعدم اكتراث وكأنه لم يفعل شيئا كأنه كا يحسدنا عليه ويتحين الفرصة لاخذه .. لم يظهر التؤام بعدها ابدا ولم تظهر له جثة كالذين يغرقون .. لا شىء .. كأنه لم يكن ابدا بين الاحياء .. انتشر الرجال على الضفتين على امتداد كل المنطقة .. ارسلوا من يتسقط اخبار الجثث التى يطرحها النيل على ضفاف القرى الواقعةعلى النيل .. لكنهم لم يعثروا على شىء ابدا .. كفوا عن البحث بعد جهود طويلة ومضنية غلبوا ان يكون تمساح ما وراء ذلك الاختفاء لأن من يستقرون فى جوف التماسيح وحدهم هم الذين لا تطفوا لهم جثة ابدا ، وحده عمك لم ييأس ابدا .. لم يترك ضفة النهر ابدا كان يتسلل كل يوم فى ذات الساعة عند الفجر الى الضفة وحين نهرول باحثين عنه نجده جاالسا فوق صخرة عند مدخل النهر وهو يرقب النهر فى صمت والمأقى تنحدر منها الدموع. 
                                    *****************

منذ ذلك اليوم تبدل عمك كثيرا ، سكتت ضحكته المشاغبة ولم تعد تشنف اذاننا عند الفجر وعند الظهيرة .. صار ميالا الى الانطواء صموتا .. هائما فى اصقاع بعيدة ، بات نومه قلقا متقطعا يصحو ويجلس متقرفصا على سريره .. يراقب النجوم البعيدة كأنه يناجيها .. كأنه يستودعها سرا ، وحين كنت افيق من النوم واجده فى هذه الحالة انهض وامسك رأسه الصغير بين يدى واقراء الفاتحة والمعوذات الثلاث ويدى على جبهته وهو مستسلم فى خنوع .. امسح على شعره بيدى .. اضمه الى صدرى واقول كلاما كثيرا وانا اجاهد حتى لا يتهدج صوتى او تسيل دموعى .. لا يرد على .. افلته حتى اتمكن من النظر فى وجهه .. يبدو كأنه لا يسمعنى وكأنه فى منطقة ما خارج الزمان والمكان .. ابدو كأننى احادث نفسى .. ثم يهمس لى بصوت خافت : (لقد رأيته يا امى !! كان مبتسما نفس الابتسامة وكان ينادينى بأسمى .. كان يحاول النهوض وكانت حورية البحر تتمسح باقدامه وتمنعه النهوض  لملاقاتى .. وحين ركضت نحوه اخذ يبتعد .. اقترب منه اكثر .. فيبتعد .. ازيد خطواتى .. فيسرع فى تقهقره حتى يختفى تماما .. نهضت .. لم يكن فى السماء سوى نجوم صامتة خرساء لا تجيب عن سؤالى .. ) تدفقت دموعى انهارا وهو يرتعش بين احضانى كمن فتكت به الحمى .. غيبته فى صدرى بحنو دافق وغبت فى نشيج مر وصوته فى اذنى كناقوس : (هل يغيب من يموت هكذا يا امى ؟؟ لا نراه ابدا .. هل ستغيبين انت ذات يوم هكذا  مثله تماما ؟؟) لم يكن لدى ما اقول له سوى النحيب المر .
                                   *****************
فى الظهيرة عندما كان جدك يسرج حماره متأهبا للمغادرة الى الحقل قلت له : (احوال الصغير لا تعجبنى .. فهو لم يفق بعد من هول الصدمة ولا ادرى متى يفيق .. انه فى حاجة الى .....) قاطعنى جدك بحزم وهدوء وهو يهمز حماره بالعصا : (لا تفسديه يامرأة .. انه رجل على كل حال وحزن الرجال لا يدوم طويلا ..) ومضى جدك فى حال سبيله كعادته عندما يريد اغلاق باب لا يحب ان يفتحه احد . ولكنه كان مخطئا .. كانت تلك احدى المرات القلائل التى اخطأ فيها جدك التقدير ، فحزن عمك دام طويلا .. طويلا جدا ، اكثر مما توقع جدك .. سكتت جدتى قليلا ، رشفت رشفة من فنجان القهوة الصغير وواصلت حكايتها قائلة : (اكثر الاشياء اثارة للدهشة كانت هى تلك العلاقة الغريبة التى نشأت بين عمك والنهر بعد ذلك .. كان الجميع يتوقع ان ينفر عمك من النهر ويهرب منه بعيدا ويخشاه او يكرهه .. لكن العكس تماما هو الذى حدث .. كان ثمة شىء غامض مجهول يشده اكثر الى النهر .. كان اما فى الضفة يرقب صفحة الماء الساكنة فى صمت واما فى عمق النهر يضرب صفحة الماء بقوة ومهارة كأنه ولد فى النهر .. كان يخيل الى دائما انه مسكون باعتقاد راسخ بأنه سيجد اخيه الغائب يوما ما هنالك فى الضفة ربما .. او فى وسط النهر .. او داخل موجة ما .. كان القلق ينهشنى وخوف غامض من عدم عودته من احدى رحلاته اليومية يملؤنى رعبا .. لذلك كنت اتسلل خلفه فى خفة واتوارى خلف نخلة ما وارقبه من على البعد فى اشفاق ووجل .. كان هو دائما يتخير الاوقات التى يخلو فيها النهر من الناس والمراكب الصغيرة ، وحين تداهمه مجموعة من الصبية والاقران وهو فى النهر يتسلل فى هدوء الى الضفة حيث يعتلى صخرته المعهودة ويجلس عليها ويراقبهم فى تكاسل كمن يراقب شجارا لا يعنيه طرفاه .. ولا يعود الى النهر الا حين تخلو الضفة من الجميع او تكاد .
                              **********************
صمتت جدتى قليلا .. انحدرت دمعتها برغمها والتمعت عيونها الصغيرة وهى تقول : (كان عمك مثلك كثير الاسئلة ليس لفضوله حد .. قلت له على سبيل المواساة ان تؤامه قد رحل الى دنيا اخرى جميلة لا دموع فيها ولا احزان ولا موت .. قلت له ان الصغار يذهبون الى الجنة حيث الملائكة لأنهم لا ذنوب لهم البتة .. صمت عمك قليلا ثم فاجأنى بسؤال كالقنبلة : (كيف يذهب الناس الى الدنيا الاخرى يا امى ؟ هل هى تحت قاع النهر ؟ ام انها هناك فى البعيد حيث يغيب القطار ويجىء .. سمعتهم يقولون ان القطار يذهب الى دنيا اخرى .. ) اسقط فى يدى .. اخذت افكر فى كيفية الخروج من هذا المأزق ... لم يخرجنى من حيرتى الا صوت جدك الذى كان قريبا حيث جاء امرا حاسما مغلقا لابواب الاسئلة (غدا تفهم .. حان موعد نومك .. كفاك اسئلة .. هيا ..) . لكن عمك لم يذهب برغم النبرة الآمرة .. نهض ونظر الى ابيه فى حيرة ثم نظر الى كالمستغيث والقى بسؤاله الثانى : (هل ترتدى الملائكة ثوبا ابيضا كاللبن يا امى؟ هل الحورية بيضاء كبياض اللبن وترتدى ثوبا ابيض .. ..  ) انتهره جدك قبل ان يكمل عبارته فمضى كسيفا الى مرقده ، لكنه لم يكف عن الاسئلة ابدا وكانت الاجابات لا تشبع جوعه ابدا فكل اجابة تولد مئات الاسئلة .. بعد تلك الاسئلة الموجعة اشترى جدك له جلبابا صغيرا وطاقية واردفه على ظهر حماره وسلمه الى شيخ (بليل) شيخ الخلوة عله يستطيع ان يلجم جواد فضوله الجامح ويقلل من الكوابيس المتكررة التى تفتك به وبنا وهكذا بدأت رحلة عمك فى الخلوة .. كان اصغر التلاميذ فهو لم يكن قد بلغ سن الخلوة بعد لكن جدك رأى فى الدفع به الى الخلوة مبكرا الحل الامثل للحيرة التى تفتك به ولاسئلته التى لا تنتهى وما يبعده عن النهر وذكريات اخيه .
                            *************************
هكذا شدتنى جدتى يا فاطمة الى عمى بألف خيط وخيط من الفضول والحب والتعاطف والاعجاب قبل ان تقع عيناى عليه وقبل ان يغدق على من فيض حنانه الوافر وبدأت ارسم له فى خيالى صورة غامضة لوجه مهيب لا تزال تلتمع فيه دموع الطفولة وعيون صغيرة تلتمع عند الغضب وعند الفرح فتمسى واسعة عميقة كعينى جدى .
كنت اتخيله تارة طويلا ضخم الجثة عريض المنكبين تتدلى قدماه حتى تبلغا الارض حين يكون ممتطيا حمارا .. كذلك كان جدى – لذلك كنت اشفق دائما على حماره وتبدو عيون الحمار لى حزينة دامعة كأنه يشكو حمله الثقيل الذى لا يتناسب مع بنيته النحيلةالضامرة .. تارة اخرى كان عمى يبدو فى خيالى ضئيل الجسم قصيرا كجدتى .. وتارة ثالثة كنت اراه مزيجا من الاثنين ضئيلا فارع القوام متهدل الكتفين ، وحين سمعت جدتى ذات مرة تنظر الى امك وتقول عنها انها اخذت من ابيها طوله الفارع ومن امها امتلاءها ادركت حينئذ انه كان مزيجا من الجدة والجد .
كنت مشحونا بصور عديدة وحكايات مثيرة عنه الى حد اننى عندما رأيته لاول مرة فى حياتى تعرفت عليه دون كبير عناء ودون ان يدلنى عليه احد .. اتذكر ذلك جيدا كأنها البارحة .. ذات يوم توقف القطار عندنا قبيل الغروب خلافا للعادة المستقرة فقد كان يأتى دائما عند الفجر او عند الظهيرة .. لكننا ركضنا بإزاء  القضبان يكسونا غبار وبقع زيت صغيرة على خدودناوملابسنا تلتمع معلنة هوية افطارنا الذي كان اقراصا ساخنة من السنبوسة المبللة بالسمن وكثير من السكر .. كعادة الصبية فى القرية تركنا ما بأيدينا على عجل مع صافرة القطار وبروز مقدمته وهو يتلوى كثعبان فى منطقة خور أمور .. ركض بعضنا وهو لما يزال يلعق يده بفمه ويمسك باليد الاخرى طرف جلبابه حتى لا يتعثر .. كنا نسابق القطار الذى تخفت سرعته عند الدخول ونفتخر بأننا بلغنا المحطة معه فى ذات الوقت .. كنا نسابق القطار فضولا واشياء اخرى .. يومها تسارعت دقات قلبى بسرعة شديدة عندما وقعت عينى على ذلك الغريب الفارع الطول الذى اقبل من اتجاه المحطة يسير الهوينى باتجاه الديار .. فى اليد اليمنى حقيبة متوسطة الحجم وباليسرى اخرى اصغر حجما كان يرتدى زى اهل المدن وعلى وجهه الذى لوحته الشمس وعلاه غبار يبدو التعب والارهاق واضحين ، قلبى حدثنى بأنه هو .. هو عمى دون سواه ، دون ان اقول له شيئا ركضت عائدا صوب جدتى وحين قلت لها بانفاس لاهثة وصوت متدفق بالحماس ان عمى قد جاء – ضحكت جدتى وقالت لى :- (ما ادراك انه هو ؟ كيف تعرفه وانت لم تره ابدا ؟) قلت لها بأصرار : (اعرف انه هو .. اعرف يا جدتى .) وحين تحلقنا جميعنا حول القادم فى ذلك المساء كانت جدتى تمسح على شعرى بحنان وتضحك وتقول وهى تهز رأسها تعجبا : (حقا الدم يحن الى بعضه .. صدق من قال ذلك ..) كان عمى يبتسم وهو يقربنى اليه ويدفن انفه فى شعرى كأنه يشمه .. كنت البطل المتوج لتلك الليلة وكان ذلك لقائى الحقيقى الاول بعمى وكان صوت جدتى يهدر فى داخلى وانا انظر الى عمى الصموت الهادىء كأننى انظر الى قادم من المريخ .كانت ايام عمك فى الخلوة اياما صعيبة جدا .. لم يكن راضيا عن وضعه الجديد وعبر الطفل العنيد عن ذلك الرفض بشتى الطرق والاساليب ، فكان احيانا يتسلل خلسة من الخلوة ويمضى نحو النهر .. يقضى سحابة نهاره وحيدا ثم يعود الى الدار فى وقت اوبة الاقران من الخلوة كأنه قادم منها للتو .. وحين اكتشف جدك الامر ثار ثورة عارمة واقتطع سوطا من جريد النخل وانهال به على الصغير فى قسوة والصغير ينظر اليه فى صمت وثبات وكأن الجسد الذى تهوى عليه ضربات ابيه جسدا اخرا لا ينتمى اليه .. كانه يتفرج على مشهد لا يعنيه فى شىء .. وتكرر الهروب من الخلوة وتكرر مشهد الجلد ، كنت اصرخ فى جدك صباح مساء : (دعه .. دعه حتى يقضى الله امرا كان مفعولا .. القسوة لن تفيدك ولن تفيده .. لن تكسب شيئا سوى الكراهية وما ابشع الكراهية حين تنتصب بين اب وابنه ..ألست مؤمنا يارجل ؟) ، كان جدك يهدر فى وجهى فى غيظ كظيم : (لم يفسده شىء سوى دلالك الزائد يا امرأة.. اللعنة على تربية النساء .) ، تملكنى الغضب فنظرت اليه طويلا وغالبنى دمعى المنهمر وصرخت فى وجهه للمرة الاولى ربما (عندما تصحو ذات صباح ولا تجده فى الدار ولا اى مكان لا تسألنى لماذا ذهب واين ذهب !! الا يكفينا فقدنا من اخذه النهر؟ اليس فى قلبك رحمة يارجل ؟؟) شحب وجه جدك فجأة .. توقفت الكلمات فى حلقه .. توقفت يده الممسكة بالجريدة السوط فى الهواء .. لم تقو على مواصلة رحلتها صوب ظهر الصغير .. نظر جدك الى فى حيرة .. بدأ لوهلة كأنه يريد ان يقول شيئا ثم آثر الصمت .. استدار ومضى متدثرا بصمته دون ان ينبس بكلمة واحدة .. وفى تلك الليلة لم ينم جدك فى الدار .. اخرج سريره بنفسه الى الهواء الطلق امام استراحة الغرباء الصغيرة التى تقع خارج الدار تماما .. وحين طال رقاده دون ان يبدى ما يشير الى انه سيعود ايقنت انه اختار الاحتجاج صمتا والعزلة سلاحا .. عندها اعددت عشائه الذى يحبه .. وحين حملته اليه لم يستدر لمواجهتى .. اولانى ظهره وصمتا ناطقا .. تلكأت قليلا عساه يقول شيئا او ينهى احتجاجه وحين ايقنت ان الامر تجاوز نقطة اللاعودة مضيت فى حال سبيلى تاركة كل شىء على حاله .. وحين عدت بعد شروق شمس اليوم التالى كان العشاء حيث تركته البارحة لم يمس .. كان وقع ذلك على قلبى ثقيلا فجدك لا يفعل ذلك الا اذا كان غاضبا او حائرا ..
وتتابعت الايام بعد ذلك اليوم ثقيلة على القلب بطيئة الخطى كأنها لن تنقضى ابدا .. كان الامر اشبه  بكابوس فظيع جثم على صدورنا جميعا فى ذات الساعة ورفض المغادرة .. كان الصمت هو وشم تلك الايام وخاتمها .. كنت صامتة وكذلك جدك وعمك .. كنا الثلاثة نحاكى فى صمتنا الظلال وهى تتنقل فى خفة دون صوت او وقع خطوات .. وكانت الدنيا حولنا تموج بالحياة والحركة كأننا المحور الثابت والاخرين التروس المتحركة .. قلت للصغير على اهون عليه (لا تصدق هذه القسوة والصرامة البادية فى وجه ابيك .. ان ذلك من فرط حبه واشفاقه عليك ليس الا .. انها رغبته الجارفة فى ان يراك الافضل بين اقرانك هى التى تجعله يأخذك بكل هذه الشدة .. انت لا تعرفه مثلى ..) ، كانت الاجواء متوترة غاية التوتر وكنت انتظر معجزة ما تأخذنا من هذه الاجواء القاتمة الى ايام افضل  .. وبالفعل حدثت المعجزة كما يحدث مع عمك دائما ، انقلب الضدان صديقان حميمان ، فجأة وبلا مقدمات ولا اسباب ظاهرة تبدل نفوره من الخلوة وشيخها الى حب جارف وتعلق عميق وأظهر تفوقا ونبوغا دفعا بشيخ (بليل) الى ان يبتدر الحديث ويختمه فى معرض حديثه عن مأثر خلاويه وكراماته بحكاية العم والانقلاب الذى حدث له ، بدا لنا ان الدنيا قد ابتسمت لنا اخيرا ، فعادت الى جدك طبيعته المرحة بعد صمت طويل وعاد الى الدار هدوئها بعد توتر واندفع عمك فى حماس نحو عالمه الجديد وان لم يؤثر ذلك االحماس على علاقته الوطيدة بالنهر وبالصخرة المعهودة وكانت تربطه بابيك علاقة حميمة متناقضة فقد كان يحب ابيك حبا لا حدود له لكنه فى ذات الوقت يكره نمط الحياة الذى يستهوى ابيك ، فقد كان ابيك مزارعا بالفطرة يعشق الارض ولا يفارقها من مشرق الشمس الى مغيبها . يجيئها مسرعا باسما فى نهار الصيف الحار وفى ليالى الشتاء الباردة .. كان دائما هنالك يحرث ارضا او يفتح جدولا لينساب الماء الى ارض عطشى او يغلق جدولا اخرا .. وكانت اقدامه دائما حافية متشققة وكان جلبابه المصنوع من قماش الدمورية دائما ملطخا ببقع الزيوت والطين من جراء ساعات العمل الطويلة التى ينفقها كل يوم فى اصلاح وابور المياه .. كان يذكرنى دوما بشباب جدك فقد كان صورة طبق الاصل منه فى كل شىء .. المشية .. النبرات الواثقة... حتى فى بواكير الطفولة كان يتحدث كرجل ناضج ولا يقبل المجادلة ...
بالرغم من ان ابيك كان الاصغر سنا الا ان مكانته عند ابيه كانت هى الاولى دائما فقد كان جدك يرى فيه امتدادا له فى كل شىء ، اما عمك فقد كان ينظر الى الامر من زاوية مختلفة تماما عن ابيه واخيه ، كان يجلس عند حافة الجدول الصغير فى الحقل يراقب اخاه وهو يتصبب عرقا ويقول له : - (هذه الارض اللعينة كم تأخذ وكم تعطى؟ الى متى تبقى كالثور فى الساقية تدور وتدور ولا تجنى منها شيئا سوى الاوجاع والشيخوخة المبكرة والكفاف ؟؟ ) يضحك ابوك بخبث المزارعين اللطيف ويرد عليه  قائلا : - (من يسمعك تتحدث هكذا لن يصدق ان يدك لم  تمسك بطورية ابدا !! ثم ماذا تريد ان تفعل ؟؟ هل تريد ا تصبح رئيسا للوزارة ام حكيما ؟ ربما تكون ملابس الحكيم البيضاء النظيفة لائقة عليك اكثر من عراقى الدمورية الذى نلبسه ابا عن جد !! ) . كان عمك يبتلع سخرية اخيه المريرة فى هدؤ ولا يزيد عن قوله :- (انا اعرف ما اريد وسترى ..) ، كنا ننفجر ضاحكين عندها فلم يكن قد تجاوز الثانية عشرة عندما كان يقول ذلك ولكن الحقيقة التى يجب ان تقال انه بالرغم من نفوره من الزراعة ومشقتها كان يحب اخاه حبا جما ويرى فيه مثالا نادرا للرجولة والعطاء ويكبر فيه همته العالية وقدرته على تذليل العقبات واحالة اليباس الى خضرة ممتدة يقضيان فيها سحابة النهار يتعاونان على طرد الطيور والحيوانات الاليفة عن الزراعة حتى يحين اوان الحصاد وبعد الحصاد يتناوبان فى نقل المحاصيل الى مخازن التجار او منازل الاهل المقربين الذين اعتاد الجد ان يخصهم بنصيب من كل حصاد مودة واحسانا وتقربا الى الله ليبارك فيما اعطى ، قال لى عمك ذات مرة وهو ساهم فى البعيد : (اتمنى كثيرا يا امى ان اكون مثل اخى (صالح) وان اتمثله فى كل خطوة وعمل .. ولكننى ادرك فى اعماقى اننى لم اولد لاكون مثله او مثل ابى .. فانا لم اولد لاعيش ذات الحياة فى ذات المكان وبذات الكيفية وادفن هنا .. ثمة شىء غامض الملامح يشدنى بعيدا عن هذا المكان .. شىء ما يقول لى ان نصفا منى بقى هنا مرة واحدة والى الابد ونصفا اخر يحلق بجناحيه بعيدا .. بعيدا نحو المجهول ..) . كان وجهه الصغير ملتمعا بوهج غريب وهو يتحدث كأنه كان قد اجتاز بوابة الزمن وهتك استار المستقبل ورأى حياته المقبلة كلها أمام ناظريه فى تلك اللحظة تتبدى له حزينة وشاحبة .. بعيدة ونائية ، تذكرت عندها دون ان ادرى السبب نبوءة امى فى اواخر ايام حياتها الطويلة الحافلة حين كانت تنظر الى البنات وهن يعدن من المدارس والاحفاد الذين يأتون من المدن البعيدة فى العطلات وتتذمر منهم ومن طريقة ابائهم فى التعامل معهم وسكوتهم على كل ما تعتبره كبائرا ، كانت تتبرم علنا وتقول (هذا هو اخر الزمن .. غدا يأتى زمن تجلس فيه المرأة فى مجالس الرجال وتنهر ابيها ويرفض الصبية ركوب الحمير وحش القش .. حمدا لله اننى لن اشهد ذلك الزمن .) ، وصدقت النبؤة جزئيا حيث رحلت امى بعد ذلك بوقت قصير وهى عائدة على ظهر حمارها وبيدها منجل ومعها حزم القش التى جلبتها لاغنامها للمرة الاخيرة فى حياتها فى ذلك اليوم .

  





حكايات طه والعمدة
كانت قصة طه ابو ضراع مع العمدة فصلا مهما فى حياة عمك فقد جاءنى ذات يوم راكضا وهو يتعثر ووجهه طافح بالسعادة وشرع يروى لى بأنفاس لا هثة متلاحقة الحدث الذى ظل حديث اهل القرية لزمن طويل .. كان العمدة وبعض معاونيه من اعيان القرية قد بدأوا بايعاز من الحكومة اعادة توزيع بعض الاراضى للاهالى .. سار الامر فى البداية بصورة عادية دون اية عقبات .. حتى كان ذلك اليوم ، شرع العمدة ورجاله فى قياس الارض بما يعرف بالضرعة البلدية ، ووضع بعض العلامات ومن ثم تقسيم الارض بناء على ذلك .. سار كل شىء فى هدوء حتى بلغوا ارضا فى وسط البلدة حينها اتاهم طه ود العبيد ثائرا وهو يحمل عصاه فى يده ويمتشق سكينا فى ضراعه والشرر يتطاير من عيونه وامسك بالرجل الذى كان يقوم بالقياس ودفعه بعيدا حتى انكفأ على ظهره ورسم (طه) خطا على الارض بعصاه واقسم ايمانا غليظة بأن من يتعدى ذلك الخط هالك لا محالة وأن ارض جده واهله لن تقسم على الغرباء الا وهو جثة هامدة ... ساد الصمت وبدأ الجميع كأن على رؤوسهم الطير ، تحامل القياس على نفسه ونهض وانسحب بهدوء ووقف خلف العمدة كأنه يحتمى به ... ساد وجوم قصير .. تركزت عيون الحاضرين على وجه العمدة الذى شحب لبرهة قصيرة ثم بدأ عليه الهدوء كعادته حين يبلغ به الغضب مداه ، وانتقلت العيون الى وجه (طه ود العبيد) ونظراته الممتلئة بالتحدى والتحفز ، ثم نطق العمدة اخيرا وبدأ صوته مرهقا وباردا وهو يقول : - (اوقفوا كل شىء ان الامر صار شخصيا بينى وبين طه ) . وصمت العمدة لبرهة قصيرة ثم نظر الى (طه) وقال له بهدوء :- (غدا صباحا تأتى الى الديوان .  ) ثم استدار ومضى فى هدوء يتبعه رجاله فى مسكنة .لم تنم القرية ليلتها تلك وسهرت فى انتظار الصباح وما ستسفر عنه مقابلة (طه) للعمدة .. انقسمت القرية الى فريقين ، فريق لم يخف تعاطفه مع (طه) واعجابه بشجاعته مؤكدا احقية (طه) وأهله بالارض التى شهدتها المشكلة ، وفريق آخر ناقم على (طه) ورافض لاسلوب تعامله مع العمدة ومتندر بما سيوقع عليه من جزاء صارم لتطاوله ، وقيل فيما قيل ان بعض العقلاء من اهل (طه) شوهدوا وهم ذاهبون الى منزل العمدة للاعتذار عن فعلة (طه) وتهدئة غضب العمدة ... بينما قال اخرون ان من ذهب من اهل (طه) الى العمدة انما ذهبوا محتجين ومؤازرين ل (طه) فى موقفه . كان عمك من الفريق الاول الذى رأى فى موقف (طه) بطولة خارقة لم تعهدها القرية وتمردا تاقت اليه نفوسهم سرا منذ زمن بعيد ..
في ديوان العمدة الخبر اليقين
وما ان اشرقت الشمس الا وكانت القرية بأسرها تهرع صوب دار العمدة .. النسوة اخترعن الاسباب والاعذار وتركن ما فى ايديهن ويممن صوب دار العمدة ، الرجال اداروا رؤوس حميرهم من طريق السوق والحقول الى دار العمدة والذين استطاعوا صبرا رابطوا فى البيوت او الحقول وارسلوا الاطفال ليأتوهم من دار العمدة بالخبر اليقين ... اقسم (عبد الله ود امنة) الشهيربانه اعتاد نقل الحديث مزوقا ومضافا اليه كما يشاء ، اقسم انه رأى (طه) يخرج من داره فى كامل عتاده الحربى مرتديا خوذة ودرعا من الحديد كجنود جيش النصارى وممتشقا سيفا طوله ثلاثة امتار والشمس تلتمع عند حافته حتى تحجب الرؤية ...
وقالت (نفيسة) الوداعية للنسوة فى مجلس القهوة وهى تنظر الى ودعة مقلوبة : (سجمى المركب المقلوب ده مركب منو ؟ الحصان الليلة راجع بدون سيدو يا نفيسة ..) لا تزيد على تلك العبارات المبهمة شيئا وتترك خيالات النسوة تذهب فى تفسير قولها مذاهب شتى ، وحين يحاصرنها بالاسئلة تأخذ ودعها من على الارض تطلب منهن بياضا جديدا .. تدس قطع النقود المعدنية فى طرف ثوبها وتسوى الرمال ثم ترص ودعها بطريقة ماكرة وتتمتم بكلمات مبهمة تلهب بها خيالات النسوة وهى تحمد الله فى سرها وتثنى على (طه) الذى حرك السكون وانعش سوقها الراكد.
                      ***************************

فى المقهى الذى اكتظ بالناس فى ذلك الصباح على غير العادة كان الراديو العتيق مغلقا والنقاش على اشده حول موضوع الساعة ... قهقه (عبد الجبار) وقال :- (العمدة الليلة لقى السم القدروا طول عمرو طايح فى العباد مافى زول قادر يقول ليهو حاجة .. الليلة وقع مع اولاد العبيد .. ما لقالوا زولا هوين مثلى مقطوع من شجرة وما عندو وجيع .. اطروا كلامى القلتوا ليكم زمان .. الزمن ببرد غبينتى وباكر تقولوا (العبد) قال .. الليلة ببين (العبد) منو (والحر) منو !! ) تهامس البعض فى اخر المقهى بأن بعض العقلاء نصحوا العمدة  بعدم الدخول فى مواجهة مع اولاد العبيد لأن اخر ما تحتاجه البلد هو مشكلة يكون اولاد العبيد طرفا فيها .
                     ***************************

كان ديوان العمدة وداره مكتظين على امتدادهما حين دخل (طه ود العبيد) بجلباب ابيض وعمامة صغيرة وفى معيته اثنان من ابناء عمه وكبير اسرته فى هدوءكأنهم داخلين الى دارعرس او مأدبة او دارعزاء ، سلموا على الحاضرين وحين تقدم العمدة واعوانه لمصافحتهم اكتفوا بمصافحة الايدى دون مظاهر ود زائدة وجلسوا قبل ان يجلس المضيف .. الذى بدأ مرتبكا ومحرجا ثم جلس اخيرا ، وبدأ العمدة الحديث وباقتضاب شديد اكتفى بتأنيب (طه) على طريقته فى الاعتراض قائلا انه يتغاضى عنها احتراما لاشياء عديدة تربطه باسرة (طه) واعلن بعبارة مختصرة ان ارض (طه) لا يشملها التقسيم ، كان العمدة يتحدث ببطء وهو يتفحص الوجوه بحثا عن شىء ما .. تختفى نظرة الشماتة من الوجوه سريعا ويرتسم تعبير جامد مكانها عند الالتقاء بعين العمدة وسرعان ما تعود السخرية . ويسود صمت ناطق وبعد لحظات بدت دهرا انفض سامر المجتمعين والهمس يشتد اكثر مما كان ، وصوت (عبد الجبار) يحلق فى المكان ويحمله الصدى :- ( الليلة يتعرف (الحر) من (العبد) .... الليلة ..) 

                   *****************************

منذ ذلك اليوم صار اسم (طه ود العبيد) هو (طه ابو ضراع) ومنذ ذلك اليوم نشأت بينه وبين عمك صداقة قوية برغم أن (طه) كان يكبره بأعوام عديدة .
كانت علاقة عمك بالقرية او البلد كما اعتدنا تسميتها علاقة شائكة وبالغة التعقيد – فقد كان بينه وبينها ودا مفقودا وفى ذات الوقت يشده اليها حنين دافق وارتباط عميق ، كان يريد دائما التحليق بعيدا عنها ولكنه كان فى ذات الوقت مشدودا بألاف الخيوط والحبال السرية اليها ، كنت حين انظر الى السنين التى انصرمت وغابت بعيدا فى ظلام الذكريات لابحث عن كيف ومتى حدث ذلك تستعصى الاجابة واعود دائما الى السؤال ذاته خاوية الوفاض .. احيانا كنت اقول لنفسى ان ذلك الجفاء بين عمك والقرية بدأ فى ذلك الفجر الحزين الذى اخذ فيه النهر تؤامه وبدأ شعور بالذنب عما حدث يطوقه فسمم علاقته بالمكان بحيث اصبحت القرية كابوسا ظل عمره كله يركض للنأى بعيدا عنه ، ولكن سرعان ما يتبدد ذلك الخاطر وتلك الفكرة حينما تلتمع فى ذاكرتى السنوات التى اعقبت ذلك الفجر الحزين .. هرولته الى الخلوة وعودته منها وهو مملوء بالحياة والحماسة .. الساعات الطويلة التى كان يقضيها فى ضفة النهر وفى اعماقه وفى الحقول مع اخيه (صالح) ، ثم رحلاته المتكررة مع (طه ابو ضراع) عند الفجر على ظهر مركب الدوم الصغيرة لصيد الاسماك .. ضحكاته المجلجلة فوق قيزان الرمال الذهبية اللون عندما ينعكس عليها القمر فى لحظات السمر مع الاقران وبحثهم عن (شليل) الذى اكله التمساح و (الرمة والحراس) وغيرها من الالعاب .. تارة اخرى اقول لنفسى ربما حدث ذلك الجفاء يوم ان زوجه جدك ولم يترك له مجالا لاختيار العروس او ميقات الزواج او دار الزوجية .. اقول لنفسى لربما اخطأنا عندها .. لربما كان على ان اكون اكثر ايجابية واتصدى لجدك وتسلطه .. لربما كان على ان ارد على نظرات ابنى المستغيثة بى بأكثر من مجرد الابتسامة والكلمات الكبيرة عن وجوب اطاعة الكبار وعن انتظارى لهذا اليوم كما قلت له حين طلب منى ردع ابيه عن اجباره على زواج لا يرغب فيه . ربما كانت تلك الطريقة التى سارت بها الاحداث فى حياته فجعلتها تبدو فى ناظريه حياة لا يملكها ولا ينتمى اليها هى التى زرعت بذرة الحنين الى الرحيل الى عوالم اخرى وضفاف اخرى ، تلك البذرة التى سكنته ولم تفارقه بعدها ابدا نحن من غرسها وسوى تربتها ورواها حتى صارت شجرة ادمت اشواكها ايدينا اول ما ادمت . وعندما يطول تأنيبى لنفسى بلا طائل كنت اقول فى سرى لربما كان جدك محقا يا صغيرى ، لعله ادرك بحدسه المرهف وقدرته الفائقة على التنبوء بما يعتمل فى دواخل ابنه من نفور من حياتنا الساكنة واراد ان يشده اليها برباط لا فكاك منه عملا بحكمة قديمة تقول الزمن كفيل بكل شىء .
كان عمك وجدك على طرفى نقيض دائما ، خطان متوازيان لا مجال لالتقائهما على شىء ابدا ، القاسم الوحيد المشترك بينهما عو عناد طبع كل منهما بطابعه وكان قدرى ان اكون نقطة صغيرة فى المنتصف تحاول جاهدة ان تردم الفراغ بين الخطين المتوازيين عساها ان تتمكن من صنع قنطرة ما بينهما ، لكننى كنت اوهى من ان استطيع تحقيق ذلك المطلب العسير وكانت الاحداث دائما اقوى من كل رغباتى واحلامى فى ردم الفراغ .. كان البركان الخامد منذ الاف السنين قد بدأ فورانه وكان قدرى ان اكون شاهدة على انفجاره .
كانت الريح التى تجتاح عمك وتزلزل سكينته اقوى من تلك الطمأنينة الى تدثر بها جدك طوال حياته واقوى من ايمانه العميق بأن حياة اى رجل تجتاحها فى وقت ما عاصفة ما فتزرع الفوضى فى كل اركانها ردحا من الزمن قد يطول وقد يقصر ، تسقط بعض الاشجار نتيجة للعاصفة وتزداد كثبان الرمال كثافة فى موضع ما وترحل تماما عن موقع اخر وتستبين تربته الطينية وتمسى ارضا يبابا وسط اكوام الرمال كشعيرات قليلة فى رأس اصلع ، لكن العاصفة سرعان ما تهدأ وتنداح بغتة وكما جاءت من المجهول اليه تعود وتعود الى الكون سيرته الاولى والى الرجل هدوئه وطمأنينته وايقاعه الاليف مضافا اليه حكمة وحنكة لم تكونا من صفاته قبل تلك العاصفة .ولهذا السبب ربما لم يكن جدك منزعجا فى البدء انزعاجا حقيقيا من ميول ابنه البادية ونفوره من حياتنا الساكنة المتشابهة الايام والفصول ، ولعل صدمة جدك كانت اكبر من غيره لهذا السبب ، لعل ذلك الغضب الذى يرتسم على وجهه الممتلىء بالاخاديد وتلك الصرامة التى تعلوه يرجعان بالدرجة الاولى الى خيبة امل كبرى زعزعت سكينته وبددت ايمانا عميقا بقدرته فى الحكم على الناس والاشياء حكما صائبا ودقيقا ، لذلك كله كانت ردة فعل الجد عنيفة جدا حين افصحت له الايام عما كانت تخبئه له وحين اصطدم بأبنه للمرة الاولى. اتذكر ذلك يا صغيرى كأنه حدث البارحة .. كان يوما فاصلا بين عهدين وبين حياتين ، وكان يوما تؤرخ به القرية واهلها كما يؤرخون لحياتهم بسنوات الفيضانات الخطيرة وتواريخ غرس الاشجار العزيزة على قلوبهم ، كان بالقرية فى ذلك اليوم حفل عرس تحدث عنه الناس طويلا قبل حلول اجله وبعد انفضاضه وارتبطت به احداث حددت اشياء كثيرة فى حياتنا وفى حياة عمك ، كان ذلك العرس هو عرس (طه ابو ضراع) صديق عمك الاثير ، كان (طه) على طبعه المشاكس وتحدياته العديدة ومعاركه التى لم يسلم منها حتى بعض اقاربه الذين نازعوه فى ميراث مشترك فانبرى لهم بلسان عرف الناس عنه سلاطته وقسوته عند اللزوم، فاجتنبوه صغارا وكبارا ، وزاد (طه) فى حديث لسانه حتى انقلب الامر شجارا داميا بين فريقين جلب الى القرية الساكنة لأول مرة كوامر الحكومة المتهالكة التى جاءت من الدامر على اثر بلاغ من العمدة الذى لم يخف فرحته وهو يرى غرماء الامس يمسك كل منهم بتلابيب اخيه ويسيل دمه ، جاس العسكر اطراف القرية بحثا عن اطراف الشجار وابطاله وعند الظهيرة غادرت العربتان القرية محملتين بطه وابناء عمومته المتحاربين الى جانبه ، واعقبت ذلك رحلات طويلة متكررة من المركز واليه من الطرفين ليعود الناس فى كل مرة بقصص مثيرة عن تطورات المحاكم التى شغلتهم زمنا حتى بعد ان انتهى الامر برمته بعد مجالس صلح عديدة اجتمعت وانفضت فى مواقع متعددة من البلدة . برغم ذلك كله كان (طه) محبوبا من الجميع حبا تخالطه رهبة واحترام لم يحظ بهما العمدة فى قمة سطوته ، ربما كان السبب فى ذلك ما التمسه الناس فيه من طيب المعشر وقلب صاف لا ينطوى على ضغينة وهمة عالية وعدم سكوت على كل ما يمثل له جورا او ظلما ، ربما احبوه لأنه استطاع دائما ان يفعل ما عجزوا عن فعله او تهيبوه كان كل اب فى القرية يتمناه صهرا له وكانت الفتيات يتغنين فى بيوت الافراح خلسة بأسمه وبحكاياته التى لا تنتهى والتى تخالط الحقيقة فيها الكثير من الخيالات والاحلام الخاصة بالرواة فاستحال الفتى الريفى الامى النحيل  بفضل تلك الحكايات والاهازيج الى اسطورة غامضة تنسب اليها افعال هى اقرب الى المعجزات ، من ذلك قصة يرويها الرواة مفادها ان اقاربه حين يئسوا من قدرتهم ردعه استأجروا مجموعة من الاشرار مفتولى العضلات ليقوموا بتلقين (طه) درسا قاسيا واختاروا افضل الاوقات والامكنة لتنفيذ مخططهم وهى تلك الساعة التى يأتى فيها (طه) عائدا من منزل (فطومة) بائعة الخمور البلدية الذى يقع فى قرية اخرى تبعد عن قريتنا مسيرة عدة ساعات بالحمار، كمنت المجموعة لطه فى الطريق وقد تسلحوا بعصى غليظة وعضلات مفتولة وقدرة لا حدود لها على الايذاء بمقابل او بدونه ، وحين لاح لهم من على البعد حمار (طه) يتهادى فى الطريق وسمعوا صوتا غليظا يتغنى بكلمات غير متسقة تقول ان النبى شباك معلق فى سراية ، ثم يتغير الصوت الغليظ فيمسى رقيقا وهو يغنى (نشرب سكسكوتنا .. هق .. ونتونس مع بنوتنا .. هق .. فوق النار يقد شرموطنا .. ونحن الجنة وين بتفوتنا .. هق ..) عندها سرت رجفة خفيفة فى نفوس الاشرار ولكنهم تمالكوا انفسهم وتقدموا الى وسط الطريق فسدوه باجسادهم الضخمة واشاروا على (طه) بالنزول عن حماره ، نظر (طه) اليهم وقفز عن صهوة حماره كما يقفز فارس عن صهوة جواد ، بدا وهو يستوى واقفا وعصاه الغليظة فى يده كأنه مارد من الجن وكأنه شخصا اخر بخلاف الذىكان قبل قليل يتغنى على ظهر الحمار ، سرت قشعريرة وسط الرجال الاربعة ، وفى لحظة كان (طه) وسطهم تماما وقد صاروا ثلاثة قبل ان يمسوا شعرة من رأسه كان قد اسقط اولهم صريعا بضربة واحدة على ام رأسه وفى اللحظة التالية كان يحمل الثانى فى الهواء كأنه يحمل كرة من الماء وحين رماه فوق اخيه وسقطا معا واهوى عليهما بعصاه كان الرابع يركض شرقا باتجاه الصحراء بعد ان القى عصاه ولم يعد بعدها ابدا ، وحين كان الظلام قد ارخى سدوله دخل (طه) القرية مشيا على الاقدام وهو يحمل اثنين من غرمائه الاربعةعلى ظهر حماره والقاهم امام عتبة دار ابناء عمومته ومضى فى حال سبيله الى داره كأن شيئا لم يكن ، لذلك كله كان عرس ((طه)) حدثا غير عادى ، كان حدثا انتظره الناس طويلا ونسجوا حوله اطنانا من الحكايات والتكهنات ولكن ما لم يتوقعه احد ابدا هو ان يكون ذلك العرس وتلك الليلة وما حدث فيها من احداث هو القشة التى قصمت ظهر البعير بين عمك وابيه مرة واحدة والى الابد.

مع اولى تباشير الفجر ونسماته فى ذلك اليوم غادر عمك مرقده ، توضأ سريعا وادى صلاته على عجل باد ولحق بى امام موقد النار .. قرب يديه من النار وفركها حتى يأخذ قليلا من الدفء ثم رشف كوب الشاى باللبن على عجل وهرول صوب دار (طه ابو ضراع) ، قالوا لى فيما بعد ان عمك وحده هو الذى ذبح الثيران الثلاثة التى ذبحت فى العرس وأنه حمل على اكتافه (جوز الماء) المكون من صفيحتين من الالمونيوم تتوسطهما عصا خشبية تربط بينهما ليسهل حمل الماء بهما من النهر الى ازيار الماء الفخارية مرات عديدة فى ذلك اليوم من النهار الى الدار ، وكان نشاطه الوافر فى يوم زواج صديقه باديا وملفتا حتى قال شيوخ القرية وهم ينظرون اليه ( والله لو كان لطه ود العبيد أخ ولدته امه لما فعل معه ما فعله احمد ود البشرى) وقالت النسوة فى خبث وهن ينظرن الى عمك (احمد) (الا ترين كيف تنظر اليه السارة بت العبيد حين يجىء وحين يذهب ؟) كانت (السارة)  اختا غير شقيقة لطه ابو ضراع ، شبت فى كنفه بعد وفاة الاب والام وكان طه هو الذى تحمل مسئولية امه واخواته بعد وفاة ابيه ، وكانت السارة محط امال العديد من شباب القرية حيث عرفت بجمالها المتميز الذى زينه خلق قويم وحياء عظيم تفردت بهما وجاذبية طاغية ترجع الى بساطتها وتواضعها ، وكانت لذلك كله تنال قسطا وافرا من حسد النساء وغيرتهن فلم يتورعن عن ترديد القصص ونسج التكهنات عن سعيد الحظ القادم ولهذا السبب لم يتورعن عن تفسير وفاء عمك (احمد) لصديقه برغبته فى الاقتران بالسارة واهتمامها به .
                      ***********************

توافد الناس زرافات ووحدانا الى المكان ... غصت الدار الصغيرة بالنسوة وكانت الجلاليب البيض تتوافد على دار العرس من بعيد كأسراب حمام تتوافد على مورد ماء ، كانت القرية كلها هناك ، كان احمد ود عثمان يحمل بندقيته العتيقة الظراز التى لا تغيب كصاحبها عن عرس من اعراس القرية ، تدوى الطلقات فترتفع زغاريد النسوة ويبتسم الرجال فى سعادة .. يتبادلون التهانى ايذانا باكتمال مراسم الزواج .. كان (طه ابو ضراع) فى المنتصف فى يده حريرة وعلى جبهته هلال صغير من النحاس ويده مخضبة بالحناء ، كان سعيدا كطفل يوم ختانه وابتسامة واسعة ولطيفة تملأ وجهه ، كان كل شىء يسير على ما يرام ولم يكن فى الافق ما ينبىء عما حدث بعد ذلك فى هذا المكان من احداث جسام غيرت مجرى حياتنا واحالت اجمل يوم فى حياة عمك الى حد فاصل بين حياة وحياة ... حدث كل شىء عندما حان دور شباب القرية فى اظهار بسالتهم فى تلقى ضربات السياط وهو ما يعرف (بالبطان) وقتها كان ذلك تقليدا وامرا لا تخلو منه مناسبة زواج ابدا ، يرتفع السوط فى اليد الغليظة ويهوى على الظهر العارى فلا يئن صاحبه ولا يهتز له رمش فتعلو زغاريد النساء واصوات التشجيع من الرجال ، ثم يرتفع الصوت من جديد فتعلوا اصوات الرجال (اركز يا زول) ويعلو صوت المجلود (انا اخوك يا فاطنة ..) وتعلو الزغاريد ثانية ، كان ابناء القرية يتنافسون فى ذلك السباق وينتظروا بشوق عارم ليدخلوا الحلبة ويثبتوا رجولتهم وصبرهم امام الحسان وحده عمك (احمد) كان ينفر من ذلك كله نفورا عظيما ليس عن جبن او وجل ولكنه كان ينظر الى الامر برمته باحتقار شديد ولا يخفى امتعاضه منه ولا يتوانى عن ادارة ظهره للحلبة والمضى بعيدا ولم يكن يهمه فى كثير او قليل ما يقوله اقرانه عنه او ما يصفونه به ، فى ذلك اليوم حين جاء دور(البطان) لم يبرح عمك مكانه خلافا لعادته ، ربما اراد ان يبدي لصديقه حرصه على ان يشاركه فى كل صغيرة او كبيرة من عرسه ، ربما كانت لعبة القدر المختبىء هى التى شاءت ان يبقى ، على اية حال بقى عمك فى جانب الدائرة الكبيرة التى اكتظت بذلك الجمع الكبير ، حتى  جدك كان هناك متكئا بكلتا يديه على عصاته فى مجلس يضم شيوخ القرية فى جانب الدائرة ، كان كل شىءجميلا فى ذلك اليوم .. حتى جاءت اللحظة الحاسمة المشئومة كان (حامد ود نور الدائم) هو الذى اشعل شرارة الحريق الذى بدأ فى ذلك الاصيل ... كانت الشمس تتوارى لتمهد الطريق للظلام ليلف الكون بدثاره الاسود السميك حين تقدم (حامد) الى الحلبة ، كان حامد فى مثل سن عمك او يصغره قليلا وكان ابن عم (طه ابو ضراع) وكان بين (حامد) وعمك (احمد) جفاء لا يخفيه كلاهما بالرغم من انهما يجتمعان على حب (طه) وتربطهما به علاقة قوية رغم تنافر طبعهما ، فقد كان عمك صموتا قليل الكلام قليل الاصدقاء ميالا الى الوحدة وكان (حامد) واسع الصلات سليط اللسان وزعيما لا يشق له غبار لشباب القرية ، متهورا ، كثير الشجار ، فاجرا فى خصومته مثلما هو وفى ومندفع فى صداقته ومحبته ومتفانيا فى خدمة اصدقائه ، وكان حامد بقدر ما هو محبوب من اقرانه الذين يحيطونه بهالة من التقديس والاحترام ويفاخرون بصداقته الا انه كان قى ذات الوقت مكروها من كبار القرية رجالا ونساء وكانوا يذهبون فى الكراهية له الى حد انهم ينسبون كل انحراف فى سلوك ابنائهم او تعثر فى حياتهم الى تأثير حامد ود نور الدايم وكان الاب حين يغضب من ابنه فى امر ما يقول له :- (لقد انقطع فيك الرجاء منذ ان اتخذت من حامد ود نور الدايم صديقا ….) ، وكان حامد فوق هذا وذاك شاعرا مجيدا يصاحبه شيطان الشعر اينما حل ، وكان يتنفس الشعر كما يتنفس الناس الهواء .. كان هجاءا لا يضاهيه احد فى الهجاء حين يروم الهجاء ، وكان حماسيا حين يروم الحماسة وكان بارعا فى الفخر والتفاخر حين يروم ذلك .. وكان الناس يقولون انه ورث تلك الخصال عن جدة له ما زالت النسوة يحفظن اشعارها عن ظهر قلب . والعجيب فى الامر ان عمك كان فى فترة ما من المعجبين بحامد وكان يمكن ان يكونا صديقين لكن (السارة) انتصبت بينهما مثل مارد خرج من الظلمة واذا بالكراهية المتبادلة تنشب بينهما كما تنتشر النار فى الهشيم فقد كان حامد منذ بواكير طفولته ينظر الى السارة باعتبارها نصيبه وقدره المحتوم الذى لا يجرؤ احد على منافسته فيه وكان الناس جميعا يشاركونه ذات الاعتقاد ويسلمون بالامر تسليما اعمى حتى ظهر عمك فى حياة الاسرة وبدأ همس تعالى وارتفع حتى بلغ مسامع حامد واشتعلت النار فى الاغصان الجافة رويدا رويدا حتى كان الحريق الذى لم يسلم منه احد … كان ذلك اليوم يوم (حامد) فقد ساد صمت وسكون عندما تقدم الى وسط الحلبة وفى عينيه نظرة تحد هازئة لم يبذل الناس جهدا لمعرفة من وجهت اليه … كان كل من يتابع النظرة يراها منتهية ومرسومة على وجه عمك الممتقع الذى وقف فى الجانب الاخر من الدائرة كطائر صغير منتوف الريش وقد بلله المطر… كان حامد يدور فى الحلقة كصقر يهم بالتقاط فريسته بخفة دون ان يلامس الارض … كانت اقدامه بالكاد تلامس الارض وصوته الممتلىء بالتحدى يرن كطبل بدائى غامض ، تجرد من جلبابه والعراقى واصبح ظهره عاريا وهو يصوب نظراته نحو من يمسك بالسوط ويناديه بلهجة آمرة ان يضرب … ارتفع السوط فى الهواء بسرعة طائرة مقاتلة تتجنب صاروخا ثم هوى ثانية بسرعة قذيفة تتجه نحو الهدف ارتطم السوط بالظهر العارى بقوة فعلت وجه (حامد) ابتسامة واسعة كتلك التي تعتلى وجوه الناس حين يصافحون عزيزا … ارتفعت زغاريد النسوة فقفز (حامد) عاليا فى خفة وهو يهز سبابته فوق رؤوسهن واستقر سريعا فى موقعه الاول ونادى صاحب السوط ثانية بذات اللهجة الآمرة وحين ارتفع السوط مجددا وهوى وارتفعت زغاريد النسوة وصيحات الرجال اتسعت الابتسامة فى وجه (حامد) مجددا وهو يثبت عينيه فى وجه عمك بنظرة تفيض سخرية وازدراء وتحد … طأطأ عمك رأسه وتحاشى النظرات الحادة وكنت اتابع المشهد وانا اكيدة بأن وقع الاف العيون التى تابعت نظرات حامد واستقرت فوق وجه عمك كان اشد قسوة وايلاما من وقع السياط على ذاك الظهر العارى الذى لم يكف صاحبه عن الابتسام كأنه اقام سياجا بين ظهره ومناطق الاحساس والشعور لديه … رفع عمك وجهه ثانية لبرهة يسيرة … لم يكن ينظر الى (حامد) … كان ينظر خلف ظهره حيث كان جدك … كان بالوجه ما يشبه الاستغاثة … لكن وجه ابيه كان جامدا كجدار عدا احمرار خفيف بدا فى عينيه وانعقاد فى الجبين ندرك جميعا مغزاه … ارتدت نظرة عمك سريعا صوب الارض … كان حامد الان يقف ازاءه والوقاحة فى عينيه ونظرة تحد بغيضة ، وعم سكون كسكون القبور … استدار عمك على عجل … اولى الجمع ظهره ومضى هادئا فى البدء وخطواته ترن بصوت مسموع … ثم اسرع الخطى دون ان يستدير كهارب من شىء ما … ساد صمت قصير … قطعته قهقهة (حامد) الطويلة الهازئة التى غابت شيئا فشيئا وسط الزغاريد التى علت مجددا .
                 **********************************

مسحت الجدة دمعة تحدرت خلسة وصمتت لبرهة وواصلت حكايتها ، انفض سامر الفرح فى ذلك اليوم ومثلما جاء الناس تفرقوا ولكن احداثه بقيت تلقى بظلالها طويلا … فمنذ تلك الليلة ضاقت القرية بعمك وضاق بها … ففى دارنا كانت نظرات جدك الغاضبة وتعليقاته اللاذعة المهينة تلاحقه اناء الليل واطراف النهار … وفى القرية كان الهمس يلاحقه اينما حل … وكان حين يجىء يعم المكان صمت قاتل ولا تتوقف عيون الحاضرين عن التحدث رمزا ، لذلك عاد عمك من جديد ميالا اكثر ذى قبل للانطواء … صموتا … شحيح الكلام وطالت جلسته المعتادة عند الصخرة القائمة فى ضفة النهر وكان لا يقطع جلسته تلك الا صفير القطار فيركض فور سماع الصافرة الى المحطة ويعود بعد فترة حاملا معه صحيفة او مجلة ويعود بها الى صخرته حيث يشرع فى تقليب الصفحات فى نهم دون كلل لعله كان يجد فيها عالما بديلا لهذا العالم الذى لم يعد يمنحه سوى الشعور بالغربة والمهانة ، كنت اراقبه فى أسى وقلبى يتقطع على قلبه الصغير الذى يتمزق امام ناظرى دون ان استطيع ان افعل شيئا لاجله ، وحدى كنت اشعر بمأساته وعمقها وبما يفتك به .. كان صغيرا حين فقد تؤامه فى ذلك الفجر ولم يستطع ان يستعيده ابدا … عرف الفجيعة باكرا قبل ان يتهيأ لها كما يتهيأ جميع الناس ، كان صغيرا حين اضطربت جوانحه وخفقت بالحب فتجرع مرارة الأهانة بسبب ذلك الحب ، كان اصغر من ان يستطيع الصمود امام طوق العزلة الذى احكمه حوله (حامد) اللعين واولئك الجهلة من الناس الذين لا تعنيهم مشاعر الاخرين فى شىء ولا يتورعون عن الخوض فى سيرتهم ونسج القصص عنهم ، كان جدك لا يريد ان يفهم سوى شيئا واحدا هو ان ابنا من صلبه قد كسر قلبه وطأطأ رأسه وسط عشيرته وخيب آماله فيه وجعله موضعا للتندر ، قلت لجدك وأنا الحظ سهوم ابنى وشروده الدائم واطراقته الطويلة : - (انت لا تفهم ولا تريد ان تفهم ابدا ان الصغير مجروح القلب ويحتاج الى كلمة طيبة وصدر حنون بدلا من قاموس الشتائم الى تصبها على رأسه صباحا ومساء ، اتريد ان تحطم قلبه ؟؟) ، جاء صوت جدك هادرا : - (بل اريد تحطيم رأسه لو استطعت ، اى صغير تتحدثين عنه يا امرأة ؟؟ انه رجل والرجال لا تحنى رؤوسها وتنصرف من امام الرجال وقت التحدى كما فعل ابنك يومها … ليت النهر اخذه هو فى ذلك اليوم … ليتنى استطيع ان اتبرأ منه امام الملأ كما فضحنى امام الملأ !) أجهشت بالبكاء وقلت له بكل ما فى دواخلى من غضب و حرقة : - (النهر افضل منك على أية حال … على الاقل لن يسمعه النهر كلماتك التى كالحراب ولن تتمزق احشائه … على الاقل سيموت مرة واحدة وليس كل يوم ، حسبى الله ونعم الوكيل ، حسبى الله ونعم الوكيل ، حسبى الله ونعم الوكيل … ) وانا اهم بالمغادرة جاءنى صوت جدك غاضبا وحاسما : (لم ينته حديثى بعد يا امرأة … اقولها لك واسمعيها جيدا … لن ازوجه السارة ابدا … نجوم السماء اقرب له من ذلك … قولى له ذلك عندما يأتيك فى المساء منتحبا كالنساء ، قولى له ايضا ان عاره لن يغسله الا زواجه من امرأة اخرى الان وليس غدا …) نظرت اليه طويلا … كانت عيونه ملتمعة بالشرر وصدره يعلو وينخفض رغم صمته ، هممت بان اقول شيئا ثم ابتلعت كلماتى واستدرت دون ان اقول شيئا وغادرت على عجل .وفى ذلك المساء عندما جاءنى عمك لم اقل له شيئا مما قاله أبوه ، كان هو الذى يريد الكلام وكنت مشوشة التفكير وغاضبة من جدك وعازمة على عدم مناقشة الامر مع ابنى ، كنا وحيدين وكان السؤال يؤرقنى منذ ليلة زواج (طه ابو ضراع) فتشجعت وطرحته عليه قائلة (يا احمد لماذا لم ترد لحامد الصاع صاعين يومها ؟ لماذا تركته يجعل منك اضحوكة أمام الجميع ؟ لماذا غادرت المكان ؟) قال لى احمد مباشرة : - (هل الرجولة هى ان يتلقى الرجل ضربات موجعة ويدمى جسده بلا مبرر ؟ هذا غباء يا امى وليس رجولة ، الرجولة الحقة ان لا يسمح الرجل لاى شخص كان ان يؤلمه أو يؤذيه وليس السكوت على الالم … العبيد وحدهم هم الذين يتبارون فى احتمال الألم وفى عصرنا هذا لم يعد هناك سادة و عبيد مرغمين على احتمال الالم ، الرجولة الحقة هى رجولة (طه) حين وقف فى وجه العمدة ومنعه من اخذ ارضه وفى ذلك اليوم كان حامد غائبا ولم يكن من انصار (طه) ولم يكن مستعدا لخوض المعركة ، كنت انا مستعدا للموت فى سبيل حماية صديقى ، هذا هو الفرق يا امى ، وهذا هو الامر بكل بساطة فهل انا مخطىء ؟) قلت له وانا اجهش بالبكاء وانا انظر اليه كأنى اراه لاول مرة : (لكنهم لا يفهمون وتلك هى المصيبة …) فى الايام التى تلت ذلك المساء ساد الوجوم بينى وبين جدك، كنت غاضبة وكان صامتا وكنت اعلم بخبرة الايام ومعرفتى به انه كان يعنى ما قاله ولن يتزحزح منه شبرا وكنت افكر فى ابنى وردة فعله ووقع الامر على نفسه عندما انهى اليه قرار ابيه .. فى لحظة ما قلت لنفسى : - (لعل ما يريده ابيه ليس سيئا الى تلك الدرجة ، قد يكون قاسيا عليه لكنه الافضل له ، الافضل له ان يبتعد عن السارة وعن هذه العائلة التى ستظل مرتبطة دائما بحادثة ليلة زواج (طه) وانكساره امام حامد ، الناس لن يفهموا ما يقوله سوى انه جبن ، ولعل زواجه بأمرأة اخرى يكون اسدالا للستار على ما حدث فى ذلك اليوم ، لعل ذلك هو افضل شىء يمكن حدوثه … )عندما وصل بى التفكير الى هذه النقطة زال بعض ما بى من غضب وأخذت اقلب الامر على وجوهه كلها فراق لي قرار جدك وبدا لى منطقيا ومقبولا .
ذات نهار حول مجلس القهوة قلت لجدك دون ان انظر اليه : (هل وقع اختيارك على فتاة بعينها؟) استدار فى هدوء واعتدل فى مجلسه وقال كمن كان ينتظر السؤال :- (زينب) كانت (زينب) ابنة اختى الكبرى وكانت قد طافت فى رأسى فى اول قائمة الخيارات فلم اتوانى عن الموافقة فقال جدك : - ( هل كلمتيه أم اكلمه انا ؟) قلت له : (لا اترك الامر لى ..) أومأ موافقا ونهض .
عندما تحدثت مع عمك صمت طويلا اطرق برأسه ثم ساد صمت طويل بيننا ، نظر الى الارض ثم رفع رأسه الى السماء وتحاشى التقاء نظراته بى ثم قال فى مسكنة : - (انا لا افكر فى الزواج يا أمى ... انا لم اعرف رأسى من قدمى ولست راغبا فى البقاء هنا ابدا ... ) ، قلت له وغضب يتفجر فى داخلى يقود كلماتى الى اتجاهات لم ارسمها لحوارى معه : (واين ترغب ان تبقى ؟ هذه الارض التى ترفض البقاء فيها هى التى دفنت فيها سرتك وسرة اجدادك الذين ماتوا وهم يدافعون عن كل شبر منها ، ما هو العار فى ان تحيا فى بلد يحيا فيها ابوك وامك ... ام انك تهرب من عارك انت ؟؟ ) ، انتفض احمد كالمذبوح فتح فمه كمن يريد ان يقول شيئا ثم لاذ بالصمت فى قنوط ، لعنت نفسى لحظتها ، كنت اود لو كان بامكانى استرداد كلماتى ولكن هيهات ان يستطيع المرء ادراك زلة لسانه ، فقلت لنفسى (ليكن ما يكون ... لا مجال للتراجع الان ) ومع ذلك خرج صوتى متحشرجا مخنوقا وكلماتى متقطعة (ام انك تريد السارة برغم الذى حدث ... برغم الذى فعله حامد بك بسببها ...) ، قال بسرعة كمن ينفى تهمة (ليس الامر هكذا يا امى ، ليس هكذا ، انا لا افكر فى الزواج الان يا امى ، ولو فكرت فلن اتزوج من هنا ... هذا كل ما فى الامر) ثم استدار على عجل متجها نحو ضفة النهر كالهارب من شىء ما .
أحييت بالندم وهالنى ما فعلته به فى لحظة غضب بليدة ، لعنت الشيطان فى سرى ولمت جدك ، قلت لنفسى : (انه يريدنى ان اقسو عليه كما يفعل ، لماذا قبلت هذه المهمة البغيضة ؟) كدت ان اتراجع عن الامر برمته وانفض يدى منه لكن غضبة جدك حين انهيت اليه ما دار بينى وبين عمك والشرر الذى التمع فى عينيه وهو يحمل عصاه فى يده وصوته يجلجل فى اركان الدار فى تلك الظهيرة (لا بقاء له فى منزلى ساعة واحدة ان لم يرضخ لما اقول ... سأعتبره من الاموات ولن اتلقى فيه عزاء من احد .. قلت لك دعينى اتعامل مع الامر انا ، فانا اعرف كيف اتعامل مع هذه البذرة التالفة .) ، قلت له ( يارجل لا تفضحنا بين الناس ، طول حياتنا مستورين لا يسمع لنا الناس حسا ولا يذكروننا الا بالخير ، اتريد ان نصير على كل لسان ... هل جننت على اخر عمرك يا حاج .) لكن جدك لم يكن على استعداد ليسمع صوتا غير صوته فى ذلك اليوم ، استخدمت كل حيل النساء وحنكة الامهات حتى استطيع منع الاصطدام بينه وبين ابنه واستطعت بعد جهد ان احصل على فرصة اخرى لمعالجة الامر قبل ان يفعل شيئا ، كنت اخشى على ابنى من عاقبة الصدام مع ابيه وهو صدام لم يكن هو بالذات مهيأ له او قادرا على تحمل تبعاته ولم اكن قادرة على تصور حياتنا اذا نفذ جدك وعيده وطرد ابنه وهى فعلة لم يفعلها احد فى العائلة او القرية من قبل ، ومع ذلك كنت اعلم انه قادر على ان يفعلها  فقد كان جدك ينتمى الى تلك الطينة من البشر التى لا يهمها ابدا ما يظنه الناس بها اذا قررت فعل شىء فهى بلا شك فاعلة مهما يكن الامر .
عاودت الحديث ثانية مع ابنى طال حديثى وهو صامت وعندما فرغت من حديثى او كدت رفعت وجهى اليه وقلت له بصورة مفتعلة (اليس لأمك خاطر عندك ؟؟) قال لى وهو ينظر فى البعيد بصوت فيه ذل ومسكنة وخضوع لم اسمعها من قبل ولا من بعد : (فليكن ما تريدون يا امى ...) توقفت قليلا عند مغزى كلماته القليلة وقلت لنفسى وانا المح دمعة صغيرة تنحدر على خده خلسه عندما ازاح راحة يده من هناك :
 (الزمن كفيل بكل شىء ... من منا تزوج برغبته .. ومن الذى اتعسه ذلك ؟ غدا يأتى البنون والبنات وتصبح هذه اللحظة نقطة صغيرة لا يذكرها احد حتى احمد نفسه ، ربما لو تذكرها سيقول ضاحكا لاولاده ، امى هى التى اختارت لى امكم ) ربتت على كتفه وخرجت كالقذيفة مسرعة الى حيث جدك لأزف اليه ما ينتظره ، وهكذا تزوج عمك (زينب) زواجا سيق اليه طرفاه بفعل ارادات اخرى رأت فى حلولها محل ارادة طرفيه الخير كل الخير ، وهكذا بدا لاول وهلة ان سماءنا قد عادت صافية لا يكدر صفوها شىء فقد كانت (زينب) سعيدة محبة لزوجها وكان جدك يحبها حبا شديدا وكان فوق ذلك سعيدا لما آلت اليه الامور فى خاتمة المطاف وفارقته ذكرى تلك الليلة الكئيبة ليلة زواج(طه ابو ضراع) وأحداثها حتى انه اقتطع جزءا من ارضه ونادى على عمك فى الصباح الباكر واخذه اليها وأشهد الناس جميعا أنه قد وهبها اليه هبة خالصة لوجه الله تعالى واردف ذلك فى الايام التالية بأن حمل اليها شتولا من أجود انواع النخيل وغرسها بنفسه فى جانب من تلك الارض لصالح ابنه ، وكانت ليلة العرس بذاتها حدثا فريدا تهادى اليه الناس من كل صوب وحدب وتعالت الزغاريد فى سماء الدار ونحرت الذبائح وتزينت الفتيات بأبهى زينتهن وتبارى الشباب فى الساحة رقصا وتبشيرا ، وكانت ابتسامة (زينب) التى بدت فى ثياب عرسها طفلة صغيرة تؤدى دورا لا يتناسب مع سنها ولكن وجهها الطافح بالبراءة والفرح كل ذلك بدا لى بشائرا طيبة لما هو آت ، لكن ذلك كله لم يخرج العريس من صمته الغامض ، كان واقفا هنالك جوار عروسه الصغيرة تارة وجالسا تارة اخرى ومصافحا للضيوف مرة ثالثة ، الحنة تزين كفيها والحريرة تدلى من يده وهلال النحاس الصغير يغطى تقطيبة علت جبهته ولكنه كان كمن يتفرج على شىء لا يهمه ولا يشده ولا ينتمى اليه البتة ، وقف هنالك وسط مواكب الفرح جسدا بلا روح وصمتا عبوسا فى مواجهة الضجيج الفرح ، قلت لنفسى (لا يمكن ان تكون زينب سبب كل هذا العبوس ، لعله غاضب لأن زواجه كان خاتمة احلامه باكمال تعليمه ...) كانت الرغبة فى اكمال التعليم هى اخر الواح الخشب التى تعلق بها عمك للنجاة من الغرق ، لكن جدك كان حاسما : ( لقد تعلم ما يكفيه للتعامل مع التجار وكتابة الخطابات وقراءتها ، هل تحتاج زراعة الارض الى شهادة ؟ بلا مدارس بلا خوتة دماغ !!) ، فى الوقت الذى ظن فيه جدك انه اكمل انتصاره وان كل شىء خضع لمشيئته وتخطيطه وأن شاته السوداء عادت الى قطيعها وحظيرتها راضية وبينما كانت (زينب) حاملا فى شهرها الرابع والجد فى شوق الى رؤية الحفيد او الحفيدة ، فى هذا التوقيت بالذات فجر عمك مفاجأته القاسية واتخذ قراره بالرحيل ، غادر القرية فجرا بالقطارالذى تعلقت اشواقه به صغيرا ، صحونا ذات صباح على نحيب (زينب) المر وعندما سألناها عن السبب اخبرتنا من بين الدموع ان (احمد) غادر القرية فجرا دون نية عودة واوصاها بان تطلب له الصفح من ابيه ومنى .   
كان رحيل عمى المفاجىء فاصلا بين اشياء عديدة ، جدى كظم غيظه كله- كعادته فى لحظات ضعفه – واوجز موقفهمما حدث فى عبارة واحدة : (لم يعد ابنى مات ابنى ودفنته بيدى هاتين منذ هذه اللحظة) لم يذد على ذلك شيئا اخرا وعند الاصيل ارسل جدتى الى (زينب) وعندما اقبلتا عليه سويا كان جالسا يصلى فى خشوع وحين فرغ من صلاته وتسبيحه نهض وطلب من زينب ان تجلس قريبا منه وحادثها طويلا محاولا التهوين عليها ، قالت له زينب من بين دموعها انها ليست ناقمة على زوجها وستنتظره وسيعود حتما ، قال لها جدى بغضب انه لن يعود ابدا واذا عاد فلن يكون له مكان هنا ، وانه لن يدعها تنتظر سرابا كاذبا وانه يعلم ان ما حدث سيحدث ذات يوم وانه حاول بكل السبل تفاديه واغراء ابنه بالبقاء وقال لزينب بصوت غاضب مجروح: (عندما اخترتك يابنتى لهذه البذرة التالفة لم يكن يدر بخلدى قط انه سيفعلها للمرة الثانية ويطاطىء رأسى أمام الرجال ... لم اكن اتصور ان ابنا من صلبى يفعل هذا بى ...) لم تقل (زينب) شيئا ولاذت بصمت طويل فقد كان حزن جدى كبيرا وعميقا كالحفرة التى يخلفها سقوط شجرة حراز ضخمة ظلت منتصبة فى مكانها منذ الاف السنين ثم هوت فجأة ... وعندما طال الصمت قال جدى بنبرة قوية حاسمة : (ستبقين هنا يا زينب حتى يأتى حفيدى وعندها اقسم لك يا ابنتى اننى سأزوجك احسن زيجة الى رجل يستحقك وازفك من هذه الدار وسأنتزع ورقة الطلاق من هذا اللعين حيثما كان ... اقسم لك على ذلك ...) تهدج صوته فجأة ، انتابته نوبة سعال طويلة ، وران صمت جديد ، كان قد قال كل ما لديه ، وكان لدى زينب الكثير الذى لم تقله بعد ، لكنها كانت ترتعش فى حضرته كطفل صغير ضبط بجرم مشهود ولكنها فى النهاية تحدثت فأتىصوتها مفاجئا وحاسما : (اعلم مقدار المك يا عمى ، اعرفه جيدا واقدر لك موقفك هذا ، لكن صدقنى ليس الطلاق من (احمد) هو ما اريد بل سأنتظره يا عمى ، وسيعود الغائب يوما ، هكذا قال لى ، وانا اصدق ما قاله وقلبى يحدثنى انه سيعود ) .

نظر جدى اليها طويلا ... لم يبد عليه انه فوجىء بما تقول ... قال لها : (هكذا النساء دوما يتعلقن بخيوط العنكبوت ويصدقن ما يرغبن فيه ولا يرين الاشياء بعيونهن ابدا ولا بعقولهن ، مثله لا يعود ابدا يا بنتى ... وان عاد فان الشيطان الذى يسكن روحه ويسيطر على عقله لن يدعه يبقى ابدا ، سيهمزه كما يهمز المرء حماره بعصاه وسيحزم حقائبه ويرحل من جديد ... كيف يبقى وهو يكره النهر والرمال؟! ) .
لم تقل (زينب) شيئا اخرا ولم يقل جدى شيئا واكتفت جدتى باختزان المشهد والعبارات فى ذاكرتها القوية لتستعيده بعد سنين عديدة وترويه لى بكل تفاصيله وزواياه . وتوالت الايام بعد ذلك اليوم ، ولم يعد الغائب ، اسدل الناس دون قصد النسيان على سيرته . لم يكن احد يعلم له عنوانا او جهة ، حتى زينب نفسها ، وحين فاجأت الآم المخاض (زينب) وارتفع صراخ (امك) يا صغيرتى ذات صباح معلنة قدومها للحياة كانت الدار مسرحا لنسيج متنافر ومتنوع من المشاعر ، فقد كان قدومها بمثابة كوة فرح كبيرة بعد احزان طويلة وكان قدومها فى الوقت نفسه يمثل احياء لجرح قديم تناسته الاسرة او نسيته ، وحين حمل جدى الجسد الصغير بين يديه وقربه الى وجهه فى محبة وابتسامة مشعة فرحا وطمأنينة تعلو وجهه حتى لامس شعر لحيته البيضاء الوجه الملائكى الصغير عندئذ كان ثمة عالمان يلتقيان ، عالم يذهب نحو الغروب ويتمسك بالبقاء وعالم يتفتح لتوه وسط وجوه محبة ، حينها انفجر الجميع وغرقوا فى بكاء حار تخالطه فرحة غامرة .
انقطعت اخبار العم تماما ، عادت الحياة الى ايقاعها الاليف وسيرتها الاولى ، كبرت الحفيدة مع الايام ولم يمنع غضب  الجد على ابيها من اغداقه الحنان عليها فقد كانت حفيدته الاولى من الاناث ولم يسبقها من الاحفاد فى القدوم احد سواى انا ، وفوق ذلك كان جدى يحب امها كثيرا ويكبر فيها تلك الشجاعة التى تقبلت بها هجر الزوج لها فى شهور الزواج الاولى ، كان ينكر عليها في البدء تمسكها بهذا الزوج الذى هو ابنه رغم فعلته التى فعلها معها وكان يبذل جهده لاقناعها بطلب الطلاق ولو غيابيا ، ولم يكن جدى وحده الذى فعل ذلك فقد كانت امها ايضا تحادثها فى ذلك فى كل صباح ومساء خاصة حين ابدى احد ابناء عمومتها رغبة فى الاقتران بها لكن رد زينب كان حاسما ووحيدا (لا طلاق) . كانت موجات الالحاح تتكسر واحدة تلو الاخرى عند اصرارها العظيم وتمسكها بزوجها وزواجها حتى وهو مجهول الجهة والمصير .

ومع الايام تحول امتعاض جدى من موقفها ذلك الى تقدير غامض واحترام عظيم ، كان الجد يقول عن (زينب) كلما جاءت سيرتها : - (انها امرأة بعشرة رجال ، ذلك اللعين لايستحقها ابدا.) وفى القرية حدث فى غضون ذلك حدث اخر غطى على كل ما عداه وشغل الناس طويلا ، ، كان (حامد ود نور الدايم) قد تقدم ليخطب (السارة) لنفسه من اخيها (طه ابو ضراع) وكان مزهوا كالطاؤوس حين خرج من عند (طه) الذى وعده خيرا وطلب منه امهاله قليلا ، كان حامد ينظر الى المسألة على انها مسألة وقت ليس الا ... كانت المهلة فى نظره اجراء شكليا اعتاده الناس ولايقدم ولا يؤخر شيئا ، ولكن الامر لم يكن كذلك ، كان للسارة رأى اخر ، كان رفضها لحامد قاطعا لا يقبل الجدل وكان مثار دهشة له قبل غيره ، لم يستطع تقبل الصدمة ، وحين قال له (طه) فى هدوء (ان الزواج قسمة ونصيب ياحامد البنت امانة فى عنقى وقد اوصانى ابى بأخذ رأيها فى كل شؤونها ، وقد فعلت ، ولم يكن لديك نصيب ، لو كان الامر بيدى ...) لم يدعه (حامد) يكمل حديثه انتفض كثور هائج (السارة ترفضنى يا طه ؟؟ ترفضنى أنا .) اكتفى طه بهز رأسه بالايجاب فى سكون ، ساد صمت ووجوم وكأن على الرؤوس الطير .. ثم انفجر حامد من جديد هادرا هذه المرة (منذ متى كان للنساء كلمة مع وليهن ياطه ؟ لا تتوارى خلف الفتاة ، ان كنت انت ترفضنى قلها مباشرة يا طه دون التواء قلها ...) انتصب طه واقفا وقال بحزم وهدوء : ( سامحك الله ياحامد والله لو قالها غيرك او قلتها انت خارج دارى لما بقى ولما بقيت واقفا ورأسك فوق عنقك دقيقة واحدة ، انا لا اتوارى عن الرجال ناهيك عن الصبيان ، انصرف سالما فقد انتهى الحديث .) امتقع وجه (حامد) واستدار وانصرف من حيث اتى ، واشتعل حديث الناس من جديد ومن جديد عاد اسم العم الى الافواه واسترجع الناس فيما استرجعوا من احداث ليلة زواج (طه ابو ضراع) وما فعله حامد ود نور الدايم معه وقال البعض ان (السارة) اقسمت فى ذلك اليوم انها لن تتزوج حامدا ولو كان الرجل الوحيد بالبلدة كلها وأنها قد نفذت وعيدها ، وقال البعض الاخر ان (السارة) اصلا لا تريد حامدا ولا علاقة لما حدث فى يوم زواج اخيها بالرفض . تضاربت تفسيرات الناس وذهبوا كعادتهم مذاهب شتى وكما اشتعل الاهتمام فجأة خبأ لهيبه رويدا حتى بدأت السيرة تتراجع ، اختفى (حامد ود نور الدايم) ، غاب وتوارى عن كل مجالسه المعتادة ، اختفى تماما كشبح غامض اتى فجأة وغاب فجأة ، وتواردت القصص عنه ، قال بعضهم واقسم يمينا على ذلك انه رأى حامدا عند مغيب الشمس وهو يسرج حماره الابيض ويغيب خلف السكك الحديدية  ميمما شرقا باتجاه الصحراء لا شمالا او جنوبا كما اعتاد الناس ، وقال انه ناداه بأسمه فلم يلتفت بل اسرع الخطى حتى غاب فى الظلام ، لكن اهل حامد عندما ارسلوا مجموعة من الشباب على ظهور الجمال لتعقب اثار (حامد) لم يجدوا اثرا له فرجحوا ان الرجل كاذب او مخمور لان الرجل والحمار ليست لاى منهما اجنحة وطالما لم يوجد الاثر فانهما لم يعبرا من حيث ادعى الرجل ، اخرون قالوا انهم لمحوا من يشبه (حامدا) عبر نافذة القطار المتجه الى الصعيد فى ذلك اليوم نفسه ، وقال اخرون انه قال لبعض اصدقائه انه ذاهب الى بلاد الحبشة ليلحق بعم له يعمل تاجرا هنالك ، لكن لم تتأكد ايا من تلك الروايات ، الشىء الوحيد الثابت والمؤكد هو ان (حامد ود نور الدايم) اختفى تماما بعد خروجه من دار (طه ابو ضراع) فى ذلك اليوم ولم يره احد ثانية ابدا ، بقيت منه بعض اشعاره التى ظل المتشبهين به من ابناء القرية يحفظونها ظهرا عن قلب ويرفعون عقيرتهم بها فى الليالى المقمرة .
كبرت (عائشة)  الصغيرة مع الايام وامست جزءا من ذلك العالم الذى نشأت فيه وترعرعت دون ان تشعر بغياب ابيها ، كان جدى هو الذى اسماها (عائشة) تيمنا بأم المؤمنين السيدة (عائشة) ربما ، وربما سماها كذلك لتحيا كما سمى النبى (يحى) ليحيا ، وربما سماها به على اسم امه وربما لكل تلك الاسباب مجتمعة كما تقول جدتى ، وكانت الصغيرة لا تدرك شيئا عن قصة ابيها ولا تعرف سوى انه مسافر طالت غيبته ولكنه سيعود ، وكانت عائشة تروى قصصا مثيرة عن ابيها بعضها مصدرها امها وبعضها مصدرها جدتى وبعضها من خيالها الخصب .
كانت سبعة اعوام كاملة قد انقضت منذ ان غادر عمى القرية حين عاد فجأة على غير انتظار ودون مقدمات او ارهاصات بقدومه . كنت اول من رآه واول من زف خبر وصوله الى جدتى (زينب) ولم تصدقنى فى البدء لاننى لم اكن قد رأيته من قبل لكن شيئا ما فى اعماقى اخبرنى بأن هذا الغريب الذى لفظه القطار فى ذاك المساء هو عمى بشحمه ولحمه وليس احد سواه ، ربما كان ذلك يرجع الى اننى منذ ان تفتحت مداركى كانت جدتى لا تنفك تحكى قصصا متكررة وعديدة عن عمى وغيابه وتعقد مقارنة بينه وبين كل من تراه من الاطفال او الشباب ، وكانت لا ترد النهر الا ونظرت اليه طويلا وسألته عن حبيبه الغائب فيتهامس الكبار بأنها لم تنس (التوأم) وكان ذلك يشحذ فضولى ويجذبنى بألف خيط الى عالم عمى الغائب ويشوقنى اليه شوقا لا حدود له فارسم له الف صورة فى خيالى .
كانت جدتى تحكى لى عنه دوما بكثير من الحب الذى فاض به قلبها تجاهه برغم هجرته المفاجئة ورغم غيبته الطويلة ورغم ان جدى كان يتكدر حين تجىء سيرته ، كنت اسمعها تدعو له عقب كل صلاة ودمعة تنحدر على خدها فتمسحها بطرف ثوب الزراق الباهت وكنت اسمع صوتها يتهدج فيحاكى الانين وهى تقول :- (ياربى .. رده سالما الينا .. ياربى احفظه من الشرور .. ياربى لا تحرمنى رؤية جنا حشاى .. ياربى ..) ودون ان ادرى السبب كان يجتاحنى شعور بأنها لن تكون سعيدة لو عرفت اننى اراها وأسمعها عندئذ فأتسلل عائدا من حيث اتيت دون ان تدرك وجودى .
وحين عاد عمى كان جدى مريضا مرضا شديدا وقد الزمه ذلك المرض الفراش ردحا من الزمن، صار هيكلا عظميا نحيلا كعصا من جريد النخيل حين تجف وتزول خضرتها الجميلة لكن البريق فى عينيه الصغيرتين النفاذتين لا يزال قويا مشعاونبرة صوته حاسمة آمرة برغم بعض البطء فى نطق المفردات الذى اصبح يلازمه اثناء الحديث ، كانت جدتى تأتى كل ليلةوتمسح ظهره النحيل الذى برزت عظامه بزيت السمسم المخلوط بمسحوق القرض ثم ينقلب على ظهره لمساعدتها ونوبة سعال حادة تفاجئه وتبدأ جدتى فى دعك صدره وعنقه بالزيت والقرض وحين تفرغ من ذلك تخرج وتعود حاملة مبخرا صغيرا فيعتدل جدى ويستوى جالسا على سريره الخشبى العتيق المرتفع عن الارض بما يكفى لتتدلى قدماه النحيلتان حتى تبلغا الارض ، تدثره جدتى بغطاء سميك وتلقى شيئا فى المبخر الصغير فيتصاعد الدخان مصحوبا برائحة مميزة وصوت طقطقة بعض ما القى فى النار من بخور تقرب المبخر من وجه جدى وينحنى عليه بوجهه حتى اشفق عليه من ان تلفح النار وجهه ، تحكم جدتى الغطاء وهى تدس المبخر بداخله وجدى لا يزال منحنيا عليه بوجهه ، يسعل جدى ويرجع برأسه الى الوراء تبعد جدتى المبخر قليلا عن وجهه وهى تتمتم بدعاء غامض لا اذكر منه شيئا ، ثم يعاود جدى الانحناء مجددا على المبخر ويعاود السعال والابتعاد مرة اخرى .
فيما بعد علمت ان اعتلال صحة جدى هى السبب المباشر فى عودة عمى من منفاه الاختيارى ، وكان الوضع وضعا غريبا حين اطل عمى بوجهه بعد كل تلك السنوات فزوجته (زينب) لم تخف سعادتها بعودته وان ظلت هادئة فى تعبيرها عن تلك السعادة واكتفت بتبادل التحية مع زوجها كقريبين التقيا فى الزحام ولم يكن من بد سوى تبادل التحية ، اما جدتى فلم تتمالك نفسها من الفرحة واطلقت زغرودة فرح حبيسة شقت ليل القرية الساكن ، وكان ذلك امرا لم تفعله قبلها ولا بعدها قط ، فتوافدت النسوة على عجل الى الدار مدفوعات بفضول النساء فى الاصل ومهنئات بعودة الغائب ظاهريا ، اما عائشة الصغيرة فقد كانت تتعثر بين اقدام الرائحين والغادين ، فى البدء وهى خائفة لما رأت دموع امها وجدتها ، ثم تراجعت فى خوف الى احضان جدتها عندما مد الغريب - ابيها -  يديه ليأخذها اليه وبقيت هناك تنظر اليه فى تردد وفضول ودهشة ، وحين اخذتها امها فى حضنها وهمست فى اذنها بأن هذا هو اباها ومدتها اليه انتقلت الصغيرة الى حضنه فى تردد ثم استكانت ليده وهى تعبث بخصلات شعرها الصغيرة وغمرتها موجة من الدفء فاستكانت فى صدره وهى تنقل بصرها ما بين وجهه ووجه امها وجدتها فى سرعة وفضول .
حين دخل عمى على جدى فى ذلك اليوم تسللت خلفه بخفة قطة ماهرة وانزويت فى ركن قصى من الغرفة الصغيرة فى سكون فقد كان الفضول العارم يدفعنى دفعا لمشاهدة ذلك اللقاء غبر المرغوب فيه لدى جدى – كما ظننت وقدرت – لذلك آثرت الاختباء ، دخلت جدتى خلف عمى مباشرة فى وجل ينم عن قلقها وكان بمقدورى رغم الضوء الخافت للمبة الجاز الصغيرة الموضوعة على المنضدة الخشبية الصغيرة أمام سرير جدى ان ارى دموعها وهى تغطى خدها وتجويف الشلوخ الموجودة به ورأيت يدها تتحرك فى قلق وتوتر باد لتمسك بطرف ثوبها لتمسح الدموع عن وجهها قبل ان تقف قبالة جدى ، كان جدى ممددا هناك فى سريره كأنه اله غامض والصمت يسود المكان عدا صوت ضربات قلبى المتلاحقة التى خفت ان تفضحنى وصوت الانفاس التى تزحم سماء الغرفة الصغيرة وصوت عواء بعيد متقطع ، كانت عينا جدى مغمضتان عند دخول عمى وجدتى ولكنهما فتحتا على عجل على صوت الاقدام التى ولجت الغرفة ، امال جدى رأسه باتجاه الباب وثبت عينيه على القادمين ، للحظة صغيرة التمعت فى العيون دهشة ما وخيل الى ان شبح ابتسامة قد ومض على الوجه المعروق ولكن سرعان ما عادت صفحة الوجه جامدة لا تنبىء بشىء وعادت العينان شاخصتان فى حزم الى الاعلى حيث السقف القديم للغرفة المعروشة بأشجار الدوم والسنط وجريد النخل اليابس ، اقتربت جدتى من مرقد جدى وهمست بصوت مسموع معلنة له ان ابنه (احمد) قد جاء لرؤيته والحصول على صفحه وعفوه ، لم يبد على وجه جدى انه سمع شيئا وظل شاخصا ببصره نحو السقف متجاهلا وجودهما معا فتقدم عمى فى خطوات سريعة وجثا على ركبتيه عند حافة السرير الذى بد عندئذ عاليا كنخلة او جبل -  وامسك عمى بيدى ابيه بكلتا يديه وانفجر باكيا وهو يهتز وتلته جدتى بالبكاء وبقى جدى صامتا كأنه فى عالم اخر خلاف عالمهما ، وظلت عيناه شاخصتان بحزم الى الاعلى ثم انتزع يده بقوة مفاجئة من يد عمى وادار وجهه عنهما باتجاه الجدار ، تدفق عمى بالكلام ... قال كلاما كثيرا وبكى كثيرا كالاطفال ، مسحت جدتى دموعها وتحدثت الى جدى طويلا وهو صامت لا يرد عليها ، قالت له فيما يشبه الضراعة :- (ان الله يغفر لعباده يا رجل ، الا تريد ان تغفر لابنك ؟!) قالت كلاما كثيرا وجدى صامت لا يجيب ثم صمتت وصمت عمى ، ساد صمت ثقيل حتى خفت ان تفضحنى ضربات قلبى المتسارعة ، اقتربت جدتى من جدى اكثر ... همت ان تقول شيئا فأشار اليها بيده دون ان يلتفت ، نظرت جدتى اليه ثم نظرت الى عمى الذى تكوم على الارض وقد غطى وجهه بعمامته التى تبعثر ما تبقى منها كيفما اتفق واخذت بيده وانصرفا فى سكون مثلما جاءا ، وما ان اختفت خطواتهما حتى اخذ جدى يهتز فى سريره ويرتج ونشيج مكتوم لا يبلغ حد البكاء يصدر عنه ، الجمتنى الدهشة ، ولم يخطر ببالى قط ان جدى يمكن ان يبكى لاى سبب ، تملكنى خوف غامض فتسللت بخفة مغادرا الحجرة الصغيرة على عجل .
فى الايام التى تلت ذلك اليوم تدهورت صحة جدى تدهورا مريعا كانت الحمى اللعينة قد سكنت الجسد العليل ورفضت الرحيل ، مسحت جدتى الجسد الضامر بالزيت والقرض مرارا واشعلت البخور صباح مساء ، وجاؤوا بود العمدة المساعد الطبى الشهير الذى اعطى جدى حبوبا صغيرة بيضاء اعتاد ان يعطيها لكل من اصابه مرض فى القرية حتى صار المرضى يذهبون اليه طالبين منحهم حبوب (السلفا) دون ان يكبدوا انفسهم عناء شرح ما يعانونه من مرض او الم ، لكن الحمى اللعينة ظلت سادرة فى غيها وظل جدى يرتعش فى نهار الصيف اللاهب من البرد ويتأوه بصوت خافت اناء الليل وظل عمى مرابطا امام الحجرة الصغيرة ممسكا بمسبحة ترتعش مع حركة اياديه القلقة وتصطك حباتها كأنها تشكو هى الاخرى مما يشكو منه جدى ، ولم تنقطع سيول الزائرين من الاهل ابدا ، يأتون راجلين او على ظهور حميرهم ثم يقبلون على جدى فيمد اليهم يد راعشة لا تنهكها المصافحة الكثييرة كما كنت اظن بل تسرى عروقها دماءجديدة وكأنهم يودعون راحة يده بعض ما يتمتعون به من عافية ويزرعون الدار بالضحك والقهقهة كأنهم فى دار عرس وليسوا قادمين لعيادة مريض ، يخرجون وهم يتمتمون متمنين الشفاء لجدى ويلعنون الحمى علنا كأنها عدو معلوم من لحم ودم ينغص عليهم حياتهم ، كان عمى يبدو مرهقا ولكنه كان يبدو اقل حزنا واكثر سعادة حين يجيئون ويصخبون ويذهبون حتى انه كان يبتسم باقتضاب حين يفتح (على عثمان) حقته ويعبث داخلها ثم يلقى سفته الشهيرة فتستقر فى لمح البصر فى مكانها المعتاد داخل فمه فيلاحقها بلسانه حتى تستقر حيث يريد ثم ينفض يديه ويغلق الحقة بصوت مسموع ثم يدخلها بجيبه ويضع يديه خلف عنقه ويقول موجها حديثه الى عمى : (ات يا امحمد وقت عرفت العربية وحلانه مالك ما جبت معاك اسبيراتها من البندر ؟ والله قالوا لك (بح) الموديل ده خلاص سحبوه من السوق ...) يضج الحاضرين بالضحك وينظر (عمى) الى ابيه فى حذر وهو يحاول ان يرسم ابتسامة على وجهه المتعب .
وهكذا سارت الايام سريعة صاخبة ، وكانت الحمى تتوارى شيئا فشيئا والتوتر ينفثىء شيئا فشيئا وجموع الزائرين تخفت ، وابى وعمى عادا كما كانا فى الزمن الغابر صديقين لدودين لا يفترقا ولا يغيبا عن بصر ابيهما الذى كان يصارع المرض بثبات وقوة كأنه نخلة ترفع رأسها فى ازدراء وهى تنظر الى الرمال التى غمرتها حتى وسطها .. حتى كان ذلك اليوم ، كان جدى قد نام نوما عميقا وهادئا فى الليلة التى سبقته ، وحين ارتفع صوت ديك بعيد من اقصى القرية مؤذنا لصلاة الفجر كان جدى اول من نهض من مرقده كعادته فى الايام الخوالى ، نادى على جدتى بصوت جهور كما اعتاد طيلة حياته ، هرولت جدتى على عجل وهى لا تخفى سعادتها الغامرة ، غابت لبرهة يسيرة فى الغرفة الصغيرة وخرجت كالقذيفة ايقظت النائمين على عجل وعادت مسرعة وبيدها سجادة الصلاة الفارسية الجميلة النقوش التى احضرها عمى معه وبيدها الاخرى ابريق نحاسى عتيق ، اخذ جدى الابريق فى يده وذهب لقضاء الحاجة وعاد وشرع فى الوضوء بتؤدة وتمهل كما اعتاد دائما ولحق ابى وعمى به و توضؤ ووقفوا خلفه وعلا صوته الرخيم بتلاوة عذبة فيها خشوع يصيب السامع بقشعريرة تجبره على التوقف حيث كان كالمأخوذ او المسحور، كانت جدتى واقفة غير بعيد منهم وهي  تتأمل صلاتهم الجماعية كمن يرقب شعاع شمس غاربة فى اشفاق دون ان يستطيع شيئا لمنعه من الرحيل ، كان صوت جدتى قويا هادئا ذلك الصباح ، حين فرغوا من الصلاة انهمك جدى فى التسبيح طويلا وحين فرغ من تسبيحه وادار وجهه باحثا عن جدتى كانت هى فى اللحظة ذاتها قادمة وهى تحمل الشاى الساخن فى صينية اثيرة لديها لا تخرجها ا فى مناسبة عزيزة او تمييزا لضيف عزيز ، اقبلت عمتى (امنة) وهى تحمل صحنا مملوءا باللقيمات الساخنة المرشوشة بالسكرودارت الاقداح واللقيمات واسرعت من فورى الى حيث كانوا لاخذ نصيبى من الشاى باللبن واللقيمات التى احبها اكثر من اى شىء اخر ، كانت جدتى وحدها التى لم تشرب شيئا ولم تأكل ، كانت سعيدة كطفل فى ذلك الصباح ، كانت تنقل عيونها الصغيرة فى فرح بين الحاضرين وأحس بها كأنها تريد أن تغمض عينيها على هذه اللحظة وحدها ولا تسمح لها بالمغادرة ابدا ، تذكرت صلواتها الكثيرة فى اوقات الصلاة وغيرها ... دعواتها ... توسلاتها التى لا تنتهى ... دموعها التى تخفيها عمن يداهمها فى لحظاتها تلك ... اغنياتها الحزينة التى لا اذكر منها شيئا ... احاديثها الغامضة معى ومع نفسها دون انتظار اجابة ، اتذكر احساسى بالعجز وعدم الفهم ... ابتسامتها وهى تمسح على شعرى والدفء الذى احس به حين تضمنى الى صدرها ويدها تتخلل شعرى فى حنان ، كنت صغيرا ولكننى كنت املك القدرة لافهم انها كانت دائما وحيدة وتعيسة وليس لديها سواى من تشكو اليه وتبثه حزنها حتى لو لم يكن قادرا على الاجابة ... لكنها فى ذلك الصباح كانت مختلفة جدا ، لأول مرة فى حياتى أراها طافحة بكل هذه السعادة ، اقتربت منها وقلت لها : (يا جدتى لماذا لا تشربين الشاى؟) ضحكت وهى تقول : (أشرب انت يا البلال حبوبتك لا عندها مدرسة لاحقاها لها ولا سوقا ماشالوا ..)  ، وحين فرغوا من الشاى رسم جدى تعبيرا جادا على وجهه ونهض وهو يؤمى برأسه الى جدتى فعاونته على النهوض ودخلا سويا الى الحجرة الصغيرة ... غابا قليلا ... عاد جدى فى كامل هيئته وهو يرتدى جلبابا ابيضا نظيفا وساعة الجيب يتدلى سلسلها على صدره وعصاه المميزة فى يده وبدا كأنه ذاهب الى مناسبة هامة لدى قوم اكابر ... نادى عمى وابى وتحدث معهما حديثا قصيرا فذهبا وعادا بعد برهة يسيرة زكل منهما قد ارتدى مثل ابيه جلبابا ابيضا وعمامة ووقفا فى انتظار ان يتحرك ابيهما وحين هموا بالتحرك اعترضت سبيلهم وانا انظر الى جدى فى ضراعة فابتسم جدى وقرصنى فى اذنى وقال : (وانت ايضا ايها العفريت تعال معنا ...) تحرك الموكب الصغير سيرا على الاقدام جدى فى المقدمة وعمى وابى على يمينه ويساره ولكنهما يتأخران عنه ويحرصا على عدم محاذاته او تخطيه ، وكنت الهث خلفهم محاولا اللحاق بهم وعلى غير بعيد منى كانت جدتى تتبعنا فى صمت بخطوات واثقة ، سار جدى نحو الحقول الخضراء حيث زراعة ابى ، كانت اعواد الذرة الخضراء منتصبة كأنها امواج بشرية متلاطمة والريج تلعب بها بقسوة ذات اليمين وذات الشمال وخيالات المآتة المنتشرة التى صنعها ابى لطرد الطيور وخداعها تبدو وكأنها اشخاص واقفين وسط الزرع ، كنت دائما اقول فى سرى وانا اراها : (هل تنخدع الطيور بهذه الحيلة الساذجة ؟ الطيور لا تخاف نبالنا والاشراك التى ننصبها لها فكيف تخاف مزقة ثوب قديم مشرورة على عود جاف ؟) افقت من تأملاتى على صوت جدى وقد توقف وغرز عصاه فى الارض المبتلة واستدار نحونا وقال : - (يا اولادى لكل شبر من هذه الارض الخرساء فى الظاهر لسان ينطق وقصة طويلة وصراع ممتد مع الرجال والحكومات ، وفى كل شبر منها نقطة عرق او دم سالت من اجدادكم لاجلها وفيها هنا فى هذا المكان بالذات مات ابى وهو يدافع عن حقنا فى هذه الارض ، سال دمه هنا حيث زرعنا القمح والذروة والبصل والعدس مرارا ، من خير هذه الارض خرج ابى الى الوجود وخرجتم جميعا الى هذه الحياة رجالا موفورى الكرامة مرفوعى الرأس ، هذه الارض التي ترونها اليوم منبيسطة كبساط لم تكن هكذا بل كانت ذات يوم ارضا خرابا مليئة بالحجارة وكثبان الرمال والزواحف والاشواك وما كان الرجال يجرؤون على الاقتراب منها حين تغيب الشمس ، وحين كان جدنا الاكبر (احمد) يحمل فأسه ويغيب فى جوفها سحابة نهاره كله كان الرجال ينظرون اليه كمن ينظر الى معتوه او ابله ويتغامزون ويسخرون سرا وعلانية من حرثه فى البحر ، لكنه لم يأبه بهم ، كان يجتث الاشجار والحشائش الضارة من الارض ويحملها بعيدا عنها حتى لا تنبت فيها مرة اخرى ، كان ينقل الحجارة واعواد الاشجار التى يجتثها على ظهر حماره فى رحلات متكررة صوب العدوة حيث الصحراء فى الهجير اللافح ، وكان يحمل طين الجروف من الجروف ليغلق به الحفر التى خلفها اجتثاث الاشجار الشوكية ، لم يكن اليأس يعرف طريقا اليه ، فكان يعيد العملية نفسها عشرات المرات دون كلل او ملل ولم يكن يثنيه تجدد الاشجار الشوكية التى اقتلعها او ضألة المحصول الذى جناه من الارض او مشقة الاستصلاح كان شابا صغيرا لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر حين بدأ استصلاح هذه الارض وكان يقف على اعتاب الثلاثين حين بدأت ثمار غرسه تظهر للناظرين وبدأ من سخروا منه يدركون بعد نظره وقوة ارادته فطوقوه باحترام ظلوا يحيطونه به حتى رحيله ، وحين صارت الارض على ما هى عليه جاء من يدعون ملكيتها وينازعونه فيها بالعصى والاكاذيب والاوراق المشتراة وشهادات الزور ...) صمت جدى قليلا ، استدار ونظر الى عمى (احمد) وقال : - (على هذا الرجل العظيم اسميتك تيمنا به وبسيرته ، وكانت تلك وصية ابى ، انا لم اغضب منك لأنك تركتنى فذلك امر محتوم ان لم يحدث اليوم فغدا وان لم يحدث برحيلك قد يحدث بالموت لاحدنا او كلينا ، ولم اغضب منك لأنك تركت زوجتك فلست اول رجل يترك زوجته ويهجرها بسبب وبلا سبب ولن تكون الاخير ، انا غضبت منك فى تلك الليلة ، فليس عيبا ان ينهزم الرجل اذا قاتل بشرف ولكن العيب كل العيب ان يهرب الرجل من ساحة المعركة دون قتال حتى لو كان موقنا بأن المعركة خاسرة ، خير ان تخسر المعركة ولا تخسر كرامتك واحترامك لذاتك فى تلك الليلة ايقنت ان مخاوفى القديمة تتحقق فمن لا يدافع عن كرامته لا يدافع عن ارضه ، وطوال حياتى كنت اريد ان اربطكم بهذه الارض ، اردتك ان تتعلم انك لا تستحق الشىء الذى لا تستطيع الدفاع عنه ، انت لم تدافع عن السارة ، لم تقبل تحدى من نازعك فيها وانسحبت من مواجهته بكل بساطة فكيف تستحقها ؟ كيف تفلح ارضا لا تملك ثمنها ؟ انا لست غاضبا لانك تركت زوجتك التى اخترتها لك ، لكنك تركت هذه الارض ، تركت دماء اجدادك وعرقهم يضيع سدى وذات يوم تعود الرمال والاشواك التى طردها جدك لتسكن هذه الارض من جديد ، وحين يهجر الرجل ارضه فماذا يتبقى منه وماذا يبقى له ؟ ... ماذا ؟) لم يقل عمى شيئا ، ولم يقل جدى شيئا اخرا ... ساد صمت لا يقطعه الا ازيز رياح بعيدة وصوت طلمبات المياه الرتيب ، بقينا قليلا وقفلنا راجعين الى الدار، وفى ذلك المساء عاودت الحمى والاوجاع جدى من جديد واشتدت عليه فى الايام التالية وظل فى غيبوبة صامتة كأنه قد قال كل ما لديه فى ذلك النهار ، ولم تنقض سوى ايام قليلة حتى ارتفع العويل فى الدار الساكنة ذات صباح معلنا رحيل جدى عن دنيانا الى الابد .                               
كان رحيل جدى فاجعا وحزينا ولم يكن بالحدث الهين فقد كلن جدى رمزا من رموز القرية وعلما من اعلامها رغم ان حظه من العلم لم يتعد الخلوة وحفظ القرأن والحديث لكن حظه من العلم والمعرفة كان غزيرا فكان الناس يلجأون اليه دائما فى المحن والازمات ينشدون عنده العون والرأى السديد والمناصرة التى كان يبرع فيها الى حد انه ما تبنى مشروعا صغيرا او كبيرا الا واتمه مهما تكن العراقيل والعقبات وكان يملك قدرة فريدة فى اصلاح ما افسده الدهر بين الناس وكان الرجل الوحيد فى القرية التى يملك ان يقول للأعور انت أعور وللمخطىء انت مخطىء وللظالم انت ظالم فلا يغضب منه من قال له ذلك بل يخطب وده ويبزل كل الجهد لرضائه واستمالته فقد كان مهابا مسموع الكلمة وفى ذات الوقت رؤوفا رحيما عفيف اليد واللسان وكان معروفا بقدرته على المواجهة حين يتراجع الاخرين وينزوون مؤثرين السلامة ، لذلك ولغير ذلك كانت ايام العزاء حدثا لن تنساه القرية قط ، فرشت البيوت وذبحت الذبائح وتهادت الموائد من كل اركان البلدة محمولة فوق الايدى باتجاه بيوتنا الغارقة فى اكوام من الرمال ... ظلت النسوة مرابطات بجوار النيران وهن يتناولن الكسرة الساخنة من الصاج ويتفقدن القدور المتصاعد بخارها وكفتيرات الشاى الكبيرة تتبادل الن\مواقع فوق المواقد طيلة النهار .
توافدت وفود المعزين من القرية والقرى المجاورة سيرا على الاقدام وركبانا على ظهور الحمير وبعضهم على مراكب الدوم الصغيرة قادمين من الضفة الاخرى للنهر وبعضهم قدموا على متن قطار الصعيد يكسوهم غبار وتعب وحزن وشوق الى الديار واهلها ، ارتالا من البشر جاؤوا من كل فج وعلى كل ضامر يبكون جدى بحرقة ، لم اتمالك نفسى وانا ارى كل هذه الجموع تتوافد فقلت لجدتى والدهشة تكسو وجهى : (هل يبكى كل هولاء الناس جدى ؟ هل كانوا جميعا يعرفونه ويحبونه كل هذا الحب ؟) لم تقل جدتى شيئا ، مسحت وجهها المتعب بكمها وأمرتنى بالذهاب بصوت واهن ومشروخ ، فذهبت من فورى وانا اختلس النظرات اليها بين الفينة والاخرى فقد كنت اكيدا انها تريد ذهابى حتى لا تبكى امامى .
كان عمى اثناء تلك الايام صامتا ، اشعث ، اغبر ، طالت لحيته دون انتظام وبدا لى وقد شاخ بغتة ، كان يرفع يديه بالفاتحة ويتمتم فى صمت ويصافح المعزين ثم يعود الى شروده وصمته ولا يفيق الا على وقع موجة اخرى من المعزين ، ظللت دائما اذكر صوته حين انطلق أمرا وقويا فى اليوم الاخير من ايام العزاء وهو يقف فى وسط الجموع ويسأل الحاضرين جميعا ان كان من بينهم من كان المرحوم مدينا له بشىء ، طأطأ الرجال رؤوسهم ، ساد صمت ، لم يتفوه احد بكلمة ، عاد صوت عمى متسائلا بالحاح مرة اخرى واتضح ان المرحوم لم يكن مدينا بشىء لاحد بل كان هنالك العديدين مدينين له فقال عمى ان المرحوم قبل وفاته قد عفى لهم جميع ما يدينون له به وأوصى بذلك ، ثم تحدث أبى وشكر كل من حضر او ابرق معزيا ثم ترحموا على الفقيد وانطلق صوت شجى بتلاوة عذبة والناس صامتون كأن على رؤوسهم الطير وانفض العزاء .
عادت الحياة تدريجيا الى طبيعتها وعاد عمى الى داره وعادت زينب معه واشتعلت الدار التى كانت مهجورة ردحا من الزمن بالحياة فجأة وبدا للجميع ان عمى ينوى اطالة اقامته هذه المرة بالقرية ولكن ذلك لم يحدث ابدا .
                 *******************************


بقى عمى بعد العزاء ، نفض عنه ثياب المدينة التى جاء بها ، وعاد يجوب القرية طولا وعرضا بجلباب ابيض  وعمامة صغيرة كانت موضعا لتندر ابى دائما عليه ، وفى النهار كان يشارك اخيه فى زراعته ، يفتح جدولا ، ويدير وابور المياه ، ويغوص حافيا فى الارض المبتلة ورأسه تغطيه برنيطة عريضة مصنوعة من السعف وفى وسط جلبابه جراب كبير ممتلىء بالحبوب التى يبذرها فى الارض ، كان يبدو فى مظهره ذلك كأنه لم يغادر المكان ولا ينتمى لأى مكان سواه فانتعشت آمال جدتى فى انه قرر البقاء اخيرا ، وكانت اشياء كثيرة تشدنى الى عمى ، توق الى المجهول وفضول عارم اشعلته حكايات جدتى ودموعها حين كانت تحكى عنه فى سنوات غيابه الطويلة ، وفوق هذا وذاك فقد كان عمى يحبنى حبا صادقا ويحادثنى ببساطة كمن يحادث ندا او صديقا خلافا لوالدى الذى كنت لااقوى على الوقوف أمامه وارتعش خوفا وانسى ما اريد قوله حين ينادينى او اجد نفسى فى حضرته ، كان فضولى يسعد عمى كثيرا ، يضحك من القلب ويمرر يده بحنان على رأسى ويقول لى : (تذكرنى دائما بطفولتى يا ولدى ، يقولون ان الولد دائما يطلع لخاله ولكنك خالفت ذلك وشابهتنى ولا ادرى كيف حدث ذلك وانت لم ترانى كل هذه السنين !!) كنت ازهو بكلماته تلك ، اجلس ارضا عند قدميه واصغى اليه فى خشوع ومحبة وتطوف برأسى تقطيبة أبى ونبرته الحاسمة وضيقه بأسئلتى الكثيرة ، اكتشف الفارق الكبير بينه وبين عمى وجدتى ، كان بين عمى وبينى اشياء مشابهة لتلك التى بينى وبين جدتى ، كان يصحبنى معه فى مشواره اليومى الى صخرته الاثيرة عند ضفة النهر نجلس عند الصخرة طويلا ، اقدامنا تلهو بالماء ، نرقب صفحة الماء وهى تتبدل نتيجة لحركة اقدامنا فيها وهى تسكن عندما تكف أقدامنا عن الحركة ، ينتابنى خوف من ان يأتى تمساح جائع فيقضم قدمى ويغيب فى جوف النهر فاجدنى دون ان اشعر قد اخرجت قدمى  من الماء ورفعتهما عاليا فوق الصخرة ، يأتى صوت عمى كمن يحادث نفسه وهو يحكى عن رحلته فى البندر حيث يأخذه القطار، اتصوره فتى نحيلا وحيدا مثلى فى جوف قطار مذدحم لا يعرف احدا فيه وهو يتجه به الى أمكنة لا يعرفها ولا يعرف احدا فيها لاسباب لا يعرفها واهداف غامضة غير واضحة له ، اتصوره فى القطار وحيدا بلا هدف او رفيق سوى شوق غامض الى المجهول ورغبة فى الهروب من عالم لم يتوائم معه قط ، حكى لى عن تلك الاسرة الشايقية الاصل التى بدأت علاقته بها فى القطار بمشادة كلامية حول مكان الجلوس ثم انتهت بأن تكفلوا باطعامه طوال الرحلة الى الخرطوم من زوادتهم المحمولة ومما يشترون من طعام فى المحطات المختلفة ، حكى بصوت متعب عن الايام الاولى القاسية فى المدينة ، صعوبة الاهتداء الى العنوان الوحيد الذى كان يحمله معه وهو عنوان لقريب بعيد للاسرة من اولئك الذين هاجروا الى امدرمان منذ زمن بعيد واستقر هنالك ، ، رحلة البحث عن عم ، سحابات الهموم ، الوجوه الجامدة لاهل المدينة ، سخريتهم من لكنته الريفية وطريقته فى اللبس وما يرتديه ، حتى طريقته فى التحية كانت موضعا لتندرهم وسخريتهم ، شجاراته المتعددة وردود افعاله العنيفة فى البدء ثم اعتياده على ذلك شيئا فشيئا ، وكيف صار بائعا فى دكان صغير بدلا من ان يصير (حكيما) ، الاحساس المرير بالغربة وبأنه فى المكان الخطأ  ، لحظات الضعف والالم التى اجتاحته والتفكير الجاد فى العودة الى القرية ، صحوة العناد المضادة ، خوفه من العودة ومن سخرية  ابيه واخيه اذا عاد خائبا ، وجه زينب الذى يجيئه فى صحوه ومنامه ، صمتها البليغ حين انهى اليها قرار الرحيل بعيدا ، اطراقتها الطويلة ، كلماتها القليلة ، الدمعة الصغيرة االتى اخفتها بطرف ثوبها وهى تنظر الى بطنها وتتحاشى النظر اليه ، تلك النظرة فى عينيها ، ما كانت تود ان تقوله له قبل رحيله ولم تقله خشية ان تضعف ارادته او تقاومها ، احتقاره لنفسه حين اولاها ظهره وهو يتحاشى النظر فى عينيها ، التردد الذى فتك به وهو يشق الحقول فى ذلك الظلام صوب المحطة ، ارغفة الخبز والزوادة التى وضعتها زينب فى يده لحظة الرحيل ، كيف انه لم يقو على ان يمسها او يقضم منها قضمة واحدة ، لسعة البرد التى اجتاحته وهو ينتظر قدوم القطار بالمحطة ، تفكيره فى العودة قبل مجىء القطار ، صافرة القطار التى داهمته قبل ان يحزم امره ويحسم تردده ، اقترابه من سلم عربة ركاب الدرجة الثالثة ، وقوفه عى السلم حائرا ، نظراته باتجاه الديار ، اشباح اشجار النخيل الغامضة على البعد ، الخوف الذى اعتراه ، ارتجاج القطار ، صوت العجلات الرتيب ، صوت العجلات الذى تغير عند عبور القطار الجسر الحديدى الموازى لمنازل الضياباب – اهله – وصوتها مرة اخرى عند عبور (خور أمور) اخر معالم ابو هشيم ، الدموع التى بللته ، المرأة العجوز التى نظرت اليه فى اشفاق وعطف حقيقى ، الدموع فى عينيها ، تمتمتها الخافتة (كلهم يبكون فى الاول ويبكونا فى الاخر ، وا شريرى على امو ، الله يغتس الصعيد ، حرق قلوبنا وما بشبع متل التمساح قدر ما يأكل داير زيادة ...) .
 كان القطار ينآى فى حزم ، المرأة العجوز قد نامت ومسبحتها فى يدها ، الممشى مزدحم بالحقائب والمقاطف والبشر ، تباشير الصباح قد بدأت تلوح ، الرمال والصحراء على الجانبين ، وحياته تترائى كلها امام ناظريه كأنه يشاهدها مصورة ، النهر ، ضحكة تؤامه ، وجهه وهو يغيب تدريجيا فى الماء ، ظنه بأنه يلهو معه ويمارس الغطس كما اعتاد ، صفحة الماء الساكنة ، صرخته ، بحثه عنه دون جدوى ، ازدحام الضفة ، مشهد أمه وهى تتدحرج من القيفة العالية الى المشرع ، اياديها وهى تضرب الماء فى جنون ، المراكب الصغيرة التى تجوب النهر ، الفوانيس الشاحبة عند الضفة حين حل المساء ، (حامد ود نور الدايم) ونظراته الساخرة ، ظهره العارى ، السوط الذى يهوى عليه ، نظراته المسمرة على وجهه، النظرة فى عين ابيه ، المشوار الطويل من حلبة الرقص والجلد الى الصخرة عند النهر فى ذلك الظلام ، الخوف الذى اعتراه ، السوط الذى هوى على ظهره العارى صغيرا ، نظرات ابيه ، صوت امه وهى تحول بين ابيه وبينه ، الملح الذى وضعته على الجرح فى ظهره ، احساسه بالالم ، حضنها الدافىء ودموعها التى بللته ، وجه شيخ (بليل) الهادىء ، تلاوته الجميلة وتشجيعه له ، الكتابة على اللوح ومسحها بالماء ثم الكتاية مجددا ، متعة الحفظ والاستذكار ، وجه زينب ، نظراتها الحزينة (ماذنبها ؟) ... (ما ذنبى ؟) ... (كنت قاسيا معها) ... (ومن كان رحيما معى ؟) ... (ستنسى) ... (هل تقوى انت على النسيان ؟) القطار يواصل رحلته البلهاء ، الخواطر تدق فى داخلك كمسامير يزرعها نجار فى الخشب دون رحمة او شفقة او احساس بالذنب .
كان القطار يشق طريقه فى حزم مبتعدا وكان النيل يلاحقه ... كلما اوغل قطارى فى الرحيل خرج النيل لسانه وكان فى انتظارى فى المحطة التالية ، كنت اظن لجهلى ان النيل سيغيب عن ناظرى مع غياب معالم ابو هشيم ، كنت اظن ان (خور أمور) هو اخر نقطة لحدود النيل واننى ذاهب الى عالم اخر ليس فيه مياه ولا ضفاف ولا صرخة تلاحقنى كقدرى اينما ذهبت وذلك الاحساس الفظيع بأننى انا من اضاع صاحب الصرخة.. انا الذى ايقظه فى ذلك الفجر واغراه بالنزول الى النهر ... انا من استدرج الفريسة البريئة للصياد الغادر ، لماذا ظننت ان الصرخةمحض شقاوة ماكرة ؟ لماذا ادرت ظهرى له ؟ لماذا تأخرت ؟ لماذا قلت له لاغيظه اننى استطيع البقاء تحت الماء كسمكة الى اى وقت اشاء ؟ هل ترى قتلته بكذبتى السوداء ؟ القطار يمضى ، تدق عجلاته على القضبان بصوت مسموع وتدق النواقيس فى ذاكرتى بشكل موجع ، وعندها ادركت ان ما اهرب منه هو بداخلى انا ، وانه موجود فى اللامكان واللازمان واننى ساحمله خاتما مميزا يلاحقنى الى اخر عمرى ويمنع عنى السكينة كما منعت تلك الغطسة المتحدية الهواء عن رئتى تؤامى فى ذلك الصباح المشئوم .
بغتة جاءنى وجه امى محمرا دامعا حزينا ، صورتها وهى تتدحرج كحبة من الطماطم أو كتلة منهارة من الجرف نحو قاع النهر ، وجهها منعكسا فوق صفحة الماء ، وجه (زينب) الممتلىء بالاسئلة ، نظراتها الصامتة ، نواح أمى عند الضفة ، انهيارى ، صرختى (انا السبب يا امى انا السبب ...) لهفة امى ، حنان الدنيا كله فى حضنها وهى تأخذنى بين ذراعيها دون أن تتوقف عند معانى كلماتى ، صوتها متقطعا مخنوقا يأتينى من أعماق سحيقة (عين وصابتنا ياولدى ، عين كافره ونصرانية ، واسوادى ، وا مصيبتى ، ياحليلك يا محمد يا حليلك يا تويمى ...) اقول لها بصوت مخنوق (انا يا امى ... انا ناديتوا ... انا الصحيتوا ...قال لى ما داير ... قلتليهو ماك راجل ... انا الوديتو البحر ...) تنفجر امى بالبكاء ، تغلق فمى الصغير بكلتا يديها ، ثم تفلتنى وتغلق اذنيها ، تأخذ (زينب) فى حضنها وترتج بالبكاء وهى لما تزال ممسكة بى بيدها كأنها تخاف ان يأخذنى منها شىء ما ، (زينب) كانت شاهدة ، بالامس كانت شاهدة على رهاناتنا الكثيرة ، رهاننا حول من هو الاسرع فى تسلق النخلة الطويلة فى (الحمود) ورهاننا حول من يبلغ السوق بالحمار قبل اخيه، ورهاننا حول الذى يبلغ الدار عند العودة من المدرسة ، ورهانات اخرى نسيناها ، الرهان الوحيد الذى خسرته كان رهانا لم نتفق عليه ابدا ولم يخطر ببالنا حين كنا نصنع من كل قدر مشترك رهانا  بيننا ، اما الرهان الوحيد الذى كسبته بعد رحيله فقد كان الرهان حول أينا يركب القطار الى الصعيد اولا ، لم يعد الرهان أينا يركب أولا ، فأحدنا فقط هوالذى اتيح له ركوب القطار .
واتذكر بعد ذلك تشبث امى ببقائى جانبها ، نظراتها الفاحصة ، خوفها الظاهر على ، يدها وهى تمسح رأسى ، الدفء الذى يأتينى عندما تضمنى الى صدرها بحنو دافق ، نبرتها الرقيقة ، البخور الذى تدخل رأسى فى دوامته حتى أكاد اختنق ، العرق الغزير الذى يبللنى ، دعواتها المتصلة ، اياديها المرفوعة الى السماء ، الحجاب الصغير الذى علقته فى عنقى متدليا على صدرى ، شيخ (بليل) وحضوره الدائم ورقيته لى ، نظرات ابى الممتعضة كلما زاد اشفاق امى وكلما زادت زيارات شيخ (بليل) ، صوت أبى وهو ينتهرنى كلما وجدنى جالسا فى مجالس النساء برفقة امى ، غضبه الشديد الذى أحار فى تفسير الجهة الموجه اليها ، هل هو غاضب منى أم منها هى ؟ 
اتذكر همس امى الخافت فى اذنى :  (ما تقول لى زول الكلام القلتوا لى ... مفهوم ، خصوصا ابوك ، ما تقول ليهو شىء ، مهما تشرح ما حيفهم التدور تقولوا ، واسمع كلامى ده وافهموا ، الزول يا وليدى غير يوموا المكتوب يتم ما بموت ووكتين اليوم يتم ما بدورولو سبب ، وتويمك يومو تم أكان فى البحر ولا فى الشدر ولا بكا نوا الكان راقد فيهو ، اليوم تم والمنادى نادى ، وات ياوليدى لا عليك لو لا بتقدر تمنع المكتوب ... ) .
نظرت الى وجهها باحثا عن شىء ما فيه لكننى لم اجد بغيتى ، عوضا عن ذلك كان وجهها مشرقا وهادئا ومملوءا طمأنينة وكأنها تتحدث عن شخص أخر ليس ابنها الذى بككته بكل تلك الدموع وكل تلك الحرقة فى ذلك اليوم ، كنت احسبها تواسينى بكلمات منتقاة لا تعبر عن حقيقة مشاعرها ولكننى حين نظرت فى وجهها واصطدمت بتلك الطمأنينة وذلك السلام الداخلى العميق أقول ان المرء لو اراد ان يصف كلمة (الصدق) لما وجد وصفا يجسدها أكثر من وجه امى وصوتها وملامحها فى تلك اللحظة . اتذكر الان ان امى سهمت فى البعيد وصمتت صمتا طال حتى اوشكت على المغادرة ثم جاء صوتها حينا خافتا وهى تحكى دونما سبب ظاهر عن أخيها (أحمد الامين) الذى رحل عن الدنيا فى ريعان شبابه قالت لى : - (هل تدرى كيف واين توفى خالك الذى لم تره ابدا ؟ ) قلت لها (لا) ... قال لى : (كان خالك فى اواسط العشرينات من عمره ، كان شابا صغيرا طموحا .. مزارعا بالفطرة ، وكان زينة شباب ابو هشيم كلها ، ولم يكن ثمة رجل او امرأة الا تمنوه عريسا لاحدى بناتهم ، فقد كان رجلا من طراز نادر ، وكان بفضل جهده ومثابرته صاحب حصاد وفير وقدرة عالية على الحصول على افضل الاثمان ، وكان حلم امى ان تراه عريسا وتحمل احفاده ، لذلك كانت تلاحقه فى كل وقت وساعة باصرار لكى يتزوج خصوصا انه كان جاهزا ، فقد كانت له داره وله حصاد وفير وارض يفلحهاالا انه كان يتفادى رغبة امه فى  كل مرة بعذر او بأخر وتبين فى خاتمة المطاف انه لا يريد ان يتزوج قبل اخيه الاكبر الذى كان غائبا فى الصعيد البعيد فى بلاد الحبشة فى (تسنى) واخباره مقطوعة وحين شددت امه الضغط عليه سايرها واشترى حاجيات عرسه وهو فى داخله ينوى شيئا أخرا وهو ان يزوج أخيه فى البدء ، ثم تزرع بعذذر ما وسافر خلسة الى امدرمان ومنها الى كسلا ليذهب للبحث عن أخيه فى جهات (وقر) ثم (تسنى) كان يخطط وكان القدر يخطط ، فحين بلغ احمد الامين كسلا المت به حمى شديدة الزمته الفراش غريبا فى بلد غريبة عليه وفارق الحياة ودفن غريبا هنالك قبل ان يلتقى بأخيه وقبل ان يحقق حلم أمه ولم تبق منه الا ذكرى فاجعة وحسرة طويلة ... فهل كان خالك الاخر السبب فى ذلك الرحيل ؟؟ لم اقل شيئا ، ولم تقل شيئا ، ولفنا صمت طويل . ) .
حين وقفت فى تلك المساحة الصغيرة التى تضم رفات (الغريب)الذى حمل روحه بين جنبيه على طول المسافات الممتدة من (ابوهشيم) الى (كسلا) ليسلم الروح هنالك ويدفن فى هذه البقعة التى لم تطأها اقدامه حيا ، حنها وودت لو أن امى كانت معى، لو أنها اخذت من هذا التراب ذرة واستنشقت من هذا المكان هوائه العليل ، لم تكن ثمة علامة مميزة للقبر سوى القبر المجاور له الذى يحمل اسما وتاريخ وفاة ، سألت مرافقى العجوز الذى قادنى الى هذا المكان عن كيفية تعرفه على المكان رغم الثلاثين عاما ونيف التى انقضت ، فقال لى بهدوء وثقة (قبر الغريب شىء لا يمكن نسيانه يا ولدى ، فليس من المعتاد أن يأتى شخص من مكان بعيد ليسلم الروح ها هنا بمجرد وصوله ، هذا امر لايحدث كل يوم ثم ان هذا القبر الذى يجاوره هو قبر (حاج الطيب) وهو من اهالى منطقتكم وهو الذى مات الغريب فى داره بعد ايام قليلة من وصوله ، وهو الذى اوصانا بأن يدفن بجوار الغريب واوصانا ان ندل من يأتى من أهل الغريب على مكان قبره ، وقد حضر شقيق الغريب بعد بضعة اشهر من الوفاة وترحم على أخيه وغادر على عجل ولم يأت شخص أخر بعد ذلك الا انت .) قلت له كمن يعتذر اننى كنت فى رحم امى حين توفى خالى ولم اعرف شيئا عن ظروف رحيله الا بعد زمن طويل ، وهكذا كانت حكاية امى جواز مرورى الى (كسلا)  ومن ثم الى بلاد الحبشة فيما بعد ، كانت امى تبتغى من وراء سردالقصة التهوين على وابقائى لكنها دون ان تدرى شجعتنى اكثر على الترحال والابتعاد . كنت قد ازمعت مغادرة كسلا عند الفجر ، حملت جريدة خضراء من جريد النخيل ووضعتها فوق قبر (خالى) ترحمت عليه قليلا وعندما اردت المغادرة أحسست بظمأ شديد نظرت الى كوم التراب الصغير والجريدة الخضراء التى اخذت الريح تتلاعب بها بقسوة ، لابد انها ظامئة مثلى وبعد ايام قلائل تجف وتكنسها الرياح بعيدا ويبقى الغريب ظامئا ووحيدا تحت وهج الشمس الحارقة ، عدت الى اولئك الطيبون الذين حفظوا قبر الغريب وسره كل تلك السنين ، اشتريت بمساعدتهم شتلة صغيرة من النخل ، ذهبنا وغرسناها عند حافة القبر ، تعهدوا بأن يرووها بالماء حتى يشتد عودها وتمسى قادرة على البقاء دون عون من احد كعادة أشجار النخيل ... ودعتهم فى المساء ويممت صوب بلاد الحبشة يدفعنى فضول وشىء أخر أصبح سمة مميزة لى فى حياتى الجديدة الا وهو ذلك الاحساس الغامض بأن هناك خيرا كثيرا ينتظرنى فى هذه البقاع ، كنت فى سنين طفولتى البعيدة اسمع كثيرا من القصص عن (تسنى) وغيرها من بلاد الحبشة وهجرات الاجداد الاوائل اليها ...بساطة أهلها ... خيراتها الكثيرة ... الزيجات السرية لرجال المنطقة الذين بلغوا تلك البقاع بحثا عن الثراء والربح والبضائع .
كنت اترنح فوق سفينة الصحراء ليس للمرة الاولى – فقد تعلمت ركوب الجمال فى طفولتى البعيدة مع اولاد العرب الذين يقيمون بالجانب الاخر من الخط الحديدى شرق حور امور ، كنا ننجذب الى عالمهم الغامض منذ بواكير الطفولة ولا نفوت حضور اعراسهم المثيرة التى تدمى فيها السياط ظهور الشباب اما اجمل ما فيها فهى تلك الرقصات المثيرة التى يؤديها شبابهم بالسيوف ... يتواجه الرجلان ويرقصان بالسيف رقصا له ايقاع مميز وكل منهما ينظر الى الاخر فى حذر كما ينظر الصياد الى فريسته ، ثم يرتفع الخصمان عن الارض الى الاعلى كما يرتفع نسر يوشك على الانقضاض على غنيمته ، ترتفع الاكف بالتصفيق فى حماسة يتقاطع السيفان فى نقطة ما فى ذات اللحظة ، يلمع نصلاهما تحت وهج الشمس فيبدو كأن شعاعا هبط من السماء واستوطن فى السيفين فزادهما بريقا وقوة ، تتسع الدائرة ويواصل الفارسان الكر والفر فى تناغم بديع ، ولا ينفض هذا المهرجان الجميل الا حين يبدأ سباق اخر بين شباب يمتطون ظهور النوق ببراعةو يتنافسون على المركز الاول ، تراهم على ظهور النياق ناحلى العود كثيفى الشعر ينخفضون ويرتفعون مع حركتها السريعة كأنهم جذوع شجر يدفعها الموج نحو الضفة وتعلو وتهبط مع ارتفاعه وانخفاضه ، كانت هذه الرياضة الاخيرة هى الاثيرة لدى والاقرب الى نفسى المسالمة التى تأبى كل ما هو عنيف لذلك بذلت غاية جهدى للتعلم وصبرت على صعوبة الاستقرار على ظهر الناقة او البعير ولم اكن ادرى ان القدر كان يهيئنى لرحلات طويلة على ظهور الجمال الى بلاد غريبة وبعيدة فى المستقبل . 


لم يبق عمى طويلا بعد رحيل جدى ، حتى انه لم يكمل لى حكاياته فى بلاد الحبشة وأيامه الاولى هناك ، تركاسئلة كثيرة وفضولا لم يشبع وغادر القرية علنا هذه المرة ، كان القمر بدرا والرمال ذهبية اللون والنجوم لامعات كأنهن يحتفلن بشىء ما ، كانت اصوات الصبية وهم يركضون فوق قيزان الرمال تأتى من البعيد بندائها الساحر الذى لم اكن اقو على مقاومته ولكننى اتجاهلها تماما لاننى كنت مشغولا بشىء اخر ، كانوا جميعا هنالك كأنهم كانوا على موعد مع تلك اللحظة ، جدتى فى ثوبها الابيض الذى ارتدته حدادا ، ابى وصمته الجاد ووجهه المتعب ، عمى والشعيرات البيض القلائل البارزة فى سواد شعره الكثيف ، امى القلقة التى تروح وتجىء على عجل ولا تستقر على حال اخى الاكبر وعصاه التى ينقر بها على الارض فى رتابة تماما كما كان جدى يفعل فى الايام الخوالى ، (زينب) زوجة عمى التى كانت تجلس كعادتها منزوية على حافة وسادة خشبية لعنقريب عتيق وهى تدير وجهها بأتجاه الجدار القريب كأنها تلتمس عونا تدرك انه لن يجىء او سيأتى  بعد فوات الاوان ، أما اختى مريم فقد كانت تروح وتجىء ما بين نار مشتعلة وبين المجلس حاملة اقداح الشاى الصغيرة وحبات اللقيمات ، كان الصمت والترقب سيدا الموقف ، تنحنح عمى وبدد الصمت وهو يتحدث على مهل فقال انه ترك ورائه مصالحا عديدة وتجارة ليس لديه من يسيرها او يرعاها وان رحيله الى هنالك امر محتوم لا مفر منه وانه يعلم وهم جميعا يعلمون انه ليس له دراية او رغبة فى الزراعة ، لذلك فانه يترك كل شىء يتعلق بالارض والنخيل والماشية بيد اخيه (أبى) ويوصيه خيرا بوالدته وزوجته وبنته حتى يقيض الله له اسباب اخذهم معه فى المستقبل ، ثم صمت عمى طويلا ووجه خطابه الى جدتى طالبا غفرانها وعفوها واذنها له بالسفر مؤكدا انه لن يغيب طويلا وسيأتى كلما كان قادرا على القدوم ، ترقرقت الدموع فى عين جدتى وقالت بصوت خفيض (عافية عنك وراضية منك ، وشقيش ما تمشى ياك وليدى ، ياك الدخرى ، الله معاك ...)  ساد صمت قصير ، تنحنح ابى وقال بصوت هادى وحازم : (الوصية امانة يا امى ويا اخى ، دحين انا بدور اقولكم انو المرحوم ابوى كان موصينى قبال تجى يا احمد بى بنيتك وزينب ووصانى انو احفظلك ولى جناك حقك فى الارض وفى التمر طول مانى حى ، الكلام ده قبال تجى راجع بى كتير ، كان ابوى كل مرة ينقر الواطة بى عصاتو ويقول (أمحمد بيرجع ، مهما يطول ، العرجاء لى مراحها يا ولدى ، يوم من الايام اخوك بيرجع ، ذى ما مشى بى هدمتو بجى راجع ، والراجل بدون ارض وبدون تمر متل البهيمة العجوز لا بتدى لبن لا لحمها بتأكل ، واخوك حقو ان اباهو احفظوه باكر بكوسلو جناهو ...)) اندفعت (زينب) زوجة عمى فى بكاء حار ولحقت بها جدتى ، اما عمى فقد رفع طرف ثوبه الى وجهه واخذ صدره يعلو ويهبط ففهمت انه هو الاخر يبكى فى صمت ، اقتادت جدتى زينب وذهبتا سويا ، وانفض المجلس تباعا .لم تنقض سوى بضعة ايام ودوت صافرة القطار معلنة مغادرته المحطة حاملا فى جوفه عمى فى رحلة جديدة نحو الغربة .       
    
طه و البنك 
لو كان البنك رجلا لقتلته ولكن البنك كان عرضا سال له لعابى وايقنت انه المخرج الوحيد واوراقا وقعت عليها بكامل ارادتى وختمت عليها باصبعى الكبير هذا وارتدت لتصبح ورقة يكتبها البنك الى رجل يرتدى زيا افرنجيا فتصبح امرا يحمله عشرة رجال شرطة مدججين بالسلاح ينهبون الصحراء الواقعة بين عطبرة وابو هشيم نهبا من اجل القبض عليك يا طه .. يصبح البنك سرابا كاذبا ينتهى بك فى زنزانة صغيرة تسبق الوصول اليها فضيحة مدوية وسط اهلك واغلال تجوب بها الطريق من دارك الى عربة الشرطة وابتسامة العمدة اللئيمة اكبر من الغضب الذى يجتاحك ولا تستطيع ان تنفثه ... الخصم ليس رجلا تحمله على كتفك وتلقيه ارضا وتوسعه ضربا بالعصا هذه المرة وليس عمدة تخيفه مواجهة محتملة مع اسرة ليس لها من القوة حظ سوى ذراعها وكرامة رجالها ... ولكن الذراع لم يعد سلاحا فى زمن الطائرات المقاتلة والشيكات التى يحميها الرجال المدججون بالسلاح والقضاة والمحامون ... تتذكر صراخك فى وجه القاضى (انا لم ارتكب جريمة حتى اساق كما يساق القتلة واللصوص من دارى ... اجدادنا استدانوا حتى اخر رمق فى حياتهم وسددنا عنهم ديونهم ولم نسمع باحد منهم اقتيد بالسلاسل او ادخل سجنا ..) انتهرك القاضى قائلا :- (اصمت من اذن لك بالحديث ؟) لكنك لم تصمت قلت له : - (هذه السلاسل التى تقيدونى بها هى اذنى الدائم بالحديث ... الم تسمع قول الفاروق ايها القاضى : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا ؟) الم تسمع بالاية .... ) شحب وجه القاضى وصرخ فى الجنود :- (اخرجوه .. اخرجوه فورا ..) كان هذا كل الذى دار فى المحكمة ... لا شهود ولا اسئلة ولا اقوال ... ورقة صغيرة بها توقيع القاضى وختمه كانت جواز مرورك الى سجن الدامر العتيق ... لم تكن تلك هى المرة الاولى التى تدخله فقد سبقتها مرات عديدةخلال صراعاتك الطويلة مع العمدة ومع ابناء عمومتك وشجاراتك فى بيت فطومة بائعة الخمر ، لكن طعم الدخول هذه المرة كان مختلفا ... كنت تدخل السجن دخول الفاتحين معتزا بدخوله مرفوع الرأس مهابا تحيطك نظرات الاحترام والتهيب من خصومك ومن حراسك لكنك هذه المرة تدخله حاسر الرأس .... صامتا ... لا تقوى على رفع عينيك عن الارض حتى لا ترى نظرات الشماتة فى وجوه من حولك ... لم تكن وحدك فى سجن البنك فقد وقع فى حبائله اخرين وانتهوا الى ما انتهيت  اليه وبعضهم تفادى هذا المصير بمصير اخر لا يقل قبحا وهو الفرار من وجه البنك الى المدن البعيدة حتى يقضى الله امرا او تتوقف الملاحقة او يجود عليهم ابناء المنطقة الميسورين بمال يسكت نباح البنك وملاحقته ... وحده (على عثمان ) كان ينظر الى الامر بصورة مختلفة ، كان يدنكل سفة معتبرة من حقة التمباك الكبيرة التى لا تفارقه ويغيبها فى فم خاوى من الاسنان بسرعة تفوق سرعة سمكة فى الغطس فى عمق الماء وينفض يديه الاثنين من اثار السعوط ويضحك ويقول (برانا سويناها فى رقبتنا ... برانا ختمنا ومضينا ومشينا لى بنك السجم ده طمعانين فى البوابير وجلاليب الدبلان بدل الدمورية ... دايرين نبقى عمد ... دحين الرماد كال خشمنا ... لا لقينا العندنا ولا ركبنا البكاسى ... بدل البكاسى ركبونا الكوامر ... هلا ... هلا ... صحى مرمى الله ما بترفع ياناس ..) .
ينفجر الحاضرين بالضحك ... وتعلو عقيرة على عثمان ويتمدد صوته فى الفراغ (جينا لى مكة تغنينا قلعت طواقينا ..) تسرح ببصرك فى البعيد مع صوته ، تتلاحق المشاهد فى ذاكرتك يا طه ... تتذكر وجه (على عثمان) الممتقع حين اخذوه بالكومر اول مرة .. وجه بنته الباكى ... كلبه الضامر الذى يلاحق الكومر باصرار لعله يفلح فى انتزاع سيده من براثن الكومر واهله ... قهوة الصباح التى لم يجرؤ احد منهم على احتسائها وهم جميعا ينظرون الى مكانه الخالى فى المجلس فى ذلك الصباح ... صوت بنت الحاج الساخط (الله يغتس الحكومةويقطع سنينا .. غير الاذى ما لقينا منها شىء..) لم يدر بخلدك قط ساعتها انك قد تتعرض لما تعرض له (على) ... انتزعوا وابور المياه منه وتركوا ارضه يابسه جرداء ... باع اهله حماره الذى يعتز به وثلاث نخلات من اعز ما يملك من نخل وما تيسر من ماعز وضان من القليل الذى يملكه وبقى دين البنك كما هو وبقى (على) فى محبسه ... كان جهدك كبيرا ومحصولك مبشرا لذلك لم يدر بخلدك ابدا ان سربا عابرا من الجراد ذات صباح يهدم كل ما بنيته فى ليالى الشتاء الطويلة ويجعل جنتك خاوية على عروشها لا تجتذب حتى الطير اليها  ويقودك الي ذات المصير الذي سيق اليه صديقك،
لكن ما حدث حدث وانتهى بك الامر فى ذات المحبس مع (على عثمان) فهل يجدى فتيلا ان تلوم نفسك او تلوم البنك او تلوم الجراد او تلوم القاضى او تلوم كل ذلك .؟!.. وحده (صالح ود البشرى) الذىشذ عنكم و لم ينحنى أمام الاغراء ورفض موضوع القرض دون تردد وقال بسخرية واثقة :- (بتين الزراعة كانت دايرالا بنوك ؟ والله العظيم لا ابدل كلمة جدى البشرى بمال الدنيا فهو الذى قال ما دخل الدين فى مال الا وافضى به الى زوال ... اخير لكم تختوا النصيبة دى يا ناس ... ) . لم يستمع اليه احد ... حتى انت يا طه فارقك حذرك المعتاد وبدا لك ود البشرى متشائما ومتعنتا اكثر مما ينبغى فقلت لنفسك :- (لو كان جدك صادقا لما بقيت ارض لصاحبها فى طول البلاد وعرضها ... من منا لم يذق مرارة الاستدانة وذلها يا صالح ؟ وهل كانت تقوم للعمدة والتجار قائمة لولا كراسات تحصيل الديون  المكتظة بالتفاصيل ابتداء بعلبة الكبريت وانتهاء بالسكر والصابون والبذور؟)  .
تتذكر يا طه رحلة آمنة الاخيرة ، تقول فى سرك (المصائب لا تأتى فرادى ابدا بل تتجمع كرايات جيوش مهزومة وتسدد ضربتها الاخيرة الموجعة ..) كانت ليلة من ليالى الصيف ، كانت آمنة حاملا فى شهرها السابع حين وطأت اقدامها ثعبانا كامنا ... لم تصرخ ... تناولت عصا وإنهالت عليه ضربا حتى قضت عليه فى مكانه ثم نادت بصوت واهن معلنة انها قد لدغت ... لم تكن قريبا بما يكفى للحاق بها قبل سريان السم ... لم يكن (محمد) ابنكما البكر بالجوار وحين تحاملت على نفسها وبلغت اقرب دار من الدور كان الاوان قد فات ، لم يجد التفصيد وسحب السم بالفم من مكان اللدغة فالسم كان قد ذهب بعيدا حتى استعصى إرجاعه ... حين بلغك النبأ وجئت راكضا كان العرق يتساقط غزيرا من جبهتها ... قال من شاهد الثعبان القتيل انه من نوع خطير وسام ... حملت آمنة فوق حمارك ... انت عن يمينها ومحمد عن يسارها ويممتما صوب (ود العمدة) الحكيم الوحيد بالبلدة ... فى الطريق قابلكما (عبد الجبار) لاهثا ليقول ان (ود العمدة) سافر الى عزاء فى (ابو حمد) ، اسقط فى يدك ... وقفت عاجزا لبرهة يسيرة وهى تنظر اليك فى صمت و(محمد) و (عبد الجبار) ينتظران ما تقول ، لم يكن هناك سوى حل وحيد ... ان تسابق الزمن على ظهر حماربآمنة من ابو هشيم الى الشريق او بربر حيث الحكيم والدواء ... ما من قطار فى هذه الساعة وما من وسيلة اخرى ... نظرت الى محمد وقبل ان تقول شيئا قال لك وهو يبتعد راكضا :- (ساذهب لكى اسرج حمارى وانتظرك جاهزا يا ابى ...) ركض 
(محمد) كالريح باتجاه الديار واصر عبد الجبار على مرافقتكما مشيا على الاقدام ... وحين بلغتم اطراف الضياباب قبالة المدرسة كان (محمد) مقبلا على حماره وبيده بطارية وعصا ... سار الموكب الصغير عند اطراف (خور امور) كانت ثمة نار صغيرة مشتعلة اقبل من اتجاهها (ود حمود) راكضا وحين تبين وجهك اسرع الخطى مستفسرا وبانفاس لاهثة رويت له ما حدث ... غاب ود حمود قليلا ثم لحق بكم وبمعيته احد ابنائه كل منهما يمتطى جملا ... وفى برهة يسيرة كانت (آمنة) فوق ظهر احد الجملين الذين انطلقا الى الامام بسرعة وبقيت انت وعبد الجبار ومحمد تحاولون اللحاق بهما حتى غابا عن انظاركما ... وهكذا ادركت (آمنة) الحكيم ومصله الذى انغرز فى جسدها لكن الحكيم ومصله لم يدركا آمنة ولم يستطيعا ان يحولا دون المحتوم ... صامتة دون آهة الم ... دون كلمات سوى آيات قليلة  ظلت ترددها حتي وفاتها ... كل الحديث كان فى العيون الواسعة العميقة ... كانت تنظر اليك يا طه مباشرة تقول ما تقول بعينيها دون لسانها... هكذا كانت طيلة  حياتها القصيرة الحافلة معك ... كانت تقول لك كلاما لا يسمعه احد غيرك ولا يدرك كنهه غيرك ... الجملة الوحيدة التى قالتها جهرا قالتها بانفاس لاهثة وهى تطلب منك الدنو منها :
 (التويمات بدورن يقرن يا طه ... بدورن يدخلن المدرسة ويبقن حكيمات ...) لاول مرة فى عمرك بكيت يا طه علنا كالذبيح ... هدر الخوار من مكان ما فى داخلك ثم اخذت ترتج ... كنت تبكيها وتبكى عجزك أمام المقادير وتبكى حسرتها المعلنة وغير المعلنة وتتذكر صوتها الخفيض المتوسل (القراية ما بتضر ... والبنات كبرن بقن على المدرسة يا طه) وتتذكر صوتك قا طعا :- (ما عندنا بنات يروحن مدرسة يا امونة ... انتى بتدورى تقصرى رقبتى مع الرجال ...؟) تتذكر بعد رحيلها بسنوات قليلة مناجاتك لها :- (التويمات الان بالمدرسة يا امونة ... التويمات الان يكتبن الرسائل لنصف اهل البلد ويقرأن اسرارهم عليهم ... وعزة الله وجلاله لن يحملهن احد على حماره لاجل الحصول على مصل متأخر الوصول الى محطته يا آمنة .) وتبكى يا طه سرا هذه المرة  تبكى امونة ورحيلها الفاجع وامنيتها التى خابت جزئيا وتبكى سوءتقديرك للامور وسوء الخاتمة وعجزك عن المقاومة وعن البكاء علنا امام كل هولاء الذين يشاركونك ذات المحنة وذات المصير وينظرون اليك كقشة يتعلق بها غريق دون ان يعلموا انك لا تملك حتى مثل تلك القشة ، الامل الكاذب الذى يتعلقون بها .اسلمت نفسك للقنوط وللاسي والذكريات وبدت لك حياتك كلها بائسة عديمة الجدوي ، وفي هجعة الليل وحيدا في ظلمة السجن قلت لامنة: 
(تعبت ياامنة ..تعبت..في شبابي كنت اريد ان اكبر في عينيك واستحقك وبعدك كنت اريد تحقبق حلمك وكنت مستعدا لخوض النار حتي  لاجل ذلك... اما الان فلاجل ماذا اقاتل ياامونة؟ و حماماتك طارن بعيدا وتركن طه وحيدا) وفي اللحظة الفاصلة بين الياْس والرجاء جاء صوتها  دافئا وحنونا:( فرج لله قريب يا طه ... قدام عيوني شايفاهو ..فرج الله قريب............) وجاء الفرج بالفعل ..جاء سريعا اسرع مما توقعت ومن حيث لا تحتسب...فقد جاء علي يد (احمد ود البشري) الذي (غتس في الصعيد وقطع الخبر) علي حد قول علي عثمان. لم تكن تدري انه الفرج حين اتي حارس السجن العجوز متهلل الوجه وهو ينادي باسمك واسماء (علي عثمان) و(محمد ود الفضل) و(عثمان بابكر) فنهضتم الاربعة في تكاسل بوجوه جامدة عدوانية الملامح وقال (على عثمان) هامسا :- (باقى لى دورنا فى الجلد جا)  ابتسمتم ابتسامات مبتسرة لا تخفى ضيقكم ... لكن الحارس قال بصوت عال : (بختكم يا ناس اب هشيم .. الما عندو كبير يشوفلو كبير ..) قال له (عثمان بابكر) بجفاء : (تحسدونا فى السجن يا ناس الدامر .. حرام بالثلاثة غير الله ما عندنا كبير وطظ فى الحكومة وعساكرها شقيش ما قبلوا .) ضحك الحارس حتى بان السواد الذى يغطى بعض اسنانه وقال :- (الزول كان نقط ليكم عسل فى خشمكم تردوا ليه الكلمة زى السم يالرباطاب ... على اى حال جاكم افراج ياعثمان والجابوا ليكم من اولادكم بقولولو احمد ود البشرى ... دفع ليكم وحلاكم من البنك ونصايبو ... وكتر خيرك وبارك الله فيك على الشتيمة وياها المحرية فيك يا عثمان ... ماك غلطان ... غلطان انا الجيتكم جارى فيشان ابشركم ..) .طيبوا خاطر الحارس وهم بين مصدق ومكذب لما يقول حتى عندما اقتادهم عبر الحوش الكبير حتى البوابة التى اغلقت خلف ظهورهم ومضى بهم حتى باب المأمور الذى استقبلهم هاشا باشا وهنأهم بالسلامة والتفت الى مرافقهم سائلا إياه ان كانوا قد إستلموا اماناتهم وحاجياتهم فقلت له يا طه مقاطعا:- (ما عندنا شىء معاكم غير هديماتناالفوق لحمنا دى يا حضرة المأمور ... ) ضحك المأمور وانتصب واقفا وودعكم بكلمات لطيفة واستدرتم خارجين فى صمت لم يدم طويلا اذ قطعه على عثمان وهو يحادث نفسه بصوت مسموع  قائلا :- (احمد ود البشرى ... الله يرحمك يا حاج البشرى ... الاسد ما بجيب غير الاسد ..) صمت قليلا ثم اردف بصوت هامس :- (علا فى زمنا ده الاسد مرات بجيبلوا كديس ...) فانفجروا ضاحكين وبدا كأنهم عائدين لتوهم من النادى فى احدى ليالى رمضان الطويلة وليسوا خارجين لتوهم من السجن ... قبل ان تنتهى الضحكة كان احمد ود البشرى يسد الطريق فى وجههم بطوله الفارع وجسمه الضامر وبدت لهم الجلابية التى يرتديها غريبة بعض الشىء عليه ... وبدا رغم مظاهر النعمة البادية عليه مرهقا شاحب الوجه وعندما انفرجت اساريره مبتسما بدا شخصا اخرا يموج بالحياة والحيوية والثقة فى النفس ... صافحهم واحدا واحدا بحرارة ومحبة صادقة وصافحوه مصافحة من كان يتمنى المصافحة فى غير المكان وغير الزمان وغير المناسبة فقد كانوا الاربعة ينتمون الى طينة من البشر تفضل البقاء فى السجن على ان تكون مدينة لاحد بشىء ، هكذا شبوا صغارا وصبيانا وباتوا شيوخا ، الجيب فارغ لكن الاعتداد بالنفس والكبرياء عندهم لا تجدها عند الامراء وسليلى الملوك وكان على عثمان يلخص ذلك بعبارة ساخرة :- (ناس اهلهم خلولم قصور ونحن اهلنا ما خلولنا شىء بلا الفقر وعزة النفس ... الواحد يكون صرمان ويمشى بين الناس ولا السلطان ويقول لى   العندو القرش طظ فيك قايلنى محتاج لك ... طظ فيك وفى قريشاتك ...) لكنه لم يقلها لاحمد ود البشرى بل قال بصوت خفيض لا يخلو من احساس بالحرج والضيق :- (ما كان فى داعى لى تعبك يا ود البشرى ... وعلى بالطلاق اولاد اللذينة الدفعت ليهم ما يستحقوا قرش واحد ... لعنة الله عليهم ..) تراجع احمد الى الوراء قليلا ورفع يديه بالفاتحة معزيا اياك يا طه فى (آمنة) عزاء تأخر سنينا طويلة هى عمر افتراقكما ... رفعت يدك بالفاتحة واغرورقت عيناك بالدموع كأنها رحلت البارحة ... اخذك احمد فى احضانه وطفقتما تبكيان كالاطفال وعم الباقين صمت مطرز بالفجيعةوالفقد والدهشة .ذهبتم سويا الى القهوة المجاورة للسجن وجلستم فى كراسيها العتيقة المنسوجة بالحبال بعد ان  غسلتم وجوهكم من رهق  واحتسيتم الشاى الاحمر الذى تشتهر به قهاوى الدامر فى تلذذ كأنها المرة الاولى واردف على عثمان الشاى بالقهوة التى كان يتغنى لها طوال ايام السجن الطويلة وحين يجىء اوانها المعتاد كان يحتسى فنجانا وهميا ويخاطب بنت الحاج كأنها امامه (ما شاء الله ... دى الجبنة ولا بلاش يا بت الحاج ... دى الجبنة التظبط الرأس ... يلا نبتدى نشرة الساعة عشرة من ابو هشيم قلت لى يا عثمان زولك عمل شنو ؟) ، حين فرغ من احتساء القهوة اخرج (على عثمان) حقته الشهيرة ونقر عليها باصابعه بطريقة خاصة ثم فتحها متمهلا  ودنكل سفته واودعها فمه ولاحقها بلسانه ليسويها فى المكان الذى يجب ان تستقر فيه من فمه  واسترخى فى كرسيه كمن ملك الدنيا وما فيها ... لم يبقوا بالدامر طويلا بل يمموا من فورهم تجاه عطبرة حيث وجدوا قطار بضاعة متجها نحو الديار، ودعهم (احمد) وداعا قصيرا وحملهم اشواقه وسلامه الى اخيه واهله واستدار وغاب فى الزحام و كما جاء بغتة ذهب بغتة وبقوا داخل قطار البضاعة وهو ينهب الطريق نهبا فى اتجاه اب هشيم التى بلغها قبل الفجر فنزل ذلك عليكم بردا وسلاما حيث لم يكن اى منكم راغبا ان يصحب قدومه ضجيج من اى نوع ... كان السوق مغلقا والنادى قد انفض رواده منذ ساعات وليس من ضوء سوى بمكتب الناظر والفرن الذى كان صاحبه منهمكا فى توفير حاجة المدرسة من الرغيف ، كانت المحطة هامدة كجثة ، فقد كانت لا تموج بالحركة الا عند قدوم قطارات الركاب اما قطارات البضاعة فهى كعربات الحكومة العابرة لا يعيرها الناس اهتماما لانها شهر لا نفقة لهم فيه فلا يعدون ايامه على حد تعبيرهم . الوقت الوحيد الذى تجد فيه قطارات البضاعة اهتماما كان هو موسم حصاد التمر فقط .
نزلتم من الاتجاه المعاكس لمكتب الناظر المقابل للبيوت والحقول واوسعتم خطاكم صوب الديار فى صمت ناطق ... حتى على عثمان لم ينبس ببنت شفة وانتم توسعون الخطى وسط اعواد الذرة الكثيفة التى تنبىء عن محصول طيب لبعض اهل ابو هشيم ... وحين بلغتم مشارف البشارى حيث منزل على عثمان اندفع كلبه الضامر فى شوق حقيقى الى سيده واخذ يتمسح باقدامه وهو يهز ذيله وينبح نباحا صغيرا متقطعا كأنه يخطر اهل الدار بان سيده اتى من البعيد اخيرا بعد غياب طويل ... ، قال (على) بصوت مخنوق باك :-
(ودعتكم الله ...) وانطلق لا يلوى على شىء صوب داره والكلب يتقافز عن يمينه ويساره حتى غابا فى وسط اشجار الدوم وواصلتم السير نحو الديار والروؤس مصطخبة بما تحمل الصدور من شوق ومن رهق . 
كنت اخر من بلغ داره يا (طه) بدا لك الطريق اليها طويلا كأنك تمشيه للمرة الاولى ... حوش امحمد كما هو ساكنا مسكونا بالحجارة واشجار الدوم والصمت ، تفحصته كمن يتفقد عزيزا بعد طول غياب ... سمعت صوت رفاق الطفولة الغامضين وهم يتراكضون فى جنباته خلف اسراب الجراد والفراش الملون وينحدرون من عنده الى الاسفل حيث النهر والجروف عبورا بغابة النخيل الصغيرة فى (الحمود) ، وتقفز الى الذاكرة صورة (امحمد ود البشرى)  ملامحه الشقية و نظرة التحدى فى العيون الصغيرة ..تراه الان كأنها البارحة فى اعلى شجرة (العبد رحيم) الطويلة التى تكاد تبلغ السماء . بالكاد تتبينه وتسمع صوته يناديك (طه الخيخة ... طه الخيخة ...) وتتميز غيظا وهو يناديك بصوت منغم (راسو كبير ... كرعينو رقاق ... شن سمو ... سمو العولاق ...) دون ان تشعر تتناول حجرا صغيرا وتطلقه بقوة باتجاه الشجرة .. يستقر الحجر فى مكانه ولا يعود .. تسمع نهيق حمار بعيد . تشم رائحة النهر فتفيق من تأملاتك بعيون دامعة وتتذكر ايام البحث الطويلة عن (امحمد) فى ضفاف النهر بعد إختفائه الغامض ونظرات اخيه التؤام (احمد) الشاردة فى البعيد وتتذكر ليلة عرسك ... ضحكة(حامد) الطويلة الهازئة والنظرة الشاردة ذاتها فى عينى (احمد ود البشرى) وعيون السارة المتعلقة به كغريق يتعلق بقشة من نبات الحلفا عديم الجذور ... الصمت الرهيب ... قولك لنفسك لو كان (امحمد) هو خصمك يا (حامد) لقفز من مكانه كمارد من الجن وألهب ظهرك بالسوط حتى وليت الادبار ولكان راكزا كجبل أمام ضربات كل الرجال ولكنك تعلم يا حامد ان (احمد) لا شأن له بلعبتنا نحن الثلاثة انا وانت و(امحمد) ... كنا نتسلق الاشجار ونتركه فى الاسفل ونتشاجر حتى يدمى بعضنا بعضا ويبقى (احمد) بعيدا ... انت اول من يعلم يا حامد ان (احمد) ليس جبانا ولكنه يكره الرهانات ويكره المعارك ومرأى الدماء ... فلماذا فعلت فعلتك القبيحة ؟؟ لماذا يا حامد وانت تعلم فى اعماقك انك سواء ربحت البطان ام لم تربح فان خيارات السارة معلومة وهى ابعد من السماء بالنسبة اليك ... لماذا تهد المعبد على رأس (احمد) وهو لم يسىء اليك ولماذا تجعلنا مضغة فى الافواه ؟؟ 
وتتذكر الان يا طه يد (آمنة) المخضبة بالحناء وهى تمسك بك بقوة لتحول بينك وبين (حامد) فى ليلة عرسك ... كانت تعلم مدى حبك لاحمد وكانت تدرك ما تنوى فعله بحامد لكن يدها اللدنة الممسكة بك ونظراتها المتوسلة وصوتها الخفيض الذى يأتيك الان من كل مكان وكل اتجاه مع هسيس اغصان النخيل :- (خليهو يا طه ... عليك النبى يا طه ... عليك النبى ما تقوم .. طه .. طه .. طه ..طه..) يأتيك الصوت (طه .. طه) من كل مكان ..تنهار باكيا تجثو على ركبتيك وتصرخ بأعلى صوتك (امونة .. امونة ..) وتجهش بالبكاء ... ومن لطه بعدك يا امونة ؟ من ؟ تويماتك تركن طه وحيدا ... حلقن باجنحة من حروف صوب مدن تتسع لطموحات طبيبات واطباء وتركن اب هشيم بلا حكيمات ولا حكيم ... وتركن طه للذكريات ومعيشة ضنكا لا تخفف من وطأتها الدنانير العابرات اللاتى يرسلنها كل شهر ولا تشبع جوعه الايام القلائل التى يحلن فيها ضيفات على ابو هشيم هن واحفادك اللذين لم يتسن لك ان تكحلى عينيك بمرأهم ... من لطه يا امونة سواك ؟؟ من يدرك غضبى وفرحى واعتلالى وصحتى دون ان انبس ببنت شفة ؟؟ من يقدر على كبح جماحى ومن يعظم فى عينيه نجاحى سواك يا امنة ؟؟ واى انثى تلك التى اقوى على البكاء فى حضرتها ودفن رأسى فى صدرها سواك ؟؟


الفصل الثاني

خيوط الشجن


                                احمد ود البشرى وبت الحاج وأشياء أخرى  

من محطة القطار فى مدينة عطبرة تسللت عائدا يا احمد الى حيث اخفيت سيارتك وسائقك بعيدا عن الانظار ، انتصب السائق واقفا باحترام حين تبينك قادما ، القيت نفسك فى جوف السيارة دون اى كلام ، وطوال المسافة بين عطبرة والخرطوم كنت تسترجع حياتك الجديدة من مكان ما فى الذاكرة المحتشدة بالتفاصيل ... كنت تسأل نفسك :- 
(لماذا اخفيت سيارتك وسائقك عن اعينهم ؟؟ هل تخجل من نجاحك ؟) ، وتتذكر صوت ابيك (الناس هنا لا يحبون من يأتيهم بما ليس فيهم ... إذا اردت ان تعيش محبوبا فعش مثلما يعيشون ولا تشذ عنهم ابدا ... اذا فعلت ذلك خسرت كل شىء وحلت محلك (طظ) كبيرة ... سيقولون ببساطة ( من يحسب نفسه ... الم تلد النساء مثله ؟؟ طظ فيه وفيما يملك ... من الذى يحتاج هوانا مثله ؟؟ )الناس هنا إذا احبوك وضعوك فى السماء وإذا كرهوك خسفوا بك الارض . ) . هل كنت تنفذ وصيته يا ترى ام انك كنت تخشى ان يظنوا بك الظنون واخر عهدهم بك يتيما من اسرة متوسطة الحال ليس له سوى حظ يسير من التعليم وآمال كبيرة ؟؟ تبتسم ساخرا من نفسك حين تسمع صوت طه غاضبا ومعاتبا يجيئك من مكان ما من الذاكرة :- (بنيتم قصورا فى بلاد ليست بلادكم وتركتم بيوتكم خاوية لتسكنها العقارب والثعابين بدلا عن الناس ... لم يعد لديك بيت فى ابو هشيم يا احمد ... مجرد سفينة من الطين الاخضر غارقة فى بحر من الرمال يعرف البعض انها كانت ذات يوم دارا تموج بالحياة ولا يصدق معظمهم ان صاحبها حى يسير بين الاحياء او انها كانت مسكنا ..) تقول له فى قنوط :- (كيف نبقى فى بلد يموت فيها المرء بسبب عدم وجود طبيب ؟؟ كيف نبقى فى مكان يتعين فيه ان تصغر أمام نفسك لتكبر فى اعين الاخرين ؟ اليس البقاء نوعا اخر من (البطان) واحتمال الالام دون مبرر يا طه ؟ )  ضحك طه  بمرارة وقال :- (الاحتمال ؟؟ انها مشكلتك الازلية يا احمد ... لا تريد ان تفهم ابدا ان مفتاح حياتنا ومفتاح حياة اجدادنا وسرها هو هذه الكلمة التى تلخص كل شىء الاحتمال ... وما العيب فى الاحتمال ؟ وبرأيى لا احد يستحق شيئا لم يحتمل مشقة الحصول عليه ابدا ...)  ، إمتقع وجهك فقد بدت لك كلماته صفعة مباشرة :- (انت لم تستحق الحصول على السارة لانك لم تقاتل للحصول عليها .. انت لا تستحقها )، كنت اكيدا من انه كان يقصد ذلك فهو وابيك ينتميان الى طينة واحدة من البشر تفكر بذات الطريقة وتعبر عن نفسها مباشرة دون تخفيف لوقع الكلمات او تزيين لها ... من يدرى ربما كانا على حق ... ربما لو عاد الزمان القهقرى لتصرفت بطريقة مختلفة فى ليلة عرس طه .. طريقة تتفق مع ما انت عليه من نجاح وقدرة على بلوغ الاهداف ... كنت صغيرا وقتها وكنت تسبح فى بحر من الرمال و لا مجال لبلوغ ضفة امنة ابدا .. كانت الريح تزأر بقوة وتحمل حبات الرمال الصغيرة وتحيلها سوطا ذى روؤس متعددة وتنهال بها على جسدك الصغيرفتغطى فمك بيديك فتلسعك الرمال فى كل جزء من جسدك وتحشو اذنيك وانفك اطنانا منها و لا تجدحلا سوى الركض ... تركض باقصى ما تستطيع من قوة ... تسمع صوتا  يناديك ان اسرع تعال يا تؤامى .. يبدو لك (امحمد) ممتطيا حصانا ابيضا يسير فوق الماء دون ان تبتل حوافره يناديك بطريقته المألوفة حين يكون مأخوذا بشىء ما ويرغب ان تشاركه فيه ... تركض باتجاه الجروف ... تتدحرج ككرة من الطين من اعلى المشرع  الى جوف النهر كما تدحرجت امك فى ذاك الصباح يدوى صوت ارتطامك بالماء وكأن اكبر نخلات ابو هشيم قد هوت فى جوف النهر ... يختفى صوت (امحمد) ويختفى وجهه ويغيب الحصان بأكمله فى النهر شيئا فشيئا لا يبقى منه سوى عرف طويل اسود اللون تمد يدك لتمسك به فتجدها قابضة على حجر جدتك الاسود المبروك والنهر ساكن ولا شىء سوى الظلام واشجار النخيل الواقعة بين البيوت والنهر تبدو كأشباح غامضة تتهامس بأصوات خافتة حول شىء ما ... وتتذكر تلك الليلة بوضوح منذ اللحظة التى تقدم فيها (حامد ود نور الدايم) نحو الساحة وفى عينيه تلك النظرة وحتى اللحظة الحاسمة التى ادرت فيها ظهرك للمكان كله ... للسارة ، ولجدك ، ولحامد ، ولكل شىء ويممت عائدا صوب النهر صوب الصخرة عند الضفة وحجر بت الحاج المبروك التي كنت ترى وجهها مضيئا كشعلة من النور اتت من السماء ورافقتك على طول الطريق ... كان وجهها مضيئا وفمها ليس خاويا من الاسنان مثلما رأيتها اخر مرة قبل رحيلها ببضعة اشهر بل كان فمها مضيئا هو الاخر بصف اسنان من اللولؤ الابيض الناصع كالحليب ... شعرها الاسود الذى تخالطه شعيرات بيضاء بات الان كله ابيضا لكنه بياض اقرب الى لون الذهب منه الى لون الحليب ولكنك حين تمعن النظر فيه تبدو الشعيرات المكونة له خضراء كسعف اشجار النخيل ... تنظر الى وجهها يبدو لك الخد الضامر ذى  الغمازتين وتبدو الشلوخ التى تتوسط الخدود كأنه قد تم تجديدها من جديد وكلوحة اعلانات حديثة تبث فى كل ثانية صورة جديدة يتبدل لك الوجه سريعا ويحل محله وجه امك الممتلىء بذات الشلوخ لكن وجه امك يميل الى السمرة اكثر .... سمرة كلون الذهب ... قبل ان تتبينه يعود وجه  بت الحاج مجددا  ويملاء الفضاء ويغيب وجه امك تماما لا يبقى منه شىء الا ذكرى غامضة فى ذاكرتك .... تنظر الى وجهها جيدا وتصرخ قائلا :- (جدتى ... اين نظارتك ؟؟ كيف تخرجين بدونها ؟) ضحكت الجدة وقالت :-     (القليب هو البشوف يا ولدى ... القليب مو العوينات تعال يالمبروك تعال غسل وجيهك فى حجيرى المبروك ... ادعك عويناتك بى مويتو ... اخد لك قعيدة وسلم على امحمد وقول للكليب اليهوهو جر ...) ، تبدو (بت الحاج) فى ابهى حلة بثوبها الابيض ومركوب الجلد الاحمر فى الاقدام الصغيرة والسبحة الملونة ذات الخرز الليمونى التى اشترتها من احد التكارين عابرى القرى ببضاعة فريدة ذات نهار ما  تلتمع فى يدها اليمني ويبدو كم فنيلة الصوف الخضراء التى جلبتها معها من احدى رحلاتها الى الصعيد وكأنه النصف الاخر المكمل للسبحة وتكتمل اللوحة بمشهد الحمارة البيضاء القصيرة ذات الشعر الناعم والعيون الحزينة وعلى ظهرها سرج صغير من الخشب فوقه بردعة فاخرة حمراء مطرزة الحواش تتقدم من زاوية وتساعد بت الحاج فى امتطاء ظهر الحمارة الممتثلة فى هدوء السعيد بحمل خفيف لا تحظى بمثله بنات جنسها فى اغلب الاحوال ... مثل سائر النساء فى اب هشيم لا تمتطى بت الحاج الحمار كالرجال بل تجلس كما يجلسن على ظهور الحمير والاقدام تتدلى من جانب واحد فقط وليس من الجانبين ولا تمنعهن تلك الجلسة من ترويض الحمار وتوجيهه بالعصا فى الايدى الى حيث شئن وهكذا كانت بنت الحاج تبدأ رحلتها السنوية من ابو هشيم الى الجزيرة (ارتل) حيث نخيل اجدادها واحفادها قد ازف موسم حصاده ، كنت لما تزل بعد صغيرا فتقف ترقبها باشفاق وهى تعد العدة لرحلتها مع رفقة صغيرة تكون من النساء فى الغالب او بصحبة احد الصبيان من احفادها العديدين ، كنت تتساءل فى صمت (هل يستحق التمر الذى تجلبه بت الحاج من هنالك كل هذا العناء ؟؟) وحين تنظر الى وجهها عميقا تدرك ان الامر بالنسبة اليها ليس مجرد رحلة لجمع الحقوق او حصاد التمور ... كانت تمسى سعيدة كالاطفال مع اقتراب موعد الرحلة وتتورد خدودها عافية وتبدو اصغر سنا مما هى عليه واوفر نشاطا واكثر رغبة فى الممازحة والانشاد بصوتها الشجى الذى لا يخلو من عذوبة وكانت تبدو إنسانا اخرا مختلفا وكأن روحا جديدة تستوطنها فى تلك الايام وتتملكها رغبة عارمة فى الحديث عن اصول العائلة الممتدة فى التاريخ وفى الامكنة فتحصى نسبا يمتد حتى يرجع الى بنو هاشم فى صحراء نجد مهد النبوة فتدعو صادقة :- (سريع النهمة ان يلحقنا وينجدنا) وحين تحصى الامكنة تكتشف ان شجرة العائلة مثل سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة حملتها الرياح ونثرتها فى كل الاتجاهات والامكنة ، وكانت الى ذلك عالمة فى تاريخ اشجار النخيل وتسمى كل شجرة باسم من غرسها فهذه شجرة (ابو الحسنين) وهذه شجرة (جودابى) وهذه شجرة (النسيم) وتحصى باصابعها اسماء الوراث لكل شجرة وعددهم ومن رحل منهم ومن بقى على قيد الحياة ... وتحرص على عدم تداخل الحقوق والوراث وحماية الحقوق من التعدى عليها حرصها على عدم تداخل الانساب لذلك ظلت طيلة حياتها ذات كلمة لا ترد فى شأن الحق وصاحبه فى كل شبر من الجزيرة ارتل وجهات الضياباب بأبى هشيم ، كانت تقضى بالحق على نفسها وعلى الاقربين وتحمى حق الغائب والحاضر من اصحاب الحقوق وتفخر دائما بأنها تنتمى الى نفر لا تبتلع حلوقهم مالا حراما او فيه شبهة حرمة وكانت تغالى فى ذلك الى حد انها تشترى ما تأكله فى بيت ابنها وفى بيت زوج بنتها من حر مالها ولا تقبل فى ذلك فصالا او جدالا .. وبلغت فى ذلك مبلغا لم يبلغه غيرها حين جهزت بنفسها من حر مالها كل مستلزمات دفنها قبل رحيلها باشهر عديدة واودعته امانة عند احدى بناتها واوصتها ان يدفنوها فى ارض مملوكة لها ابا عن جد ، ظلت كريمة كالعهد بها حتى اخر رمق فيها فقد كانت الحمى تفتك بجسدها الهزيل وبقيت عيونها الصغيرة ملتمعة ببريق الحياة ومشعة بابتسامة رضى لا تخفى على احد ... كانت انفاسها تتلاحق وصوتها خافتا يجىء من مكان ما :- (عافية منكم ... عافية منك يا امحمد وراضية عنك شقيش ما تقبل ... عافية منكم ... احمدك ياربى ... حامدة وشاكرة ... حامدة وشاكرة ...  ) يخفت صوتها وينتظم تنفسها وتغيب فى النوم والوجه مضىء كقمر عند إكتماله بدرا والشعيرات البيض تبدو حول وجهها الاسمر المائل الى السواد كثريات تتدلى من سقف فى بهو انيق ... هكذا رحلت ... كملاك هبط من السماء وعاد اليها فى هدؤ وسكينة رحلت بت الحاج ذات صباح والمؤذن ينادى لصلاة فجر هى الوحيدة فى حياتها الطويلة الحافلةالتي لم تدركها حاضرة بعد الوضؤ عند حجرها المبروك ... كان صوت المؤذن اعلى من نشيج النسوة كأنما القدر اراد ان تودع بت الحاج الدنيا بصوت الاذان وليس بصوت النسوة النائحات . إنحدرت دمعتان صغيرتان رغما عنى فمسحتهما بطرف الجلباب وانسحبت خارجا ومضيت فى طريق اعرفها كراحة يدى وكأن خيوطا غير مرئية تقودنى الى هنالك وجدتنى اتدلى هابطا باتجاه النهر حتى بلغت حجرها المبروك ... خلعت  نعلى وحملته فى يدى كما تفعل هى ... عبرت المسافة القصيرة بين الضفة والحجر خائضا واستويت جالسا فى ذات مكان جلوسها وضعت نعلى خلفى بعناية واستقبلت القبلة ثم شرعت فى الوضؤ على مهل فى تأن وطمأنينة و اخرجت كورة الطلس الخضراء الصغيرة من ثيابى كما تفعل عندما تفرغ من الوضوء ‘ عبأتها بالماء ثم افرغتها فى جوفى كلها واعدت تعبئتها بالماء من جديد ثم استدرت وحملت نعلى فى يد والكورة فى اليد الاخرى وقفلت راجعا الى الضفة لاداء الصلاة .. صليت كما لم اصلى من قبل ولا من بعد ، كنت اهتز بنشيج مكتوم وانا اصلى بلا انقطاع ، صليت صلواتى وصليت صلواتها وقلت بصوت متهدج باك :- (ياربى تقبل عنها ... ياربى تقبل صلاة عبدك بن عبدتك ... يا ربى تقبلها عندك ...) .
كان نصيبي ان اكون حاضرا برغم غيابي الطويل ، شيئ ما كشكة دبوس ، احساس غامض ناداني من اعلي هضاب الحبشة وساقني الي ابوهشيم لاكون شاهدا لتلك اللحظات الفريدة المطرزة بطمأنينة من عاش حياته كلها وهو غير مدين لاحد بشئ، كنت احبها مثل ما تحبني واكثر  ولاابالغ  إذا قلت انها كانت معلمتي الاولي فمنها تعلمت العيب والصواب ومنها تعلمت كيف اتعامل مع انماط البشر وقبل ذلك تعلمت منها قاعدة بت الحاج الذهبية : (اذا استدنت من احد لن تقوي علي النظر في عينه ابدا، كل من مالك او مت جوعا ولا تطأطي رأسك لأحد.)
كنت كل ماجعت  او ضاق بي الحال أتـذكر قولها  وامضي مرفوع الرأس.
بدأت من وراء الصفر فى الخرطوم ولكننى بسرعة صاروخ منطلق نحو القمر إنطلقت ... لم يكن هناك ما يعيق إنطلاقى ... لم اك املك شيئا اخشى ان اخسره ولم يك ليثقل كاهلى شىء او احد ، كنت اعرف ما اريد وكنت واثقا من نجاحى ، ما كان يعيبنى فى ابو هشيم اصبح هو سر نجاحى هنا ، كنت دوما قادرا على إتخاذ القرار الصحيح والتراجع عند اللزوم دون ان آبه بشىء او بأحد سوى إحتمال الخسارة ، لم يكن النجاح يحتاج  سوى القدرة على تفادى الخسارة غير المبررة فى الوقت المناسب ،  من غرفة صغيرة تقاسمتها مع مجموعة عزاب من ابناء الشمال لعدة سنوات إنطلقت ... عملت بائعا فى دكان صغير وعملت بائعا متجولا فى الارصفة بنظام العمولة ، لم امد يدى لاحد ، ولم اطلب غوثا او نجدة فى احلك الظروف وكنت دائما قادرا على سداد التزاماتى وعلى جعلها فى حدود إمكانياتى ‘ ثم فتح اخى (صالح) امامى بابا واسعا للرزق دون ان يقصد ذلك عندما ارسل لى حصتى من التمر خلسة فى العام الاول لرحيلى ، هبطت على جوالات التمر كثروة من السماء وانا فى ضنك ومشقة لا يعلم بهما الا الله ... لم اتوانى عن بيعها وتحويل قيمتهما الى رأس مال صغير جلبت به بنا من تسنى ومن هذه الجوالات بدأت حياتى تتخذ مسارا مختلفا ، بت تاجرا يجلب بضائع مختلفة من ارض الحبشة الى امدرمان بإنتظام ، وبت اقضى وقتى بين دراسة إحتياجات سوق امدرمان وحسابات الربح والخسارة وجمع اموالى من التجار الذين اتعامل معهم ومن ثم ايمم صوب الحبشة لاعود ببضاعة منتقاة معروفة الاتجاهات سلفا ...وسرعان ما ازدهرت تجارتى وإنتعشت وإنتقلت الى دار واسعة تتوسطها شجرة دوم كبيرة وإستاجرت دكانا صغيرا فى سوق امدرمان بات مستقرا لتجارتى التى باتت تشمل خليطا متنافرا من السلع  حسب المواسم وحسب المورد الذى تجلب منه البضاعة ، فقد كان هدفى وحيدا فى كل الاحوال ، الربح ومعرفة إحتياجات السوق ، بت لا اذهب الى الحبشة او كسلا خاوى الوفاض كما كنت افعل فى البدايات فقد علمتنى الحياة ان التاجر ينبغى ان لا يهدر اى دقيقة او مال دون الافادة منها فى تحقيق الربح ، ففى سنوات قليلة تبدل حالي و انزلت اللافتة الصغيرة الخاصة بتجارة الجملة وحلت محلها اخرى بأسم (ود البشرى للاستيراد والتصدير) ‘ لم اعد اسافر بنفسى الا نادرا ، بات لدى جيش من العاملين تحت امرتى واشتريت البيت والدكان والدكان المجاور له ، وجاءت السيارة اخيرا لتكتمل صورة رجل الاعمال الذى كنت احلم بأن اكونه .                       

موكب نور الدايم

كنت تائها بلا هدف فى صحراء يتعذر فيها معرفة الاتجاهات ، كانت حياتى بلا معنى ولا لون ولا طعم ، كشجرة من اشجار الطندب التىتنبت فى الصحراء بدون ان تغرسها  يد وبغير رعاية وبغير حاجة الى الماء نشأت فوق رمال ابو هشيم ... مقطوعا من شجرة كأبى الذى اتى الى الدنيا وحيدا دون اخوة او اخوات وغادرها تاركا اياى وحيدا بلا اخوة او اخوات ولا ام ، امى لم ارها قط ‘ لا اذكر عنها شيئا ... لا اذكر متى رحلت ، ولا اذكر من ملامحها شيئا فقد رحلت بعد ميلادى باشهر قليلة ولهذا السبب وحده صار لى اخوة واخوات من الرضاع ، كان ابى مسالما الى درجة المسكنة ، إنطوائيا الى درجة العزلة ، يقضى سحابة نهاره بين النهر وبين الحقل ... يفتح جدولا ويدير وابور المياه او يفككه بغية إصلاحه ، وفى الهجير اللافح يرتدى برنيطة عريضة من السعف ويجوب الارض من اقصاها الى اقصاها وهو يرمى البذور ويسوى الارض ، كان قلما يشكو او يطيل الحديث الى حد ان (على عثمان) اسماه (الخواجه) سخرية وتندرا لقلة حديثه وميله الى العزلة ، ومع ذلك كان ابى خدوما الى درجة تثير الدهشة فقد عرف على طول ضفتى النهر فى اب هشيم شرقا وغربا بأنه لا يستعصى عليه عطل يلحق بأى وابور مهما كان عظيما ، يأتى الناس اليه فيذهب معهم فى صمت ويقضى سحابة النهار او جزءا منه معهم   ولا يتركهم الا وقد عادت الحياة الى وابورهم وتدفق الماء منه ليروى الارض العطشى ، ولم يكن يأخذ مقابل ذلك الجهد شيئا سوى التعب وكلمات الشكر القليلة التى لا تخلو من التندر من قبيل القول (ينطق الوابور تحت يد نور الدايم ولا ينطق نور الدايم) ، كنت ارافقه كثيرا فى رحلاته تلك فاراه وهو يخلع جلبابه ويعلقه فى اقرب شجرة ويبقى بالعراقى والسروال الطويل مشمرا او خائضا فى الطين ومنهمكا فى عمله كمن يؤدى صلاة مقدسة ، يتفصد جبينه عرقا فى ليالى الشتاء الباردة وهو يعمل على ضؤ رتينة او بطارية صغيرة ولا يبتسم الا حين تهدر الماكينة بغتة بالحياة ، كنت انظر اليه بانبهار حقيقى ومحبة ، كان ينهض ويمسح يديه فى مزقة ثوب قديم ويغسل وجهه من الماء المتدفق فى الجدول ويجمع ادواته الصغيرة التى لا تفارقه بعناية فى صندوق حديدى ويتناول الجلباب ويرتديه على عجل ويلقى التحية وينصرف فى هدوء كما جاء .
كنت اشعربالاسى حيال ابى منذ بواكير طفولتى ، كان ينتابنى شعور دائم بأن الناس لا تقدره حق قدره وانهم يعاملونه كما نعامل نحن الصغار حبة الدوم نلهث خلفها بالحجارة وبالصعود الى اعلى الشجرة احيانا وحين نمتلكها بعد جهد جهيد وعنت نعمل اسناننا فيها ونأخذ اجمل ما فيهاثم نلقيها ارضا  بعد ذلك مباشرة ، كنت اراهم يجوبون كل الاماكن بحثا عن ابى بانفاس لاهثة وفضول ورغبة وايمان مطلق بأنه هو المخلص الوحيد وحين يجدونه ويذهب معهم ويهدر الوابوربفعل يديه من جديد لا يعودون يشعرون  بوجود ابى ... يمسى كما مهملا كما كان بالنسبة اليهم من جديد ، كان ذلك يشعرنى بالغضب وبالمهانة وبالرغبة فى الانتقام ، كنت اقول لابى حين نعود من إحدى تلك الرحلات :- (لماذا لا تأخذ نقودا يا ابى ؟ حتى ود حمود العربى  يأخذ مقابلا لقطع التمر ... ) يمسح ابى بيده على رأسى برفق وهو يضحك ويقول :- (انا لست ود حمود يا حامد ولا اقطع تمرا لكى اكسب عيشى مثله انا اساعد اهلى والمساعدة مرؤة والمرؤة لا ثمن لها ..)  ثم يأخذ فى الغناء بصوت رخيم عذب :- (قال ليا كيف اصبر وانا جمرى زايد ... كيف انسى الغصن المن طبعو مايل ، طار قلبى ... اذا الوداع يا قلبى وحبيبى ... اه من بلاى الحير طبيبى ... طار قلبى ... فارقنى حبى ... إرتاح يا رقيبى ..  )  اخذت اغنى معه ونحن نشق المزارع فى طريقنا من اقصى ابو هشيم الى قلبها حيث ديارنا ... كانت اجمل ايام حياتى هى تلك الايام مع ابى ، تعلمت منه الغناء ... لكنه كان يغنى لنفسه بصوت خفيض وانا كنت ارفع عقيرتى بالغناء متحديا ومصادما ومنفثا غضبى ، تعلمت منه ومعه السباحة والصيد بكل فنونه وانواعه وصنعنا بايدينا عشرات المراكب الصغيرة من شجر الدوم وفتلنا الحبال سويا وسط اشجار النخيل ... وإحتطبنا من الخلاء البعيد مرات عديدة وجربنا التيه فى الصحراء ، شيئان فقط لم اتعلمهما من ابى وكانا من ابغض الاشياء الى نفسه وهما إحتساء الخمر والاشتراك فى البطان ... وحدى شققت اليهما طريقى وحين نفضت يدى منهما بعد سنوات طويلة ادركت انه كان محقا فى كرهه لكليهما واننى كنت مخطئا حين ظننت اننى كنت اشق طريقا مختلفا فى الحياة عبر بوابتيهما ، اتذكر قول جدتى ان الرجل يأخذ من اسمه دائما شيئا ما ... ضحكت عندما قالت ذلك وقلت لها :- (ماذا اخذت انا من اسمى يا جدتى ؟ لا اظننى اخذت شيئا!!) ولكن الضحكة تموت فى شفاهى الان عندما اتذكر قولك يا جدتى .. فحين اتذكر ابى ادرك انه كان نورا دائما بحق كما كنت تقولين وانه اخذ من اسمه تلك الطمأنينة وذلك السلام  الداخلى العميق ، فكلما اظلمت الدنيا من حولى بحثت فى ذاكرتى عن وجه ابى وكلماته واغانيه واشعاره التى استودعها طفولتى وذاكرتى المزدحمة ... فتضىء الدنيا ... تهدر ماكينة فى داخلى ويبتسم اصحابها ويحيا الامل في دواخلهم وتزغرد الشتول الصغيرة العطشى فى الحقول ، يحمل ابى ادواته القليلة ويمضى ... اراه يشق الحقول وحيدا ... مرهقا  ... صامتا ... ثم تصير الارض تحت اقدامه بساطا اسطوريا من الريح يحلق به عاليا فوق الحقول واراه وهو يغطى جبينه بيديه من وهج الشمس الساطعة وينظر الى الاسفل كأنه قائد يتفقد جيشه المندفع الى الامام ، اراه ينصت بإهتمام الى اصوات طلمبات المياه حتى يطمئن عليها جميعا ، المح العصافير تطير عن يمينه وعن يساره كأنها جناحان ضخمان لطائر اسطورى ، بت ارى الناس فى الاسفل اقزاما صغارا تخاف ان تدهسها اقدام الطيور العملاقة وهم ينظرون فى دهشة الى موكب (نور الدايم) كما يفعلون عادة عند قدوم القطار نهارا ... اسمع صوت (على عثمان) من الاسفل خافتا :- (دحين ده مو الخواجة ؟؟ قادر الله !! قادر الله !! على الطلاق ياهو ذاتو ....) ، ارى جدتى تمسح يديها بكمها وهى تنهض عن المائدة الصغيرة حامدة شاكرة وهى تقول بصوتها الشجى :- (خيرا دايم) وتمضى دون ان تنظر الى الاعلى ... اتذكر رحلتى الاولى الى عطبرة مع ابى ... كنا عائدين سويا من الجزيرة (مرو) بعد ان قام باصلاح وابور ماء هنالك ... ذهبنا وعدنا بمركب دوم صغير صنعناه بأيدينا ذات يوم وتركناه فى مربطه قبالة شجرة القرض الضخمة عند المشرع التى يستخدمها صبيان الضياباب للقفز منها الى جوف النهرقفزة تسمي بالسبيلق ، كنت اقوم بالتجديف مستمتعا بذلك ايما استمتاع وكان ابى نائما او متناوما على ظهره داخل المركب الصغير وبين الفينة والاخرى اسمع ترنيمة خافتة تدلنى على انه كان يغنى بصوت خفيض غناء لا يريد الجهر به ، كانت المعالم  المألوفة قد بدأت تتضح ، كنت اتبين من وسط النهر ملامح (الخزين) وهو يفتح جدولا وسط اشجار البرتقال والليمون التى تزين ارضه المطلة على النهر مباشرة أمام داره ، كنت اسمع صوت حمار (على عثمان) وهو ينهق بصوت متقطع كأنه ينادى شخصا ما ، يتوقف (الخزين) ... يرفع يده اليمنى بمحاذاة عينيه وهو ينظر باتجاهنا عله يتبين هوية القادمين وحين ارفع يدى بالتحية يستدير ويواصل عمله كأنه لم ير شيئا ، عندها نهض ابى واستوى واقفا فى وسط المركب الصغير والقى التحية بصوت جهور فاستدار (الخزين) ورد تحيته بوجه باسم متسائل .. وحين تجاوزت المركب( الخزين) التفت ابى نحوى وقال بصوته الخفيض (باكر تسافر معاى اتبرا ياحامد ... الليلة تروح المغيرب لى شيخ بليل تكلموا انك مسافر وخلو يديك الفاتحه ... سمعت ...) ، الجمت الدهشة لسانى ، فقد كان السفر فى حد ذاته حلما من احلام طفولتى الدائمة ... كلما رايت القطار مقبلا او مدبرا تساءلت فى سرى متى يأتى اليوم الذى تمسى فيه بداخل القطار يا حامد ؟؟ متى ترى الدنيا وراء (ام سرح) ...؟ حتى اننى فكرت ذات يوم بالتسلل خلسة الى القطار ، لذلك كان اضطرابى واضحا لم يفت على ابى ملاحظته فاردف باسما كأنه كان يقرأ افكارى :- (اذا لم تخبر شيخ بليل ولم تنم باكرا فستبقى فى ام سرح وحدك واذهب وحدى الى اتبرا ...)  . 
 فعلت كل ما طلبه (ابى) منى ... ذهبت الى شيخ بليل واخبرته وطلبت منه الفاتحة بصوت خافت ، لم يخف شيخ بليل ارتياحه لغيابى فقد كنت اكيدا ان غيابى عنده افضل من حضورى فقد كنت الكلمة الشاذة فى طلاب الخلوة واكثرهم جرأة وشقاوة ، ولم اكن احب الخلوة او صاحبها ، ومثل ما كنت اضيق به كان شيخ بليل يضيق بى وبوجودى ، قال لى بصوت هادىء :- (لا تتعب ابيك كما اتعبتنا يا حامد ... روح يالمطيميس ... روح الله يهديك ...) لم انتظر فراغه من الفاتحة وركضت عائدا من فورى الى الدار ، وبرغم اننى اويت باكرا الا ان النوم جافانى تماما وحين لمحت ابى ينهض من مرقده حاملا بطاريته وابريقه فى اليد الاخرى استويت جالسا فى سريرى وصوتى يسابقنى متسائلا ان كان ميعاد الرحيل قد حل فلم يرد ابى على ،.صلينا سويا على عجل واحتسينا كوبين ساخنين من الشاى وودعنا اهل الدار ويممنا صوب المحطة ... كانت المحطة تموج بالحياة كعادتها كلما كان اليوم يوم قطار الاكسبريس المشتهر بدقة ميعاده وسرعة وصوله لعدم توقفه عند المحطات الصغيرة التى تعرف بالسندات ويسميها اهلنا ب (السنيدة) حين يسخرون من قطار (كريمة) المشهور بانه يقف فى جميع السندات مهما صغرت ، وكانت السخرية تبلغ مداها حين يشبهون فلانا بالاكسبريس لسرعته الفائقة وفلانا بكريمة لانه يغشى كل سنيدة فى الطريق فيبلغ محطته المنشودة متأخرا دائما .
ذهب ابى الى نافذة التذاكر واشترى تذكرتين ويممنا سويا نحو سوق ابو هشيم الصغير الذى كان لا يزال يتثاءب، اشترى ابى زوادتنا وهى عبارة عن بضعة ارغفة وعلبتا طحنية ومربى وعدنا الى المحطة ثانية ، كانت اعداد الناس تتزايد بإستمرار مع إقتراب موعد وصول القطار ، عربة الدريسة الصغيرة واقفة على خط السكة الذى لا يسلكه القطار وقد تحولت الى ساحة انتظار وازدحمت بالحقائب وبالمسافرين ... حمير المودعين مربوطة الى شجرة الدوم الطويلة بجوار مكتب البريد الصغير الذى لم اصادفه مفتوحا قط .وكان النادى ساكنا لا حياة فيه ، الدخان يتصاعد من ناحية الفرن ورائحة الخبز الساخن تثير جوعا ومشاعر غامضة فى النفس ، اشجار النخيل بجهة الضياباب تبدو على مبعدة كاشباح غامضة ، يبدو المشهد كله والناس كلهم فى حالة ترقب قلق لشىء ما ... يبدو كأن القطار لن يأتى اليوم ابدا ، انظر نحو السكة الخرساء وانظر نحو ابى الممسك بيدى واغالب تلك الرغبة المجنونة التى تملكتنى فى الركض بعيدا عنه والذهاب الى حيث السكة حديد والرقاد على الارض ثم وضع الاذن على القضيب للاصغاء الى صوت القطار كما نفعل دائما عند الكبرى فى خور أمور والكبرى الاخر الصغير قبالة المدرسة ، كانت تلك لعبة من العاب الطفولة الخطرة والمثيرة التى نعرف عن طريقها ان هناك قطارا قادما من المجهول نحو ابو هشيم فنركض مسرعين لنبتعد عن طريقه قبل ان يداهمنا ونحن نتطفل على مساره ونتجسس عليه . لكننى لم اكن فى حاجة لممارسة تلك اللعبة فى ذلك الصباح اذ سرعان ما خرج الناظر من مكتبه الصغير متهلل الاسارير هامسا بكلمات قليلة سرت كالنار فى الهشيم فى المحطة :- (تحرك القطار من ابوديس .) كان ذلك يعنى ان دقائق قليلة تفصل بينه وبين بلوغ ابو هشيم ، تزايدت الحركة القلقة فى المحطة وتزايدت وفود القادمين من جوف السوق ومن المنازل القريبة الى المحطة وانحنى الصنفور الى الاسفل ايذانا بالترحيب بالقطار ودوى صوت صفير القطار وهو يقترب ، تزايد قلقى وفضولى ولسبب مجهول احكم ابى قبضة يده على يدى اكثر ، ثم اقبل القطار اخيرا يتلوى كثعبان عند الخشة فى مشارف (البشارى)شاهدته خارجا منها ذات يوم في طفولتي البعيدة ومازلت كلما جئت بجوارها ارتجف خوفا منه .
صرت العجلات صريرا متقطعا ثم ارتج القطار قبل ان يتوقف تماما ، إندفعنا نحو احدى العربات ، وفى اللحظة التالية تحقق حلمى الذى انتظرته زمانا وبت بداخل القطار لاول مرة فى حياتى ... مرت دقائق معدودة ثم دوت صافرة اولى ، اعقبتها اخرى ثم إرتج القطار وانطلق .. ركضت نحو النافذة القريبة غير آبه بالجالسين بقربها واخذت فى متابعة النظر عبرها الى ابو هشيم لاول مرة فى حياتى من نافذة قطار مبتعد ، رأيت رفاقى يركضون خارجين من البيوت الطينية الغارقة وسط الرمال باقدام حافية وملابس لا يبين لونها ، ورأيتنى حافيا اركض معهم ملاحقين القطار حتى مشارف خور أمور حيث يهدىء سرعته لعبور الكوبرى ثم يغيب فى المجهول ونعود ادراجنا فرحين دون ان نلقى بالا لارغفة الخبز التى القاها بعض المسافرين تحت وطأة الاعتقاد بأننا نلاحق القطار عن جوع بحثا عن صدقة ، واتذكر ان (احمد ود حليمة) التقط احد الارغفة ذات مرة واعاده كالقذيفة الى حيث جاء مشفوعا بسباب بذىء فصار ذلك تقليدا جماعيا منذ ذلك اليوم حتى ادرك جميع المسافرين ان هذه منطقة يمنع فيها رمى الخبز اوالهبات من اى نوع وكفوا عن ذلك تماما .
بت الان فى جوف القطار الذى لم يكن لامعا بالداخل كما يلمع بالخارج وكان مكتظا بالبشر والامتعة فى كل مكان ، تحت الاقدام وفوق الارفف الخشبية ، فوق روؤس المسافرين وفى الممشى الضيق والممرات وحتى موقع ازيار الماء كان مكتظا هو الاخر بالامتعة ، بدا ركاب القطار لى لاول وهلة خليطا متنافرا من البشر فى كل شىء ، فى ازياءهم المتعددة الاشكال والالوان وفى سحناتهم المتباينة هى الاخرى ، وفى انواع الشلوخ التى تحملها الخدود ، فى طريقة الكلام وفى لهجة الكلام نفسها ، بعضهم متجهم عابس لا ينبس ببنت شفة ، وبعضهم لا يكف عن الثرثرة والصياح بأعلى صوت كأنه يخاطب قطيعا من الصم ، بعضهم ودود بلا سبب ظاهر الى درجة تثير الريبة وتوقظ مخاوفا كامنة غزتها حكايات عديدة عن الاغراب وعن اهل الصعيد فانتابنى شعور جارف بالخوف والرهبة الجم لسانى عن الكلام فأحتميت بأبى ولذت بصمت ناطق وأخذت فى تصفح الوجوه من حولى بسرعة حتى لا يضبطنى احد متلبسا بالنظر اليه ثم تشاغلت بالنظر عبر النوافذ ، لم يكن هناك شىء يستحق إدامة النظر اليه ... فعبر النافذة كان المشهد متكررا كأن القطار ثابت فى مكانه وليس متحركا ... رمال ... رمال فى كل مكان وناحية على إمتداد البصر ... إذا تخللها شىء تتخللها بعض اشجار الطندب المنتصبة فى الصحراء كأنها قطعة اثاث وضعت فى المكان الخطأ ، اما من الناحية الاخرى شرق الخط الحديدى فلا شىء سوى ارض جرداء وجبال تختفى وتظهر تارة قريبة بما يكفى لتبين معالمها وتارة بعيدة الى حد انها تبدو كسراب بعيد تكون موقنا انك كلما اقتربت منه نأى عنك وتباعد . 
واكثر الاشياء إثارة للدهشة انه فجأة تبرز معالم حياة وسط هذا العدم ، فجأة تبرز خيمة صغيرة منصوبة وسط الصحراء واغنام ضامرات وطفل اغبر اشعث ذي شعر كثيف يتهادى فوق ظهر جمل ابيض كالحليب او اغبر كالرمال واحيانا اخرى تبرز إعرابية من العدم وهى تهش اغنامها وتنظر الى القطار نظرة من لا يعنيه هذا الشىء فى شىء ... قلت لابى بفضول الطفل :- (من اين يأتى هولاء الناس يا ابى ؟؟) قال لى ابى بصوت هادىء ودود : - (انهم لا يأتون من مكان ... هنا مكانهم حيث تراهم ... يعيشون حياتهم مثلما نعيش نحن فى ابو هشيم ... ) ، قلت له : - ( لكن ابو هشيم بها ماء وبحر واشجار نخيل وجروف وطاحونة ... كيف يعيشون بدون هذا كله ؟؟ من اين يشربون ومن اين تشرب اغنامهم ؟؟ اين يذهبون حين تأتى الكبتة ؟؟) قال لى ابى كلاما كثيرا وشرح لى اشياء كثيرة ، حدثنى عن حياة البدو وإختلافها عن حياتنا وعن قوة احتمالهم وعن قدرات الجمال وصبرها على العطش وعن الابار التى يحفرونها فى الصحراء ... كان خيالى يحلق بعيدا مع حديثه ودون ان ادرى كنت اعقد فى ذهنى مقارنة بين وجه الاعرابية ووجه الجمل الذى تمتطيه ، احسست احساسا غامضا بأن فى عيونها وعينى الجمل نظرة واحدة ذات معنى غامض واحد ، وبدت لى الاخاديد التى لمحتها فى وجهها مشابهة لتلك الخيران الصغيرة القادمة من الصحراء صوب خور أمور لتتجمع جميعها فيه وتتجه صوب النهر ، من اين تأتى يا خور أمور ؟؟ من اين تجلب كل تلك المياه وتجدد بها شباب النهر العجوز فى كل عام ؟؟ كيف تأتى بالاسماك فى قلب مياهك القادمة من الصحراء المجهولة ؟؟ 
دون ان ادرى السبب احسست ان ثمة رباط خفى غير مرئى بين البدو القادمين من المجهول والذاهبين اليه وبين (خور أمور) ومياهه القادمة من صحارى مجهولة لتصب فى النهر عند مدخل ابو هشيم ... قلت فى سرى لا بد ان هذه الصحراء بها انهار مجهولة لا يعرف  خرائطها الا هولاء البدو وإلا لماذا يقيم ود حمود واهله عند مجرى خور أمور شرق السكة الحديدية ؟؟ من اين جاؤوا وكيف جاوؤا وإستقروا هنالك بعيدا عن النهر ؟ لم اقل لابى شيئا مما انتهى اليه تفكيرى ولكننى عقدت العزم على ان اسأل (ود حمود) اسئلة كثيرة عند عودتى الى ابو هشيم .
وفى لحظة ما داهمنى النعاس وحين افقت على يد ابى تهزنى كان القطار يبطىء سرعته ويتهادى وهو يدخل محطة لم اكن اعلم اى محطة هى حتى لاحت لافتة مكتوب عليها بحروف بارزة (بربر) لم نبق فيها كثيرا... وادركنا (عطبرة) عند الظهيرة ... اذهلتنى المدينة المتدثرة باللون الازرق والدراجات الكثيرة والقطارات والوجوه المتعبة للمسافرين وضجيج المودعين والمستقبلين وصخبهم واصوات الباعة ، بدت المدينة بقطاراتها الكثيرة كأنها محطات عديدة فى محطة ... قارنت بين قضيب السكة الواحد فى ابو هشيم وبين هذه القضبان العديدة التى تمتلىء بها عطبرة ، سألت ابى من فورى عن سبب كثرة القضبان فشرح لى باسهاب عن تلاقى القطارات القادمة والذاهبة وتعدد اتجاهاتها واهمية القضبان لعملية تبديل الاتجاهات ، لم افهم شيئا مما قال إلا حين اقبل قطار اخر متعدد العربات مقبلا من الاتجاه الاخر فى القضيب الموازى لقطارنا ، عندها فهمت ان هذا القطار متجه الى حيث جئنا وأنه سيسلك ذات السكة التى جئنا منها بعد ان تتم عملية تبديل مساره.
سرحت فى البعيد ... قلت لنفسى : - ( لابد ان من اخترع قضبان القطارات كان لديه خيالا خصيبا ووقتا كبيرا ليلهو وحيدا دون ان يقاطعه احد او يعكر صفوه رقيب ما ...) ، لمعت فى ذهنى فكرة مفاجئة إنطلقت سؤالا :- (ابى كم رجلا يقود القطار ؟؟) ضحك ابى وقال :- (ماذا هل تريد ان تصبح سائقا يا حامد ؟؟) قلت له :- (لا ... لكنه سؤال ... لابد ان قيادة هذا الشىء تحتاج الى قوة اكثر من رجل واحد ...)  الجمتنى الدهشة حين قال ابى ان قيادة القطار لا تحتاج الى القوة وان رجلا واحدا بإمكانه ذلك ... لذت بالصمت واخذت اتعثر فى المشى خلف خطوات ابى المسرعة ونحن نشق طريقنا خارج محطة عطبرة لندخل فى المدينة .
وفى عطبرة توالت المفاجأت وتبددت كثير من اوهام الطفولة التى كانت تعشعش فى رأسى ... وفى رحلاتى اليومية مع ابى عرفت المدينة شارعا شارعا ، عرفت مقاهيها العتيقة وازقتها الضيقة وشوارعها الواسعة وبيوتها الطينية مثل بيوت ابو هشيم ، وبيوتها الاخرى الواسعة الكبيرة ذات الحدائق وذات المبانى المختلفة المبنية من الطوب الاحمر والحجر ... شاهدت السيارات لاول مرة فى حياتى هنالك فقد كانت العربة الوحيدة التى رأيتها فى ابو هشيم هى كوامر الحكومة العتيقة ... دخلت مع ابى ورش السكة حديد العملاقة وشاهدت انواعا من القطارات هنالك ، وكانت اهم اكتشافاتى اننى ادركت ان سائق القطار ليس شيطانا او خواجة كما كنا نعتقد فقد شاهدت سائقى القطارات عن كثب وحادثتهم وبادلونى الحديث ووجدتهم مثلى ومثل كل الناس يتحدثون بذات طريقتنا فى الحديث ويلبسون كما نلبس فزاد هذا الاكتشاف دهشتى ولم يشبع فضولى بل اشعل فى داخلى المزيد من الاسئلة ، لكن اكبر تلك الاسئلة كان هو المسيطر على :- (لماذا لم يصبح ابى سائق قطار ؟؟ ما الذى يمنعه من ذلك وهو مثله مثل سائقى القطارات ساحر بلا طاقية إخفاء ولا إدعاءات كاذبة ؟؟).
قلت له ذلك بطريقة اخرى وانا الهث خلفه ذات يوم ونحن عائدان من الورش فى الظهيرة حيث كنا فى زيارة صديق له ، قلت له :- (لماذا لم تصبح سائق قطار يا ابى ؟؟) ضحك ابى دون ان يتضجر من سؤالى او يسخر وقرصنى فى اذنى وقال لى :- (الرجل يصبح ما يريد يا حامد وانا لم ارغب يوما ان اكون سائقا ابدا ... انا اردت دائما عملا لا يأخذنى بعيدا عن ابو هشيم كنت كل ما تبقى من ابى وعائلته الممتدة هنالك وارادنى ابى ان ابقى حتى يبقى اسمه واسم ابيه هنالك ، وانا لم اشأ او ارغب فى ان اخيب امله ، لهذا بقيت وسأبقى ، قد لا تفهم قولى هذا الان ولكننى اكيد انك ستفهمه فى يوم ما وتذكره ...) .
كم كنت حكيما وبعيد النظر ايها (الخواجة) ؟! هل كنت تمزق استار المستقبل وترانى بعدك وحيدا تائها فى مدينة بعيدة عن ابو هشيم وعنك وعن ابيك ؟! هل كنت تدرك ان الدم الذى يجرى فى عروقى دم يحمل فى ثناياه التمرد عليك وعلى ابو هشيم وعلى كل ما تحب ... هل كنت ترانى بعد تلك الليلة المشوؤمة ليلة زواج طه ابو ضراع بظهرى العارى الذى ينزف دما وروحى الموجعة اكثر منه ادق اسفينا بينى وبينك واكتب بدمى طريق الهروب والهجرة الابدية لاموت وحيدا غريبا وظامئا الى كل ذرة من تراب ابو هشيم فى منزل من الطين الاخضر فى زقاق من ازقة عطبرة وحيدا وفقيرا إلا من حب لم ادرك شاطئه ابدا !! هل تغفر لى يا ابى عقوقى ؟! هل تغفر لى طيشى وجنونى ومخالفتى لرغبتك الخجولة فى بقائى حيث بقيت انت لتموت شهيدا وسط اناس لم يدركوا ابدا كم كنت تحبهم وكم كنت تفنى نفسك كالشمعة لاجلهم !؟ هل تغفر لى يا نور الدايم ؟ هل تغفر لى اننى لم احمل من الاسم الذى اسميتنى اياه ذرة واحدة مما فيه ؟ ! هل تغفر الذى لا يغتفر ؟! هل تغفر لى اننى اسقطتك من حساباتى يوم رفضتنى السارة زوجا ورفضنى طه صهرا له ؟! يومها خرجت من عنده وقد اسودت الدنيا كلها فى وجهى وبدت لى ابو هشيم نعشا كبيرا لا يفضى الا الى القبر ، قلت لنفسى وانا خارج من عند طه : - (لم يعد لديك ما يبقيك فى هذه الارض الملعونة يا حامد ، انقطع الخيط الوحيد الذى كان يمكن ان يربطك بهذه البلد الفقر ووالله لا يصبح الصباح علىُ فى هذه البلد الشؤم ابدا ) .
لم ابلغ الدار ولم اودع احدا ... لم احمل حقيبة ... كما لفظتنى ابو هشيم فى صمت دون ان تجرؤ على الافصاح لفظتها لفظ النواة علنا ... يممت صوب المحطة و بقيت هناك حتى الغروب ، نمت اسفل شجرة الدوم الطويلة وأفقت  من نومي بعد حين بدا دهرا، ذهبت صوب النادى ولكنني لم ادخله ... جلت من حوله حتى لا يلحظنى احد ... سمعت ضحكاتهم وهم يلعبون الورق ويتبادلون الحديث ويطلبون الشاى بصوت عال ، وكلما ضحكوا خيل الىً انهم يضحكون على وعلى امالى الخائبة التى تبخرت ، خطر لى ان ادخل النادى كمارد من الجن واضرب كل من فيه قبل ان استقل القطار .... لكن بقية من عقل كانت لا تزال بداخلى منعتنى من ذلك ، بقيت اروح واجىء متحاشيا الناس حتى دوت صافرة القطار ، وحين تجاوز القطار خور أمور فقط ادركت اننى لم اقل لابى وداعا ولم احدثه بنيتى فى السفر ،فهالنى ما فعلت بحقه لكن الاوان كان قد فات ولا مجال للتراجع ، كانت وجهتى (عطبرة) فهى المكان الوحيد الذى اعرفه واعرف كيف ابلغه بخلاف ابو هشيم وكان القطار اكثر عزما منى على بلوغها فأخذ ينهب الطريق نهبا كأنه يقطع امامى طريق العودة عن قراري.
لكن ابى عرف مكانى وعرف نيتى ولحق بى هناك فى ذات الاسبوع وادركنى في اللوكاندة حيث اقمت . اخذنى فى احضانه بعيون دامعةساهمة في البعيدولم يبد دهشة او استنكارا لما فعلت ... لم يقل شيئا البتة ، ولم اقو على النظر فى عينيه او الاعتذار عما فعلت ... لم يعاتبنى كما يفعل الاباء ... ولم يسألنى عن السبب ، بقى معى فى اللوكاندة الصغيرة التى كنا نقيم فيها سويا فى الايام الخالية تلك الليلة وفى الصباح ذهبنا سويا حيث تناولنا إفطارنا ثم ذهبنا الى احد اصدقائه  ، غاب ابى معه ساعة من الزمان وعاد متهلل الاسارير وودع صديقه بحرارة وذهبنا سيرا على الاقدام حتى إنتهينا الى دار صغيرة ذات باب صغير من خشب الدوم ،دفع ابى الباب ودخل فدخلت خلفه وكانت تلك اولى خطواتى للدخول فى دار عشت فيها معظم سنوات عمرى ، لم يعد ابى الي ابوهشيم الا بعد ان أمن لى عملا بالسكة الحديد ودارا صغيرة تأوينى ، وضعنى فى اول الطريق ومضى مطمئنا صامتا لا ينتابه شعور بالزهو لما فعل كما ينتاب البعض فى المواقف المماثلة ، وبدا كانه كان يعد نفسه لكل هذا منذ زمان بعيد وعندما عاد و سألوه عنى لاذ بصمت فسروه بأنه يأس من العثور على ابنه الوحيد .ولكنه كان صمتا يحمل في طياته امتعاضا صامتا من تدخل الغير في شأن لايعني ايا منهم. ولم يكن يهمه ان يوضح شيئا لاحد فلاذ بالصمت اكثر ، اما انا فقد عدت من المحطة وصورة ابى تملاء الفضاء امامى وفوقى فلا ارى شيئا سواها ، وقلت لنفسى وانا استدير عائدا من المحطة:- (مات حامد ود نور الدايم الذى تعرفينه يا ابو هشيم ... مات الى الابد ... وسيولد مكانه حامد اخر ...) عاهدت نفسى فى صمت ان لا اشرب خمرا و الا اتعلق بامرأة مهما تكن ... فى تلك الليلة لم انم ... انتظرت اذان الفجر ساهرا استرجع حياتى كلها لحظة لحظة واحساس بأنها لحظات مهدرة يملوؤنى دون ان ادرى السبب ... قارنت حياتى بحياة ابى فوجدتها حياة عديمة الجدوى وتافهة ، قلت لنفسى لو غاب (نور الدايم) ساعة واحدة لتوقفت الحياة كلها فى ابو هشيم ولبحثوا عنه فى كل مكان ، ولو تغيب (حامد) لسجدوا لله شاكرين اذا ادركوا غيابه والأغلب ان لا يفتقده احد سوى بائعات الخمر فى القرى القريبة والصعاليك والكلاب التى الفت خطواته فوق الرمال فى الاوقات التى يهجع فيها الناس للنوم .
قلت لنفسى لو غاب (طه) لبحث اعدائه عنه قبل اهله حتى لا يفتك بهم اهله ظنا منهم انهم الحقوا به اذى لكن من يبحث عنى سواك يا ابى ؟؟ من ؟؟ وحينها علا صوت المؤذن من المسجد المجاور للدار الصغيرة مؤذنا لصلاة الفجر ، وللمرة الاولى منذ سنوات عديدة وجدتنى انهض واتوضأ والج المسجد مع الوالجين لاداء الفجر حاضرا بخطوات خجلى كمن يعتذر عن غياب طويل .

شوق الطيبة الي طيبة

قلت لامى فى احدى زياراتى لابو هشيم :- (هل تريدين زيارة قبر خالى يا امى ؟؟) صمتت حتى ظننت انها لم تسمعنى فقلت لها :- (يسمونه فى كسلا قبر الغريب وقد زرته وغرست فيه نخلة و كلما ذهبت الى هناك زرته وحمدا لله فان النخلة قبضت وهى تكبر فى كل مرة اراها) ، قالت بصوت هامس :- (ما زالت نخلاته التى غرسها تثمر كل عام هنا ، اراد ابوك ان يجعلها صدقة كلها ... لكنه لما سأل اهل العلم قالوا له (الاقربون اولى بالمعروف يا حاج البشرى.) فامتثل لمشورتهم. ) ، قلت لها :- (هل تعرفين حاج الطيب يا امى ؟؟) قالت :- (ومن لا يعرف حاج الطيب يا احمد ... انه رجل صالح من اهلك القسملياب وكان من حلفاء الختمية الكبار فى كسلا ، كان رجلا طيبا يرحمه الله ...) ، حكيت لها كل ما علمته عن خالى فى كسلا وعن وصية (حاج الطيب) فى ان يدفن بجوار الغريب ، دمعت عيناها وقالت بصوت هامس (رحمة الله عليهما ... هكذا كان خالك فى حياته كلها ، ما إلتقى احدا الا احبه وتعلق به ، الذرية الصالحة تحن الى بعضها ، ما اسعد خالك يا احمد ، لم يكن له رفيق سوء طيلة حياته ونعم برفيق صالح فى مماته ...) لاذت امى بصمت طويل ، بدت لى وقد رحلت الى عوالم قصية ونائية ، دام صمتها طويلا واخذت تتمتم بما يشبه الدعاء فى ضراعة ودموعها تسيل على خدها بلا انقطاع ، انسحبت على اطراف اصابعى فى صمت واستدرت خارجا من الغرفة الصغيرة ولم تند عنها اى حركة تدل على انها قد شعرت بخروجى ... قلت لنفسى وانا خارج من الغرفة الصغيرة واقدامى غائصة فى الرمال :- (لعلى اخطأت ... نكأت جرحا اندمل او كاد ... لماذا ظننت ان عثورى على قبر خالى يسعدها وان زيارتها له قد تكون املا من امالها الصامتة التى لا تصرح بها ؟؟) ، وقفت فى مكانى متنازعا بين رغبة فى العودة اليها والتسرية عنها وتصحيح خطأى ومعالجة نتائج سوء تقديرى وبين احساس بأن عودتى اليها لن تزيد الامور الا  سوء ، وانا فى مكانى ذاك لم احسم امرى بعد جاء الفرج متمثلا فى مجموعة من الاهل اقبلت على الدار مع اخى (صالح) ليسلموا على ويهنئوني بسلامة الوصول ، ووسط التحايا الحارة والاحضان الدافئة والوجوه المألوفة لاناس تركت بعضهم صبيانا صغارا فباتوا اليوم الى هيئة ابى اقرب من الهيئة التى تركتهم عليها ، وسط هذا الضجيج كله نسيت دموع امى والغرفة الصغيرة وسؤالى الذى ظل معلقا بلا اجابة عما اذا كانت ترغب فى زيارة قبر اخيها ام لا ؟؟ .
فى الصباح الباكر اقبلت امى على بوجه باسم وكنت قد فرغت لتوى من اداء صلاة الفجر فادركت انها كانت تنتظر فروغى من الصلاة لتدركنى قبل ان اتدلى هابطا تجاه صخرتى المعهودة ، القت على تحية الصباح ونادت عائشة فجاءت وهى تحمل صينية الشاى وصحنا كبيرا من اللقيمات الساخنة ، اقبل (صالح) مبتسما وعبارته الدائمة تسبقه : - (كيف اصبحتوا ؟؟) ثم اردف قبل ان ينتظر الجواب مخاطبا عائشة :- (اجرى يا الفالحة جيبى لى عمك مويه ساقطة من الزير الطرفانى ... بسراع ...) تابعت عائشة ببصرى وهى تسرع باتجاه الازيار المصفوفة فى ذلك الجزء من الدار منذ طفولتنا البعيدة كأنها مزروعة هناك ... بدا لى بيت ابو الزنان المصنوع من الطين بخرومه البارزة هو ذاته البيت الذى شهدته فى طفولتى البعيدة ، وبدا لى (ابو الزنان) نفسه وهو يدور حول بيته كأنه نفسه  الذى لهونا به صغارا بعد ان اوثقناه بالخيط ، وفى عمق تأملاتى تلك اطلت النظر الى ابنتى عائشة وكأننى اراها لاول مرة ، ادركت انها تودع الطفولة وتتأهب لدخول مرحلة جديدة ، بدأت ملامح الطفلة تخلى الطريق للانثى واصبح فى المشية خفر يختلف عن هرولة الطفلة واندفاعها ، قلت لنفسى :- (لعل الاوان قد أن لترحل عائشة وامها من ابو هشيم الى امدرمان ..) ، افقت من تأملاتى سريعا فوجدت امى  تحدق في وجهي فادركت انها كانت تتابع اتجاه نظراتى وتقرأ افكارى وصدق حدسى اذ قالت لي امى بوجه باسم :- (كبرت البنية لكن ابوها لم يكبر يا احمد ، يبقى الراجل طفل دائما فى عين امو الامهات وحدن بعرفن ده اما الرجال فلا يعرفوا شئيا ابدا ...) ، قلت لامى فى سرى بعد سنوات طويلة من ذلك اليوم :- (صدقت يا امى ... فالامهات وحدهن اللائى لا يشعرن بمرور الزمن ولا يرين اثاره فى وجوه ابنائهن وبناتهن ، يظل الابن وتظل الابنة دائما فى نظر الام ذلك الملاك الطاهر الذى لم يلوثه شىء ، يظل الطفل دائما على حق وتلتمس له الام الف عذر وعذر ولا ترى سوى الابيض فيه ... اى مقدرة على الغفران وعلى الثقة بالاخر زرعها الله فيكن ايتها الامهات ؟؟) ، فى ذلك الصباح انتظرت امى حتى فرغنا من احتساء الشاى ... تنحنحت قليلا ونظرت الى (صالح) ثم الى وقالت موجهة الحديث لكلينا :- (امبارح احمد سعلنى ان كنت دايرة اروح قبر (احمد الامين) فى كسلا  ولاُ لا ... انا ما قت شىء ، لكن بعد صليت العشاء وبعد الخلوق نامت ... صليت تانى ... ندهت السادة كلهم وندهت سيدنا النبى ، ونمت ... فى المنام شفت قبب المدينة ... مدينة المصطفى ... دحين يا وليداتى ان كان الله مقدركم انا بدور امشى الحج وانا كان فى نصيب بعد الحج بمشى كسلا وان كان النصيب ما فى ما فى ابرك من زيارة المصطفى والبيت المعمور ... ) قلت لها :- (طلبك مجاب باذن الله يا امى ...) قالت امى : - (بشرط واحد يا احمد ) قلت لها:- (لك ما تشائين) قالت :- (تأخذ (زينب) وعائشة معك هذه المرة ، ربنا وسعها عليك يا ولدى وليس لك عذر الان ... الله يعلم انا بدورن جنبى وما بحمل فراقن ، لكين الله غالب يا ولدى ...) قلت لها :- (نسافر جميعا الان ان شئت و(صالح) انا شاورتووقلتلوا داير اسوق امى معاى الدورة دى وكتر خيرو قال القول قولك والراى رايك انتى . دحين نروح سوا ، ومن هناك انشاء الله نحج سوا.) ، ابتسمت امى من القلب وقالت بصوت مخنوق : - (الله يبارك فيكم ... الله يبارك فيكم ...) ثم انفجرت باكية بكاء لا حدود له وهى تتمتم مترحمة على والدتها (بت الحاج) وهى تندب كأن امها ماتت فى التو والحين :- (يا حليلك يالملكة ... يا حليلك يالرحتى بى شوقك ... يا حليلك يالما بليتى شوقك لى مدينة الرسول ...) ... صمتنا صمتا ناطقا تقطعه بين الحين والاخر نهنهة وكلمات مخنوقات ، وتدليت هاربا الى حجر بت الحاج المبروك عند ضفة النهر .
طلبت من (صالح) ان يختار لى شتلة من تمر المشرق بعناية ويجهزها لى قبل ميعاد سفرى بوقت كاف ... قال لى بصوته الهادىء القوى :- (لا تحمل هما ، هذا امر هين ...)  وسكت سكتة صغيرة ثم اردف بسخريته المعهودة :- (باقيلك النخلة اليتيمة بتسد فرقة الاهل ؟ والله لو شلت البحر ده فى طرفك البلد ياها البلد والصعيد يا هو الصعيد .. ) كنت اعلم انه على حق فلم اعلق على ملاحظته بشىء ، لكننى انسحبت الى الداخل قلت لنفسى كأننى ارد على (صالح) :- (ربما تكون النخلة اكثر تعلقا بالرمال منى ... ربما تموت حزنا قبل ان تصل دارى ... لكننى اريدها هنالك ، ساسقيها بنفسى كل صباح حتى (تقبض) وتمتد عروقها فى الارض ... سافعل معها كل ما تعلمته من بت الحاج حتى اننى سالوذ بها كما لاذت بها مريم العذراء كلما فاجأنى الحنين او حاصرتنى الذكريات واشتقت الى القيزان والانس مع الصحاب والقمر المنير كالسراج فى السماء) لكننى لم اقل شيئا ولم يزد (صالح) على ما قال بل حمل عصاه فى يده ويمم صوب مربط حماره عند شجرة (العبد رحيم) ذات السبع بنات الواقعة شمال مدخل الدار ، وبعد برهةيسيرة لمحته من فوق الجدار متربعا فوق حماره وهو يصدر صوتا معتادا مستحثا الحمار على الاسراع (عرت ... عرت ...) واختفى سادرا نحو سوق ابو هشيم كعادته كل صباح .
اخبرت (زينب) و (عائشة) بقرارى فتلقينه بهدوء لم أستبن منه حقيقة مشاعرهن تجاه الرحيل ... قالت زينب بصوت خافت بالكاد يسمع   :- (خير ... الله يهون ...) ولاذت بالصمت ، كنت قد المحت اليها مرارا قبل ذلك عن عزمى أخذهن معى للاستقرار نهائيا بدارهن بامدرمان وكان تحفظها الوحيد هو اخذ موافقة امى مسبقا ومحاولة إقناعها بالانتقال معنا ولو بصورة مؤقتة ، كانت العلاقة بين امى وزينب وعائشة علاقة ذات طابع خاص ، فطيلة سنوات إغترابى وغيابى كانت دار ابى هى دار عائشة وامها وكانت دارى مغلقة ... نشأت (عائشة) فى كنف ابى وامى واخى صالح ولم تعرف بيتا سوى البيت الكبير ، اما امها فقد نشأت مع اخواتى كأنها واحدة منهن تزرع معهن حين يزرعن وتحصد من ذات الجرف وتطبخ معهن فى ذات (التكل) ، ويتناوبن العمل فى البيت الكبير من الصباح الى المساء ويتقاسمن اعباء الافراح والاحزان سويا ... يتبادلن (المشاط) وعمل (الجبنة) وحش القش للبهائم وحش السعف من اشجار الصور وصيد الاسماك فى الدميرة وجلب الماء على الروؤس من المشرع لملء الازيار وغسل الملابس عند ضفة النهر  وكان لعائشة فى كل ذلك نصيبا وافرا من الاهتمام والحب والحجاوى والواجبات الى تتدرج حسب المرحلة السنية حتى امست وهى عند اعتاب العاشرة قادرة على اداء كل الواجبات المنزلية أضافة الى اعباء الدراسة التى ابدت فيها تفوقا ونبوغا واضحا ، كنت مدينا لامى واخواتى وابى بهذا كله وبأكثر منه ، فقد كنت اشق طريقى الشاق هنالك وحيدا وانحت فى الصخر ولكننى ما كنت احمل لهن هما ، كن فى يد امينة ودار امنة اكثر من حياتى المضطربة كقشة  فى مهب ريح فى البداية .لاول مرة فى حياتنا سافرنا سويا كأسرة واحدة ، كنت الاب وزينب الزوجة والام وعائشة البنت والحفيدة ، اما امى فلم تكن فقط الجدة او الام بل كانت بثوبها الابيض وإبتسامتها الصافية المطمئنة وذلك الحب الذى يشع منها فيشمل بالحنان كل من يقربها تبدو وكأنها أما للجميع او ملاكا حارسا لكل الركاب فى رحلتهم الطويلة من ابو هشيم الى الخرطوم ... كنت ارقبها خفية كأننى ارقب نجمة فى السماء ، رأيتها تغفو مع حركة القطار الرتيبة ، لكن وجهها كان يزداد إشراقا كلما غابت فى النوم ، خيل الىٌ ان شبح ابتسامة لاح على الوجه رغم إغماض العيون ، بدت لى وكأنها تتحدث معى ، أقتربت منها ، جاء صوتها خافتا :-            (يارحمن ارحم بى جودك ... دلى الغيث ينزل فى بلودك ...) ثم سكتت سكتة قصيرة وعاد صوتها مجددا :- (يا مسعد اسعد بسعودك ... ونحن نصلى على مريودك ... يا رحمن ارحم بى برك ... ياحافظ فى بحرك وبرك ... فى ولياتك اطلق سرك ...) ، جاءنى مع صوتها صوت طار بعيد وتداخل صوت (بت الحاج) وهى تنشد ذات المدحة مع اصوات اولاد حاج الماحى :- (يالخلفا الحالكم مرضية ... يا اهل البيعة العقدوا النية ... التمساح سكن الشايقية ... خلو يروح نسيا منسيا ... يا ابن ادريس عدد نيشانك ... فوق الكل عامر ديوانك ... هم يا شيخ الناس حيرانك ... فى التمساح بين برهانك) .
انبعثت من ذاكرتى صورة بت الحاج ووجهها الوضاء وهى تحكى لى فى الطفولة البعيدة قصة قصيدة (التمساح) الذى منع الناس ورود الماء لكثرة ما التهم من ابرياء فى ضفة النهر ، وإلتمعت فى ذاكرتى صورة ذلك الولى الصالح وهو يستدعى جيوش الصالحين ويناديهم بأسماءهم وكراماتهم ويستنزل بركاتهم لكف اذى التمساح عن الناس ... (لم تنتهى القصيدة الا وتمدد التمساح جثة هامدة عند الضفة وبه اثار بعدد من نده من   الاولياء...) ، قلت لنفسى وانا استعيد تلك الذكريات البعيدة وصوت امى ينساب فى اذنى مع حركة القطار الرتيبة :- (هل روت جدتى لامى القصة نفسها ؟؟ هل حفظت امى القصيدة منها ام انها مثلى حفظتها من جدتها ولم تدرى الا حين تقدم العمر ان امها تحفظ القصيدة وقصتها ؟؟) ، نظرت الى (عائشة) الملتصقة بجدتها كالخائفة من شىء ما ، تابعت نظراتها فوجدتها تتابع المشهد عبر النافذة فى اهتمام ، حدقت حيث تحدق فلم اجد شيئا يستدعى كل ذلك الاهتمام ، احست (عائشة) بنظراتى المتفحصة ، نظرت الى نظرة واحدة طويلة مثل امها فى عينى مباشرة دون ان تقول شيئا ثم اشاحت بوجهها ، بدت لى غاضبة من شىء ما ، هالتنى الفكرة :- (هل هى غاضبة منى ، ولماذا تغضب منى وقد اغرقتها بالهدايا فى حضورى وغيابى ... كنا فى صغرنا لا نعرف الهدايا الا اذا حل بالبلد (تكرونى) عابر وعرض بضاعته فنلاحق اباءنا وامهاتنا بالحاح حتى يشتروا لنا شيئا نتباهى به وسط اقراننا ، اما هى فقد جلبت اليها كل ما وصلت اليه يدى من لعب ومن اساور وسلاسل وحلوى ، فلماذا تغضب منى ؟؟) .  
لاحقا عندما سألت (زينب) هذه الاسئلة قالت لى بلهجة لم اسمعها منها من قبل :- (ولماذا لا تغضب منك ابنتك ؟ الا يكفى انك تركتها فى بطن امها ولم ترها الا وعمرها سبع سنوات ؟ الا تذكر كيف خافت منك وانفجرت باكية وانا اقول لها سلمى على ابيك ؟ ان كنت تظن انك اخفيت إنكسارك فى ذلك اليوم عن الناس فانا لم تفتنى ملاحظتك !! اذا اردت ان تلوم احد فلا تلومن الا نفسك . ) استدارت (زينب) ومضت الى الداخل ، بقى وقع اقدامها يرن فى دواخلى بصورة موجعة ، بدت لى هى الاخرى غاضبة ومجروحة وحزينة ... للمرة الاولى فى حياتى ربما ادركت هول ما فعلته ... كنت كمن ينظر الى نفسه فى المرآة لاول مرة ، كل هذه السنوات التى انقضت كنت انظر الى حياتى بفخر واتباهى حتى مع نفسى بنجاحى ... كنت ارى النجاح فقط ولم ادرك ابدا ان نجاحى كان ثمنه عذاب اناس اخرين :- (ابى) ... (امى) ... (زينب) ... (عائشة) ، اخترت خياراتى ومضيت الى الامام ولم اسمع انينهم ... لم اعبأ بجراح (ابى) ... لم اعبأ بعمره الذى انفقه وهو يروينى كشتلة من شتول النخل العزيزة فى كل صباح وينتظراليوم الذى تساقط فيه النخلة رطبا جنيا عليه ... حتى حين حاول إصلاح ما افسده الدهر لم اعبأ بمحاولاته ... دست على آماله بقسوة وغادرته خلسة دون وداع ... اما (امى) فقد وقفت بيننا كما تقف ذرات صغيرة من الرمل فى وجه عاصفتان هبتا من اتجاهين متضادين فى وقت واحد فلم تقو على الوقوف بوجه ايهما او تفاديهما او منع اصطدامهما او التوفيق بينهما ، وكم كنت ساذجا يا زينب حين ظننت ان هناك انثى تقبل ان يهجرها زوجها هذا الهجر مهما تكن المبررات ، كم كنت قاسيا وانا اخبرها بكلمات ميتة وباردة اننى لا اقوى على العيش هنا بجوارها واننى ذاهب هنالك ... كيف فاتنى ان ادرك ان ذلك يجرح كرامتها كأنثى وزوجة ؟ كيف فاتنى انها سترى شبح امرأة اخرى بين السطور ؟ كيف فاتنى ان ادرك ان الشك فى سبب هجرتى الحقيقى اقسى من الانتظار ومن غيابى؟ .
حين وصل تفكيرى الى هذه النقطة ادركت لاول مرة اننى اقف فى الحد الفاصل بين حياتين ، حياة كانت دوما فى الهامش ... فى المنطقة المظلمة من عقلى وشعورى ... حياة كنت انظر اليها دوما باعتبارها قدرا حتميا لا فكاك منه وليس قابلا للتبدل او التغيير ، مثل (ابو هشيم) ... مثل الرمال ، ومثل (النخيل)يبقى موجودا اردته ام لم ارده ... احببته ام كرهته ... وحياة اخرى مليئة بالحركة والخيارات والقرارات والنجاحات اخترتها لنفسى وصنتها وعشتها ... توشك هاتان على التصادم ، وتمسك كل منهما بخناق الاخرى ... وتثور فى ذهنى اسئلة لم تثر من قبل :- كيف انظر الى وجه عائشة الصغيرة المتجهم ولا ارى ما فعلته بها وبى ؟
كيف انظر الى وجه زينب ولا ارى سؤالها الناطق : ماذا فعلت بك حتى فعلت بى ما فعلت ؟ حملت حيرتى كلها ووضعتها عند اقدام امى ... تسللت الى غرفتها الصغيرة وانتظرتها حتى فرغت من صلاتها وتسبيحها ، قلت لها :- (حرما يا حاجة) قالت بابتسامة واسعة (جمعا) ... عندما إنطلقت فى الحديث لم تقاطعنى وتركتنى اقول كل ما لدى ، ثم نادتنى كما كانت تنادينى صغيرا (تعال يا الدخرى ... تعال ... اقعد جنبى هنا ...) جلست بجوارها فاخذت تمسح على رأسى بيدها فى حنو دافق وقالت :- (الانسان سموه الانسان لانه بنسى يا ولدى ...بنيتك صغيرة وجاهلة وكل ما تقرب منها بتنسى الفات كلو ... وهى ما دايرة شىء غير ابوها ... ما تشيل همها ... اما زينب مشكلتها اصعب شوية ... لكن باقيلك ان كانت ماها باقية عليك كان اتحملت ده كلو ؟ ..زينب مرة عاقلة وراسية وباكر تفهم وتقدر ، انت بس اصبر متل ما صبرت هى والله لطيف بى عباده ... ) لم تقل امى شيئا اخرا ... هكذا كان الصعب عندها هينا دائما وطارئا ، فخرجت من عندها كالخارج من عند طبيب بوصفة ناجعة لمرض مزمن ، وفيما بعد اثبتت الايام صدق تقديرها للامور وبعد نظرها ... فعلت كل ما بوسعى لارضاء (زينب) و (عائشة) وتسهيل وطأة الانتقال من معيشة البلد الى معيشة امدرمان ... بدت (عائشة) فى بادىء الامر برمة وقلقة من حياتها الجديدة خصوصا المدرسة التى كانت مجبرة على قضاء نهارها فيها وسط اطفال يتحدثون بطريقة مختلفة وينظرون اليها كشخص قادم من المريخ ، بل تمادى بعضهن فتندرن على لهجتها الريفية الواضحة ... لكن ذلك لم يزعجها ، كانت تعتز بتميزها عنهم ولا تشعر بأن ذلك يجعلها فى منزلة ادنى ، غطى تفوقها الاكاديمى على الفوارق الاخرى ، غطت قدرتها على القص وسرد الحجاوى من ذاكرتها ومخيلتها الخصبة على كل شىء اخر وسرعان ما باتت محبوبة التلميذات والمعلمات على حد سواء ، وبدا كأن كل حياتها كانت هنا ... ومع تخطيها لتلك الصعاب اخذت شخصيتها فى التبدل ، بات بيننا إلفة ومودة ظاهرة ، لمحت فى عينى امى الرضا والاعتزاز ونظرات التشجيع ، ولمحت فى عيون زينب وتصرفاتها رضا صامتا وتحولا لا تخطئه العين ... فطرقت الحديد ساخنا ، انفردت بزينب وقلت لها دون مقدمات :- (اريد ان نذهب جميعا الى الحج ... امى وعائشة وانت ) . 

                      الهروب الى الزوايا المظلمة                     
                                                                                
كنت دائما واقفة على رصيف الانتظار باحثة عن شىء ما ضاع فى الزحام ولم اتبين حتى ما هو ... لكننى اشعر بأننى اضعت شىء ما ... وابحث بلا كلل عما ضاع منى او اضعته وابحث عن تلك اليد المجهولة التى تأخذ بيدى الى ضفاف آمنة ... كنت اشعر دوما بأننى قابعة فى منطقة مظلمة لا يراها الناس ولا يروننى ... كنت فى البدء طفلة يتيمة مثيرة للشفقة لا يرى فيها من يحبونها سوى ملامح امها ... يستعيدون الذكريات وتنهمر دموعهم .... ينتابنى إحساس غامض بالخوف والرهبة ... اهرب منهم الى حيث الصمت والزوايا المظلمة التى لا يرانى فيها احد ، وتعلمت تحاشى تجمعات النسوة الزائرات فقد بات مسير الاحداث فى حضرتهن معلوما لدى ومكرورا ، تتفرس الواحدة منهن فى وجهى كأنها تريد ان تخترقنى الى الداخل ، تبتسم ابتسامة صفراء ، تنادينى بحنان زائف ، تمسك بضفائرى الطويلة كأنها تتمناها لنفسها ثم تسألنى بصوت هامس كالفحيح :- (انتى بنية منو يا الملكة ؟) اتخلص من اليد الممسكة بى بكل ما استطيع من قوة ولكننى لا افلح فى انتزاع نفسى من اليد القوية والعيون الممتلئة بالفضول ، ولا ينقذنى الا صوت خالتى :- (دى بنية المرحومة ...) فتتراخى اليد الممسكة بى فانتهز الفرصة واولى هاربة واحتمى بالديوان المخصص للرجال وللاغراب حيث لا نسوة ولا فضول ولا اسئلة متكررة ، وهكذا تعلمت فى بواكير طفولتى شيئان لم يفارقانى ابدا ‘ الصمت فى مواجهة الفضول والهروب الى الزوايا المظلمة واحضان الوحدة فى مواجهة الضجيج ونظرات الشفقة الزائفة ، ومن ذلك كله إخترت عالمى ونأيت عما سواه ، عالمى كان صغيرا ولا يتسع لاكثر من خالتى واحمد ومحمد وآمنة وامونة لكنه على صغره ومحدوديته سرعان ما تهدم ، كانت البداية برحيل (امحمد)فى ذلك الفجر الحزين ... كنت شاهدة على رهانهما وعلى رهانات كثيرة بينهما ، فى الامسية التى سبقت ذلك اليوم سمعت همسهما الخافت وفهمت ان النهر سيشهد تنافسا حاميا بينهما وهيأت نفسى للمنافسة ، ولكننى لم اكن مهيأة لما حدث ، صرخة صغيرةاعقبت ضحكات شقية بين التوأمين كانت هى الفاصل بين الحياة والعدم وكانت هى الفاصل بين الحزن والفرح ، سطح الماء ساكنا واحمد يبحث بعينيه ويديه حوله فى جنون ... خالتى وهى تندفع من اعلى المشرع الى جوف النهر ، الضجيج ، الصمت ، أيموت الانسان هكذا وصدى ضحكاته لا يزال يرن فى الاذان ؟
كانت امنة تكبرنى بعامين او ثلاثة لكن من يرانا سوية فى كل مكان وكل مناسبة ويرى كل ذلك الانسجام والتفاهم الذى بيننا يحسبنا توأما جاء الى الحياة فى ذات اليوم والساعة ، كانت آمنة توأمى بالفعل فقد كانت بيننا قواسم مشتركة عديدة ابرزها عدم الرغبة فى التعبير عن النفس بالحديث ، كانت تكفى بيننا نظرة سريعة بدلا عن جملة طويلة يلهث الناس فى توصيلها وشرحها ولا تبلغ عقل السامع ، كنا نتفق فى كراهيتنا للرياء فى الناس والمبالغة فى التعبير عن العواطف وحبنا للزوايا المعتمة وعزوفنا عن كل ما يجعل المرء محور اهتمام الاخرين فقد كنا نؤمن بأنه ما من احد بات محور اهتمام الناس الا وبات محور سهامهم وسمومهم ... كانت آمنة تقول لى ونحن لا نزال بعد صغيرتان :- (اخير لك يا زينب ضفايرك دى تلميها ... مشطيها ولا اربطيها  ... الناس عيونم تقد الحجر ...) وحكت لى قصصا كثيرة عما حدث لنساء البلد ورجالها نتيجة للعين والحسد ، امتلأ قلبى بالخوف ، بت اخبىء ضفائرى حتى عندما نسبح فى النهر، بت اخاف النساء ونظراتهن وتعليقاتهن اكثر مما كنت اخاف و كلما زاد خوفى زادت سطوة آمنة وتأثيرها على ، كانت امونة على النقيض تماما ، كانت تسخر من خوفى وخوف امنة علنا وتفرد شعرها الاسود الطويل حتى يتدلى على كتفيها وتمشطه على مهل عندما تكون الضفة خالية ، وعندما تحذرها (آمنة) من العين وتبدأ فى سرد قصصها تهز امونة كتفها وتقول :- (الزارعها الله فى الحجر بتقوم ، وشيتا ما مكتوب فى الجبين ما بيبين ...) وحين تفرد يديها وتضرب الماء سابحة فيه تتوقف البنات عن السباحة ويرقبن شعرها المنسدل وهو يطفو ويختفى كأنها حورية جاءت من السماء وغاصت فى النيل ... وعندما حدث ما حدث بعد ذلك بسنين عديدة ذكرتنى آمنة بهذا كله وقالت بانفاس لاهثة ودموعها تهطل كالمطر :- (عين السواد واللواد يا زينب ، يا حليلك يا امونة ، يا حليلك يا ست البنات ، اكان ما ها عين الدبيب الشؤم ما لقى فى الخلوق دى كلها غيرك يا امونة ، وود العمدة ما لقى غير اليوم ده يغيب فيه يا أمونة ؟؟) ، بكيناها قبل ان تموت وبعد ان نعاها الناعى قبل وصول الجسد الصغير ليوارى تحت الرمال ، بكيناها ونحن نسترجع حياتها القصيرة الباهرة ، كانت كتلة ضؤ تدفقت من مكان نائى واضاءت الكون كله وكما جاءت ذهبت فجأة وتركت الكون فى ظلامه من جديد ، كانت تضج بالحياة والحيوية منذ بواكير الطفولة ، كانت بنتا وحيدة وسط خمسة ذكور يحبونها حبا لا حدود له فاكتسبت من تلك النشأة المفعمة بالمحبة ثقة بالنفس لا حدود لها وشخصية قوية ذات حضور طاغ رغم انها كانت لا تبحث ابدا عن السيطرة عن الاخرين او لفت الانتباه بل كانت تتصرف على سجيتها ببساطة مطلقة هى التي اكسبتها سحرا خاصا وتميزا ، كان ابوها من اوائل المتعلمين فى ابو هشيم وكان معلما بارزا يشار اليه بالبنان فى كل المنطقة من عطبرة الى ابوحمد ويتمتع باحترام الصغير والكبير ،نال اولاده حظا وافرا من التعليم وبرزوا فيه فتسربوا واحدا تلو الاخر نحو الجامعات والعاصمة ولم يبق معه سوى (أمنة) التى توقف تعليمها عند حدود المدرسة الوسطى التىكانت تمثل اقصى ما هو متاح امام بنات ابو هشيم فى ذلك الوقت ، كان بمقدور أبوها ان يمكنها من التعليم كاملا اسوة باخوتها لكنها كانت تقول ببساطة :- (خاف ابى وامى ان الحق باخوتى الخمسة الذين لم يبق منهم سوى خطابات متقطعة ونقود تأتى من الحين والاخر ، لذلك توقف قطارى هنا ولست نادمة على ذلك ، والله لو وهبت امى وابى حياتى كلها ما استطعت رد شىء من افضالهما علينا .) قانعة بما قسم لها وراضية بجوار والديها ورضاهما عنها اقبلت (امونة) علي حياتها بوجه باسم وهمة عالية الي حد ان من يراها وسط النسوة في تجمعات الافراح والاحزان وهي تروح وتجئ كالنحلة بتلك البساطة وذاك التواضع الجم  لايدر بخلده انها بهذا السمت الريفي الغالب عليها قد عرفت يوما طريق المدرسة  لذلك ولغيره من مزايا وصفات تميزت بها  احبها الجميع وحين وقع اختيار (طه ابو ضراع) عليها بارك الكل ذلك الاختيار وقالوا فيما قالوا( اختار زينة الشباب زينة البنات واميرتهن ) وهمس بعض الخبثاء( ايش جاب طه الأمي لي امونة المتعلمة ) ، وحين سري الهمس وبلغ مسامعنا هرولنا أنا و( أمنة) اليها في الظهيرة عند المشرع حيث تغسل الملابس، نظرت (أمونة ) الينا من الاسفل ونحن باعلي المشرع قبل ان نتدلي هابطات اليها وابتسمت ابتساتها الوديعة الواثقة وقالت بصوت خافت لكنه مسموع: ( الله يغتسكن يا بنوت ديمة جاريات وراء الخبارات، انتن ماعندكن شغلة بلا الخبار؟ )
قلنا لها بصوت واحد: ( أكان كدي السمعناهو  صح....) أومأت برأسها ضاحكة وضحكنا الثلاثة وجلسنا عند ضفة النهر نتهامس ونضحك وصوت بابور مياه يتكتك من بعيد بين الفينة والاخري فيقاطع احاديثنا الخافتة وضحكاتنا البرئية،  كانت سعيدة وكنا اكثر سعادة ليس لكون العريس هو (طه) ولكن لاننا كنا نعلم ان اكثر ما كان يهمها في العريس ان يهيئ لها اسباب البقاء بقرب والديها وكان (طه) هبة عزبزة من السماء بكل المقاييس بالنسبة لها. قالت ( أمونة) وهي ترنو الي النهر كأنها تكلمه هو  ان ابيها كان يحلم دائما ان تتزوج من احد ابناء البلد المستقرين بها ( ممن لم تفتك به سوسة الهجرة) علي حد تعبيره ‘ وذلك حتي يضمن بقائها وكان لايمل تكرار القول: ( نلدا الاولاد ونكبرهم ونعلمهم وفي الاخر ياخدهم مننا الصعيد‘ نزرع وغيرنا يحصد وناكل الندامة ‘ اولاد اللذينة قايلين الرباية وشقا العمر كلو بتسدا بي شوية قروش وشوية جوابات مكتوبة اداء واجب ‘  ترباية السجم والندامة‘ نلد ونملا البيت وفي الاخر نرجع متل ما بدينا ..قردين وحابس.. ؟ تفتكري يابتي ده كلام يرضي الله ورسولو؟) كانت امها تقاطعه بصوت خافت متردد قائلة :- (دى القسمة يا حاج ... ات قبيل قعدت فى حجر ابوك؟ ما مرقت واشتغلت وسافرت .... بعدين انت دايرهم يقعدوا فى البلد الفقر دى يسوو شنو ؟يفتلوا الحبال والله يباروا زراعة السجم !! يا راجل ما تحمد الله  ربنا اداهم قسمة اخير من من قسمتنا ..) ويهدر الاب قائلا :- (انا شقيش ما قبلت كنت برجع لى ابو هشيم وبرجع لى ابوى ، وفى الاخر رجعت وقعدت ، لكن زولا ما بجيبوا العيد لى ابوهو وامو تفتكرى دا فيه خير ؟ ولا انتى عاجبك كلام مرة الناظر الغريبة الفرجت فينا الناس من عطبرة لى حلفا بى غناها :- (اب هشيم بلد التابه بلد القفة والهبابة) تفتكرى هى جاية من وين يعنى جاية من بلدا ما فيها قفة وهبابة !! على اليمين بلدنا لى بلد اهلها جنة عديل كده ...) ، كان ابوها ساخطا وحزينا وهو يرى ابنائه من صلبه يتسربون من بين اصابعه واحدا تلو الاخر ويهجرونه ويهجرون مراتع طفولتهم وصباهم و كان ينظر الى تلاميذه ذات النظرة ويراهم يقطعون كل صلة بجذورهم واحدا تلو الاخر ، يقول ساخطا :- (علمناهم لينفعونا وينفعوا اهلهم ولكنهم ما ان اشتد ساعدهم حتى رمونا رمية الكلاب ، عمروا الدنيا كلها الا ابو هشيم ، تخرج منهم عشرات الاطباء وما زال حكيمنا مساعدا طبيا ... تخرج منهم المهندسون وما زالت بيوتنا هى ذاتها التى بناها اجدادنا بالطين واشجار النخيل والدوم ، منهم القضاة والمحامون وما زلنا نركب الحمار والقطار بحثا عن عدالة بعيدة فى ابى حمد او بربر او عطبرة ، اى شيطان هذا الذى اخذهم منا ؟؟) .
كانت امونة تلميذة نجيبة لابيها ، كان يحبها وتحبه حبا جارفا وتعبد الرمل الذى يمشى عليه ، كانت تحفظ عباراته كلمة ... كلمة ، وتؤمن به ايمانا اعمى ، كانت تقول :- (نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لم يهجر بلده الا مكرها وعاد اليها مكرما معززا ، لم يتركها ابدا ، لماذا يترك الناس بلدهم ؟؟) ، قالت لها آمنة بصوت باتر ولهجة ساخرة (وهى وينها البلد ؟؟ الخلاء والشدر؟ الشقاء والفقر ؟؟ والله مرة الناظر ما قالت الا الحقيقة ... لكن الحقيقة الناس ابتدورها .) .
حين ودعناها الوداع الاخير فى ذلك المساء وهى محمولة فوق حمار والعرق يتصبب منها والحياة تتدفق من عيونها الصغيرة اللامعة وهى تنهرنا بصوتها الخافت الذى يخرج قويا آمرا :- (ما تبكن ، تبكنى وانا حية يا أمنة ؟ الولد ما مات ، وانا اديت طه قبيلة الحمد لله ، ما تبكن يا بنوت البكاء ما بجيب الا الفقر ... ) ، بكيناها وبكينا كل خطواتنا فوق الرمال ، وكل اسرارنا الصغيرة والكبيرة التى تبادلناها وكل المجادلات التى انتهت والتي لم تنته بيننا ، وقصور الرمال التى بنيناها عند الضفة سويا وهدمناها ومشاوير المدرسة ورائحة الخبز والحقول فى الطريق اليها ، اصبعها الصغير وهو يرتفع دائما للاجابة على كل انواع الاسئلة ، غيرة البنات منها ، غمزهن ولمزهن لها ، انتصابى انا وأمنة كملاكين حارسين لها فى وجه البنات الحاقدات بلا سبب سوى الغيرة العمياء ... صوتها الخافت القوى النابض بالحياة فى رحلتها الاولى والاخيرة خارج حدود ابو هشيم الجغرافية ... يالسخرية الاقدار ، كافحت امونة الرحيل والهجرة عمرها كله وهى واقفة على قدميها ، ثم هاجرت هجرتها الاخيرة خارج ابو هشيم رغما عنها على ظهر (حمار) ثم (جمل) فى صراعها مع الموت ، اسلمت الروح بعيدا ، لكن روحها حلقت وعادت الى ابو هشيم ، عادت روحها قبل عودة الجسد الذى احتوته مساحة صغيرة فى اطراف ابو هشيم للمرة الاخيرة ، بقيت هناك كما ارادت متحدة مع التراب الذى نشأت فوقه واحبته حتى الموت ، التراب الذى خرج منه ثعبان كامن واودى بحياتها وحياة اخرى كانت تضطرب فى رحمها قبل ان ترى النور ... لكن حزن ابيها كان هو الاطول وهو الاعمق وهو الافدح ، بكى الرجل كطفل اضاع يد امه فى زحام البشرو اجهش بالبكاء كثور مذبوح ، ترنح الجسد الفارع كنخلة وهوى صوب الرمال ، لم تنجح كل الايادى التى تعاونت لرفعه على رفعه الى الاعلى ، قالوا له (استغفر الله يا رجل ... الموت مصير الاولين والاخرين ...) (الفاتحة) (الفاتحة) بلهجة أمرة ... لم ينجح شىء من ذلك ، ظل الرجل الطويل كنخلة العجوز كدار مهجورة مجهشا بالبكاء بلا انقطاع وعازفا عن سماع اى شىء سوى حزنه ... بكى الرجال ربما لاول مرة فى تاريخ ابو هشيم ... ارتفع عويل الرجال وعلا اكثر من نحيب النسوة ، ثم هوى الرجل فجأة فى هوة من الصمت الطويل ... صار ساهما ... شاخصا فى البعيد كأنه يصغى الى اصوات بعيدة ، يتنقل فى صمت كالشبح ، يرفع يديه بالفاتحة صامتا ، يمد يدا باردة لا حرارة فيها ، ويصافح الناس فى صمت ثم يعود الى عالمه من جديد ... حتى حين توقف قطار الاكسبريس بالمحطة ذات مساء ونزل ابنائه الخمسة منه وتوجهوا الى دار ابيهم لتعزيته وتلقى العزاء لم يحرك الاب ساكنا رفع يديه بالفاتحة كأن من وقفوا امامه معزيين اغراب من قرية مجاورة ... حين اجهش الابناء بالبكاء على كتفه وهم يصافحونه لم تنزل على خده دمعة ، بدا هادئا وجامدا ... عدا عينيه التى كانت مثبتة فى وجوه ابنائه ، تنتقل بينها ككاميرا مصور محترف ... كان فى النظرة شىء غامض ، شىء بقى طويلا فى اعماق الابناء بعد ذلك ، كان فى العيون نظرة اتهام لا تخطئها العين ، فقد بدا كأنه يحملهم مسئولية رحيل امونة الفاجع ، وبدا كأنه سينفجر مثلما يفعل عادة حين تجىء سيرة الهجرة والمهاجرين ، لكنه لم ينبس ببنت شفة ، لاول مرة فى حياته الطويلة الحافلة لاذ استاذ الطيب بالصمت ، صمت تام ظل عنوانا له فيما تبقى من حياته ، بدا كأن قدرته على الكلام كانت سرا تحمل مفاتيحه امونة وحدها ، ظل صامتا وإعتكف تماما بمنزله ، وحين آن اوان سفر الاولاد ... ودعهم بذات الصمت ، كانوا يقدمون رجلا ويؤخرون الاخرى والكلمات تخرج شحيحة خجلى من حناجرهم ... وحين نظر اليهم نظرته الطويلة الفاحصة وقال بصوت بدا غريبا كأنه يأتى من المجهول :- (ودعتكم الله ... ما قصرتوا ... اشوفكم انشاء الله فى العزاء الجاى ، واحتمال ما نتشاوف ... ما معروف يكون عزاء منو ...) تمالك الاولاد انفسهم عدا اوسطهم الذى انفجر باكيا وهو يطوق ابيه بيديه طالبا عفوا ورضاء ... يقول الحاضرون انهم لمحوا دمعة تترقرق فى عين الاب سرعان ما مسحها بكم جلبابه وهو يتمتم بصوت مخنوق مبتعدا عنهم :- (عافى منكم ... عافى منكم دنيا واخره ... عافى .....) واختنق صوته وتحشرج واستدار عائدا وصوت خطواته وهو يمشى فوق الرمال يرن عاليا كطبل بدائى بعيد ويختلط مع صفير القطار وضجيج المودعين ونهيق حمار بعيد ... وقف الابن الباكى فى المنتصف بين ابيه وبين اخوته محتارا تارة ينظر صوب ظهر ابيه وهو يغادر مبتعدا وتارة ينظر صوب ظهور اخوته وهم يسرعون الى الامام للحاق بالقطار فى الاتجاه المعاكس ... تردد الابن قليلا ثم حزم امره اخيرا وهرول خلف ابيه عائدا نحو الدار ...     

                                      الحرث فى البحر

كلما دخلت بيتا من البيوت فى اب هشيم انتابنى الرعب ، رعبا حقيقيا وليس مجازيا ، لم يبق فى الدور كلها الا الكهول والارامل والنساء الطاعنات فى السن ... اطلالا تحرس الاطلال او عنادا يعادل الحرث فى البحر ... اعتصموا ببيوت الطين الغارقة وسط اكوام الرمال وجلسوا فيها مثلما جلس خليفة المهدى الوحيد فوق فروة صغيرة من الجلد منتظرا الموت الزاحف كالطاعون حين ايقن ان الهزيمة قد حلت بجيشه على يد الغزاة ، ومثلهم انفقت عمرى فى التعليم كمن يحمل ماء فوق مقطف من السعف على رأسه ... ينز الماء ويتدفق فوقه مباشرة دون ان ينتبه او يكف عن الحرث فى البحر ... كان حرثك أجيالا ممن كانت صرخة ميلادهم الاولى فوق هذى الربوع  وتخرجوا على يديك ، ولكنهم خرجوا ولم يعودوا ابدا مثل اولئك الذين تنشر الصحف صورهم الشاحبة مشفوعة بتلك العبارة المبرئة لذمة أهل المفقود او التي يراد بها تحسين صورتهم إجتماعيا لا أكثر ولاأقل ... غابوا جميعا فى صمت ولم يتركوا وراءهم سوى اخبار متقطعة تصبح وقودا لحلم الرحيل الغامض لدى من تبقى فى حجرات الدراسة المتشققة باعلى (العدوة) – هل كانت مصادفة ان يختاروا شرق السكة حديد حيث الصخور والارض والجبال بعيدا عن النهر والحقول والنخيل والدور مكانا لبناء المدرسة والداخلية الملحقة بها ؟؟ هل بدأ الاولاد يديرون ظهورهم لابو هشيم منذ ان اختارت ابو هشيم بنفسها ان تدير ظهرها للمدرسة وتضعها ناحية الجبل والصحراء ؟؟ ، قاتلت وحيدا حين ورد اسمك فى كشف التنقلات مشفوعا بالترقية المشروطة بالتنفيذ ، قلت لهم دون ان تيأس :- (الناس عندنا لا يتقبلون الغرباء بسهولة والغرباء تكون اقامتهم صعبة فى بلدة صغيرة مثل بلدتنا ، اتركونى لاهلى واتركوا غيرى لاهله ... هذا افيد للجميع ... ) .
لكنت اسمعت لو ناديت حيا واوجعت لو انزلت كلماتك على شىء غير الصخرة ... تحدثوا عن الخبرات وضرورة تبادلها واكتسابها ... قومية التعليم ... وضرورة افادة المعلم لكل المجتمعات ... ثم زادوا على ذلك بكثير من الكلمات البراقة والتقدير الزائف لقدراتك ومن ثم التهديد الناعم (سياسة الوزارة تجعل الترقى مرتبطا بتوزيع الخبرات .. هذا خط احمر لا تستطيع تجاوزه ، انت سيد العارفين يا استاذ الطيب ) لم تجد بدا من الانصياع (ننحنى للعاصفة قليلا ثم نعود الى القتال مجددا) ودام انحنائك أمام العاصفة اربعة اعوام كاملة بعيدا عن ابو هشيم دون ان تغيب عنها قط ، عرفتك القطارات الغادية والرائحة ضيفا دائما فى العطلات والمناسبات و من ثم عدت الى ابو هشيم ليستقبلك (على عثمان ) ضاحكا (ما قلنالكم العرجا لى مراحا يا ناس) تضحك دون ان تحاول اخفاء فرحتك بالعودة ولهفتك اليها ... ففى ابوهشيم وحدها بمقدورك ان تكون معلما فى الصباح والظهيرة ومزارعا فى الفجر وبعد العودة من المدرسة عصرا وان تكون (الطيب ود محمود) الذى تعرفه رمال ابو هشيم فى كل الاوقات وكل الامكنة واحدا من عامة الناس يركب الحمار ويحش القش ويفلح الارض ويتسلق النخيل ويجوب البلدة من اقصاها الى اقصاها معزيا ومهنئا ومتفقدا للارحام ، كنت تقول لعلى عثمان فى ساعات الصفاء (تعرف يا على نحن متل السمكة ... ان مرقوها من الموية تموت وتعفن فى ساعتها ... ومثل النخلة كان قلعوها بلا عرفة تيبس وتموت ..) يضحك (على) قائلا :- (صدقت يا ود محمود ... اى والله انت سمكة ... لا ... لا ... انت صابونة على بالطلاق ناس الوزارة محل ودوك  تتزلق من الايد وترجع لى بلد السجم دى ، ات يا ود محمود الشقاوة دى العاجبك فيها شنو ؟ المدرسة البودولها الموية بالخرج دى العاجبك فيها شنو ؟؟ تخلى المدارس ام حنفيات وتقعد لى موية الخرج والصفيحة ؟؟) تبتسم دونما انفعال فأنت تعلم حقيقة مشاعره وتقول له :    (انت وكت عاجباك موية المواسير المقعد ك فى البلد الفقر دى وحدك زى الشيطان شنو ؟؟ والله وليداتك ما خلوا زولا ما وسطوه فيشان تقلع من البلد وانت قاعد زى الجبل ...) تموت الابتسامة فى وجه (على) ويصمت فجأة .. تعض على شفتيك ندما ... لقد دست على موقع الجرح بكل ما تملك من قوة فى لحظة انفعال لئيمة ... يلمح (على) الضيق فى وجهك فيتمالك نفسه ويدير دفة الحديث نحو وجهة اخرى ... ما بينك وبين (على) سيرة حياة كاملة تتصفحاها من ذاكرتيكما كأنكما تتصفحان كتابا واحدا ... فى ذات السنة ولدتما ... وفى ذات الرمال حبوتما ... وبين ذات الايادى الحنونة والمدعية الحنان تنقلتما وربما تم ختانكما فى ذات اليوم وعلى ذات اليد ... ذادت صلة القربى التى تربطكما من تشابه المصائر والرحلة ... دخلتما ذات الخلوة وتقاسمتما اللقمة والمشاوير وفلقة الفكى المؤلمة وعانيتما من صعوبة تعلم الكتابة على اللوح ثم برعتما فيها ... وحدها المدرسة انتصبت بينكما وفرقت بكما السبل ، كان (على) الابن الاول لابيه بعد اربع بنات لذلك اراده ابوه مزارعا الى جانبه وصم اذنيه عن كل الوسطاء الذين ارادوا ذهاب الابن الى المدرسة مع اقرانه ... كان ابوك اشد المعارضين لمنع (على) من الدراسة لكن (الحاج عثمان) عليه رحمة الله كان من طينة لا يثنيها شىء عما تعتزم ابدا ، فذهبت الى المدرسة وذهب على الى الحقل (بقيت افندى وخليتنا فى زراعة السجم) هكذا يلخص على القصة دون احساس بالندم او الحسد ولكنه كان حازما فى امر تعليم ابنائه كأنه كان يدرك عن طريقهم ما فاته ... ادخلهم جميعا ذكورا وإناثا المدارس فنبغوا فيها وطووا مراحلهم التعليمية كما يطوى القطار المحطات فى حزم واقتدار دون ان يعيقه شىء ... كان ساذجا مثلى حين ظن ان سهمه الذى اطلقه سيعود اليه ، لكن السهام جميعا حلقت مثل اولادى بأجنحة من وهم وطموح وجحود بعيدا نحو مدن لا رمال فيها ولا مياه تنقل بالخرج ولا مناجل ولا حبال تفتل وحين يخطر الحمار فى شوارعها يبدو كشىء جاء من القمر ، كان (على) يحاول كعادته دائما تهوين الامر وتقبله فيقول لى :- (ان درت الجد يا الطيب الاولاد مو غلطانين ، اكان اكبر تاجر فى البلد قلع وسوالو بيت فى امدرمان ، ونحن أكان كنا فتحنا عيونا هنا وربينا هنا وما مرقنا من هنا علا مجبورين لى علاج او شغل زيك كده فالاولاد فتحوا هناك ما هنا واى زول بدور السمح ياخوي...) لفنا صمت ... كنت اعلم أنه يخاطب نفسه ويحاول التسرية عنها والتهوين بهذه الكلمات وان بدت الكلمات موجهة الىٌ انا ... فقد فعلت الشىء نفسه مع نفسى مرات عديدة ، نظرت الى السماء ... احصيت نجومها الشحيحة فى بعض الليالى وعجزت عن احصاء نجومها المتناثرة فى كل مكان فى ليالى اخرى ... التمست للاولاد الاعذار  وما اكثرها وما اشد جاذبيتها ، لكننى لم استطع ان اغفر لنفسى أو لهم ... شىء واحد كان يؤرق مضجعى (هل تبقى ابو هشيم بعد ان يوارونا الثرى ؟؟ ام ان الدور الخاوية المطمورة بالرمال ستتزايد يوما بعد يوم ... تهوى اشجار النخيل ... لا يجد اى مشرع من مشارع ابو هشيم من يهبط منه الى النهر او يصعد من النهر عبره الى الدور ، ثم تتكاثف الرمال حتي  تغطى النخيل والدور والمدرسة واللافتة الشاحبة التى تحمل الاسم فتطمرها  و يأتى زمن يعبر القطار فيه ابو هشيم بدون توقف  وربما يأتى احد احفادنا بعد عدة عقود من الزمان وهو يتحدث كل اللغات عدا العربية وعدا لهجتنا المميزة حاملا خرائطا وادوات تنقيب ليبحث عن آثارنا وعظامنا المطمورة تحت الرمال تلتمع الكاميرات وتتسابق المحطات  الى موقع ابو هشيم الاثرى وتحمل صحف العالم سبقها الصحفى الكبير : اكتشاف وجود دلائل على سبق الحياة فى كوكب ابو هشيم القديم ... اما اذا عثروا على الهيكل العظمى العملاق لجدى الذى كان طويلا كنخلة فانهم سوف يخضعونه للفحص لمعرفة سر قوة عظامه فيكتشف تلميذ نجيب ان السر يرجع الى مادة موجودة فى نوع منقرض من البلح يسمى (المشرق) كان يعيش فى هذه البقعة قبل ثلاثة الاف عام ) .
عندما يبلغ هذيانى هذا الحد اشعر بالرغبة فى البكاء علنا ... اشعر بالرغبة فى ان اسرد ما رأيت على التلاميذ فى طابور الصباح ولكننى اخشى ان اتهم بالجنون وتتم إحالتى الى المعاش لعدم الصلاحية فألوذ بالصمت ... أيها الصمت ما اجملك ... ايتها الاحلام الكوابيس كم انت موجعة ووحشية وقاسية واقرب الى الحقيقة من الامانى .      


نور من الداخل

وتتذكر يا ود محمود ذات نهار قائظ والعرق يتصبب من جبينك ومن جباه التلامذة ... اغلقت الكتاب وقلت لهم :- (دعونا من الدرس تعالوا نتأمل بعض المعانى ... (بالله يا طير قبل ما تسرع تمر على بيت صغير من بابو ... من شباكو بلمع الف نور ... تلقى الحبيبة بتشتغل منديل حرير لى حبيب بعيد ... تقيف لديها ... وتبوس ايديها ... وانقل اليها وفايا ليها وحبى الاكيد) هل تظنون ان ذلك النور الذى يشع من ذلك البيت الصغير الذى وصفه الشاعر هو (نور الكهارب) الذى يضىء المدن ؟ النور هو النورداخل البشر ... السر الالهى الذى اودعه فى الاحبة وفى الاهل ... هذا النور هو الذى افتقده الشاعر فى بلاد الغربة ... ها هى ابو هشيم ترقد نهارا في احضان كتل من اللهب وترقد ليلا فى احضان الظلام لكن النور الذى يستوطن القلوب فيها يكفى لاضاءة العالم كله .. الوطن ليس الاضواء والحنفيات او المبانى الشواهق ... الوطن هو الحنين الغامض الى اناس تحبهم ويحبونك بلا مقابل الوطن هو الحب هو المكان ذي الرائحة المميزة والانفاس مثل الناس وصرخةالميلاد ولكنه لايموت ابدا الوطن هو جدار متشقق في غرفة تحتضن تاريخنا السري والمعلن، وهوالبيوت المعطونة في الذكريات...وهو.. ) ، تتوقف فجأة ... تستشعر الصمت من حولك .... تنظر الى العيون الصغيرة المحدقة بك ... بعضها يلمع ببريق الفهم ... وبعضها بالدهشة ... وبعضها بالخوف ... وبعضها ينتظر جرس الحصة حتى يهرب من تهويماتك والغازك ... تشعر بالندم ، تعود الى موضوع الدرس كالهابط من القمة الى السفح وحين يدق الجرس تطوى اوراقك وتمضى فى صمت والضجيج يعلو فى الفصول ... كم تشتاق ذلك الضجيج وتلك الايام ... انه المعاش ... يحط فجأة كصقر جائع ينقض على فريسته دون ان يعطيها حق الدفاع ثم يطير سعيدا ... لم يعد لديك عيون صغيرة ملأى بالفضول او اذان تستمع ، لم يعد لديك من تلقى اليه بما يثقل روحك سوى (على عثمان) والشلة الصغيرة بدكان (احمد فتح الرحمن) وبزاوية صغيرة بالنادى خصصت لمن يتعاطون الحديث فقط من الرواد ، لم يكن لديك وقت لتتعلم اى لعبة من العاب التسلية ، وان جاء الوقت فان القواعد المحفوظة داخلك تقول ان (المربى) لا يجب ان يقدم القدوة السيئة وإنفاق الوقت فى لعب الورق ليس الا قدوة سيئة ، اما الان ... حيث لا تجد من يستمع اليك ولا يبق امامك سوى متابعة شلة اللعب ومتابعة انفعالاتهم وضحكاتهم فانك تشعر بالندم وتحسدهم على ماهم ما فيه ... تقول لنفسك :- (على الاقل يحققون انتصارات صغيرة زائفة تنسيهم الهزائم الكبيرة الحقيقية وتنسيهم انهم يلعبون الورق على ضؤ لمبة جاز او رتينة فى عصر رواد الفضاء وإكتشاف الذرة !!!) لكن (على عثمان)له رأى اخر :- (انت ابتعرف النادى ده ياود محمود ولا فضيت ليه الا وقت بقيت زول معاش ... لكن على بالطلاق النادى ده طلعوا منه رجال ... النادى ده ذاتو قعدوا فيهو الناس واتلموا راجين القطر الشايلين فيهو الانجليز (على عبد اللطيف) ... فى البكان ده اتلموا ... وعلى الطلاق اليوم داك زول لعب كتشينه ولا ضمنة ولا طاولة ما فى ... فضلنا نزح لامن القطر وصل وقفنا وسالمناه وهتفنا لامن حسنا اتقرش ، ووقت القطر صفر وقف على حيلو فى الشباك يوادعنا لامن خلاص بقى ما بتشاف ...وعلى الطلاق من النادى ده مرقوا الاولاد وركبوا القطر ومشوا الجبهة حاربوا مع الجيش المصرى متطوعين ايام العدوان الثلاثى ، انت نسيت يا ود محمود ، والله رجعت لى اصلك ؟ اصلوا مصيبنا انو المتعلمين بفتكروا الوطنية والفهم حقتهم براهم وحواء غيرهم ما ولدت ...) .
افحمتنى مرافعته الطويلة ... طأطأت رأسى خجلا ربما لاول مرة فى حياتى ، تذكرت رائحة تلك الايام ، تحلقنا حول الراديو الوحيد فى ابو هشيم فى السوق لمتابعة الاخبار فى الاذاعات ، كانت (هنا القاهرة) احلى اغنية حب سمعها جيلنا فى تلك الايام ... مع الذكريات المتساقطة كالمطر دخلت فى هوة الصمت واحترم (على) صمتى ولم يقل شيئا ... قلت لهم كثيرا يا على ... ان النور بداخلهم فلماذا يبحثون عنه بالخارج ؟ لماذا لا يأخذون العبرة من الطيور التى تطير مسافات بعيدة وتعود وبفمها قشة صغيرة ثم تطير بعيدا من جديد لتأتى بغتة ثانية .؟.. لماذا تتجشم الطيور كل هذا العناء ؟ الم يكن بمقدورها ان تقيم حيث توجد القشة ؟ هل تريدون ان تكون الطيور افضل منكم واكثر وفاء للوطن الام ؟؟ انا لا اقول لكم لا تبنوا اعشاشكم ولا تمضوا الى الامام لكن ابنوا اعشاشكم ها هنا ، لا تديروا ظهركم لمسقط الرأس ، لا تتركوا بلدتكم ظامئة عند ضفة النهر ومياه النيل تذهب الى بالوعات الصرف الصحى هناك ... لكنهم  ضحكوا وسخروا مني.. اولادى واولاد الاخرين ، ضحكوا يا (على) ... قالوا (ود محمود جن ..استاذ الطيب عندو سلك عريان ...)  لولا بقية من حياء لرجموني بالحجارة ..كفروا بى فكفرت بهم ... حلفت ايمانا مغلظة الا ازوج بنتى الوحيدة لواحد منهم ... اخذوا عمرى كله فلن يأخذوا بنتى كذلك ، زوجتها طه الأمي نكاية بهم ورأفة بها وحماية لها من الطاعون الذى يجتاح اولادنا كروح شريرة تأتى من مكان مجهول وتأخذ ارواح الاولاد نحو المجهول وتختمهم بخاتم واحد هو خاتم الهجرة والرحيل بلا عودة .
كانت (أمونة) نورى وسلاحى واخر ما تبقى لى من ذخيرة ... كانت اخر المؤمنين باستاذ الطيب ... حتى امها هجرتنى وانضمت الى المعسكر الاخر ، اعماها حبها لاولادها ان ترى عوجة رقبة الجمل ... ذهبت معهم ، لم يبق معى سوى (أمونة) ... الوزارة تخلت عنى هي الاخري ... اطلقت رصاصة الرحمة على حصانها العجوز الذى أفنى شبابه كله فى مدارسها وفصولها ... خطاب مسجل بعلم الوصول سطوره اقل من مساحة الورقة الواحدة التى تكون منها كان هو ختام المسيرة الطويلة ... لم أهتم حتى بتسوية معاشى ... هل احتاج معاشا ؟؟ لماذا ولأجل من ؟؟ هززت كتفى بلا مبالاة وفى اليوم الثانى كنت فى الحقل اعمل كثور فى الساقية وانا أحادث نفسى : - (طول عمرك كنت تحرث فى البحر ، آن الاوان لتعود فتحرث حرثا حقيقيا يثمر ثمارا حقيقية ) ... كانت (أمونة) اجمل ثمارى واخرها ... كنت اعرفها كراحة يدى ... كم هى شغوفة للمعرفة ... لم تكن تقل طموحا عن إخوتها وربما فاقتهم قدرات علمية واستعدادا للمضى قدما ، لكنها كانت تحبنى اكثر من طموحها ، لم ترد ان تتخلى عنى حين تخلى عنى الجميع ... لم تذرف دمعة او تجادل حين ابلغتها بقرارى ان يتوقف قطار تعليمها فى حدود التعليم المتوسط ... هاجت امها وازبدت بتأثير اخوتها وحاول اخوتها محاولات خجولة لإثنائى عن قرارى لكننى كنت مستعدا لكل الاحتمالات ... كانت تلك معركتى الاخيرة ولم اكن مستعدا لكى اخسرها ، قالت (أمونة) لامها :- (يكفينى ما وصلت اليه يا امى ... هذه رغبتى انا ...) ، نظرت اليها امها ثم نظرت الى وقالت بقنوط : - (على كيفك ... اصلو مرمى الله ما بترفع وباكر ما تجى تقولى ظلمتونى والله كانى مانى ...) ثم خرجت من الغرفة غاضبة ... صمتت أمونة هنيهة وقالت لى : - (امى طبعها كده تفور وتزعل وبكره تنسى ... ولا يهمك يا ابوى ...) ، ياللطفلة المسكينة ... كانت تهون على مصيبتى وهى الاحوج الى من يهون عليها مصيبتها ... وحين جاؤوا بها على ظهر حمار فى ذلك اليوم ايقنت اننا جميعا قتلناها ... انا الثعبان الذى لدغها اول ما لدغها بأنانيته وعناده واحلامه الوهمية حين انتصبت فى وجه طموحها واصدرت حكما اشبه بحكم الاعدام واوصدت باب التعليم فى وجهها ... ربما لو لم افعل لكانت حلقت باجنحة التعليم بعيدا حيث هى امنة من لدغة الثعبان وحيث الاطباء بعدد حبات الرمال فى قيزان ابو هشيم ... قتلها اخوتها بانانيتهم وتنكرهم لابو هشيم ... لعلهم لو آثروا على انفسهم وبقى احدهم طبيبا بابي هشيم لما حدث لامونة ما حدث وقتلها (ود العمدة) حين سافر وترك البلد بلا حكيم ولا دواء ... وقتلتها امها حين وقفت مع اخوانها ضدى وحين استسلمت هى واخوتها لقرارى ، قلت لاخوتها بعد ان انفض المعزين وهدأت الدار :- (هل تعرفون كيف ماتت امونة ؟؟ امونة كانت حاملا فى شهورها الاخيرة وكانت مع ذلك تبحث بين اشجار الطندب والصور عن اخشاب جافة لتشعل بها نارا لاعداد العشاء ... هل تجمع نساءكم الغريبات اللائى لم يحضرن معكم لعزاء اختكم حطبا من الخلاء لاشعال النار ؟؟ الا تشعرون بالعار حين تديرون البوتجاز ... الا تتذكرون امكم وهى منحنية تبحث عن اغصان جافة لتشعل بها نارا لتطعمكم ؟؟؟ ) لم يقولوا شيئا ... ولم اقل شيئا ... كنت اشعر بان حبلا كان يربط بينى وبينهم قد انقطع الى الابد ... بت زاهدا فيهم وفى حياتى كلها ما مضى مع امونة وما هو ات بدون امونة ... الفارق الوحيد ان روحى مثقلة بالندم وان وجهها الصغير وعيونها الضاحكة ظلت تطاردنى فى صحوى ومنامى وركوعى وقيامى وحين اضرب الارض بالطورية احس الارض تتوجع ويبرز وجه (امونة) من بين الشقوق ... ارمى الطورية ... اهرول عائدا نحو الدار .


عذرا أبى

افتقد مدرجات الجامعة حيث فضول طلابى ينتظرنى ، وافتقد سيارتى التى الفتها والفتنى ، واشتهى اشرطة الكاسيت القابعة فى الدرج الامامى فى إنتظارى ... اشتاق الى ضجيج الاولاد فى كل جمعة عند الذهاب الى النادى ، لكنه (أبى) كهل يغادر  محطة الخامسة والستين والحزن يثقبه وخيبة كبيرة تحاصره ... لا أقوى على مبارحته وهو بهذه الحالة ... لو فعلت ربما لن استطيع النوم طيلة ما تبقى من حياتى ... سيطاردنى وجهه الشاحب وذقنه غير الحليق وشعره الاشيب الكثيف المبعثر فى فوضى كأنه يحتج على شىء ما ... المرارة فى صوته ... الوجوم ... ابحث عن وجهه كما كان محفورا فى ذاكرتى منذ الطفولة ، رجل أنيق حليق الوجه والشعر مصفف بعناية والابتسامة واثقة والعيون عميقة ومؤثرة ... كنا حين نجىء ابو هشيم فكأننا اناسا من كوكب اخر حلوا بها... الطيب المدرس واولاده ... موكب من الاناقة والثقة فى النفس ... صورة مختلفة عما هو سائد فى القرية الصغيرة ، مع ذلك كانت لنا معاناة من نوع خاص، فى القرية حين نجىء مع أبينا فى العطلات ينظر الينا الناس نظرتهم الى الغرباء ... يسخرون من طريقة لبسنا ومن طريقة ركوبنا للحمير ومن جهلنا بالسباحة فى النيل ومن جهلنا بفنون الصيد ومن دموعنا حين تثقب اقدامنا الصغيرة شوكة ما ... كان اندادنا ينتهزون كل مناسبة وواقعة ليذكروننا بأننا لا ننتمى الى هنا ، وكان أبينا فى المقابل ينتهز كل شكوى من جانبنا ليذكرنا بأن وجودنا فى المدينة وجود عابر وان مكاننا هنا حيث ولد هو وحيث يعيش اهله وحيث يعرف الناس اصلنا وفصلنا ويقدرونه وحيث ينتظر ان نعود ... ولكننا حين نعود الى المدينة حيث يعمل يسخر ابناء المدينة من لكنتنا الريفية ومن المفردات التى تأتى معنا من ابو هشيم ، كان يكفى ان نقول (أى) بدلا من (نعم) فينفجر الفصل بأكمله ضاحكا ونسمع من يقول (أى دى هناك هنا نعم ...) ... اتحسس خدى دون ان اشعر فكم من مشاجرة تركت اثرا فيه كان منشؤها سخرية ظاهرة او مبطنة من اصلنا الريفى من أناس إما انهم من اصل ريفى مثلنا وسبقونا الى المدينة او انهم مجهولى الاصل اصلا ويندرجون تحت مسميات مختلفة نستخدمها للسخرية منهم ورد الصاع صاعين اليهم .
لا اتذكر متى بدأ ذلك لكننى فجأة وجدتنى احاول إخفاء اى اثر للكنة اهل ابو هشيم فى حديثى مع رفاقى فى المدرسة وكنت ابذل المجهود ذاته لإخفاء لهجة اهل المدن فى حديثى حين نحل بابى هشيم فى العطلات او فى الفترات التى كان ابى يعود الى العمل فيها ... ولا اتذكر كذلك متى بدأت اجيد لعبة اخرى لاحظى بالاحترام هنا وهناك ، فقد بت حين اذهب الى المدينة احكى قصصا حقيقية ممزوجة بكثير من الخيال عن ابو هشيم وعن الحياة فيها ... احكى فصولا عن صيد الاسماك وكيف اننى برعت فيه وكيف اننا نخرج بمركب صغير فى ظلام الليل ونصطاد الاسماك على ضوء رتينة ، واحكى عن هجوم وهمى لتمساح ضخم علينا ونحن فى القارب الصغير وكيف حاربنا التمساح الضخم بحراب مدببة طويلة نحملها معنا فى القوارب الصغيرة تحسبا لهجوم التماسيح ... وحين ألحظ رفاقى الصغار يبتلعون ريقهم بصعوبة وينقطع تنفسهم اتعمد إطالة الحكاية ... وقبل ان تنطلق الاسئلة المحرجة من الأفواه الصغيرة انتقل بسرعة الى حكاية جديدة عن النخلة الطويلة التى لم يستطع احد ان يتسلقها لقطع التمر الذى ناءت به ، وكيف اننى وابن عمى قد انفقنا ساعة كاملة فى تسلقها وبعد ان فرغنا من قطع سبائط التمر التى عبأت حوالى عشرين جوالا انفقنا ساعة اخرى فى الهبوط من اعلى النخلة ، كان اخى ينظر الى مندهشا مثله مثل الاخرين ، وحين نعود الى الدار يسألنى متى كان ذلك ؟؟؟ اقول له بلا تردد :- (لم تكن موجودا يومها) .
 أما حين نأتى الى ابو هشيم فاكون االنجم المتوج لجلسات الأنس فى القيزان ... كنت احكى لهم عن شوارع المدينة التى تغسل بالماء والصابون مثل صحون الطعام واحكى لهم عن السيارات التى تقودها الشياطين والتى تقود نفسها بنفسها والتى تتحول الى طائرة فى منتصف  الطريق حتى تتمكن من تفادى الزحام وبلوغ الهدف المنشود ... واحكى لهم عن عمارات شاهقة لم اشاهدها الا فى خيالى او فى السينما فى المرات النادرة التى اخذنا فيها ابى اليها فى عطبرة او الخرطوم ، كنت اغدو سعيدا بسيل الاكاذيب التى انسجها هنا وهناك فقد كان ذلك هو سبيلى الوحيد لاتفادى السخرية هنا وهناك ، لكننى اخيرا وصلت الى طريق مسدود ، آن الاوان لكى اختار لم يعد بمقدورى اللعب على كل الحبال طويلا ... هذا ابى وحيدا محطما بائسا ويائسا ولا مجال لكى ادير ظهرى له ... وتلك حياتى مضيئة ولامعة وجميلة وغنية بكل ما ارغب واشتهى ولا مجال لكى اجرها الى هنا ... لا مجال لعالمين متناقضين ان يلتقيا ... خطوط مستقيمة لا مجال لتقاطعها او احتمال ابدا ... كل شىء هنا لديه معنى وصلة بك يا ابى ... حتى الناس اللذين لم تلتقيهم وسمعت عنهم من الاباء والاجداد لهم حضورهم فيك ... لكى يعرفك الناس يجب ان ينقبوا فى كل الامكنة التى لها صلة بك وكل الناس الذين ذابوا فيك وذابوا فى الامكنة فأبيك والنخلات التى غرسها قبل عشرات السنين وما زالت تطعمك وتطعم احفادك موجودين فى كل الامكنة وموجودين فى ذاتك والحظائر التى عاشت فيها سلالات متوارثة من الحمير والاغنام والضان ذائبة فيك وانت ذائب فيها ... الحليب الذى شربته منها جاء عبر الحشائش التى جلبتها لها وجلبها اجدادك مع الماء الى سلالاتها المختلفة ... كل واحد من اجدادك يعيش فى نخلة او موجة بأعلى النهر ... تتنفس الاشجار وتتوجع الارض التى ما زالت تحتفظ بحبات العرق والدماء ... ما زال ذلك الحبل السرى الذى يربط بين الكائنات الحية جميعها مدفونا فى ذراتها ... حتى اننى لو بحثت عميقا لوجدت ان جد الثعبان الذى لدغ امونة ربما يكون قد مات مقتولا على يد احدى جداتنا فى احد العهود الغابرة ... اما انا فاننى موزع بين ابو هشيم ورمالها ومدرستها وبين بيت صغير فى عطبرة فتحنا فيه على الدنيا واخر فى الخرطوم لم يطل مقامى فيه حين اخترت ابو هشيم وطنا دائما ولم يبق امامى سوى داخلية كلية الطب المفتوحة على محطة السكة الحديد فى الخرطوم مأوى ... خطواتى بين داخلية (حسيب) وسينما غرب وسينما BN ومنازل الزملاء بالخرطوم وبحرى فى العطلات الصغيرة التى لا تكفى للوصول الى ابو هشيم ، كانت محفورة هناك اكثر من خطواتى على رمال ابو هشيم ... لقائى الاول مع (سلوى) كان هناك على ضفاف النيل الازرق ذات مساء تسللنا فيه من الجامعة التى كانت تغلى بضجيج انتخابات طلابية لم تعن لى شيئا فى يوم من الايام ، كان رفيقى فى الغرفة مهووسا بالسياسة وظل يصرخ بوجهى (انت آلة صماء يا الياس) اقول له :- (انا طالب ولست اداة فى يد احد) يقول :- (انت لا تعرف شيئا سوى التشريح والكسر) اقول :- (اخير لى اكسر القراية مما اكسر لى رقبة زول مثلما يفعل مهووسو السياسة) فيصمت ولكن الاخرين لا يصمتون ... وصمونى بالسلبية وبأننى (حنكوش) واننى غير مبال بالاحداث الوطنية العظيمة ، ولم يكن ذلك يهمنى فى شىء ... جئت هذه المدينة حاملا قلمى وعقلى وطموحات كبيرة ... كنت اعرف ان الطريق اليها ليس مفروشا بالورود ، كنت اتذكر حكمتك الفريدة : - (اذا اردت ان تنجح فى شىء فعليك اولا ان تختار ما تحبه وان تبذل اقصى ما عندك وان تثابر على تحقيق هدفك وتضعه دائما امام عينيك ، اذا رف رمشك مرة واحدة ونظرت الى الجهة الاخرى فقدت الطريق وفقدت الهدف...) ، كنت دائما حاضرا يا ابى فى كل الظروف كنت داخلى ... اكون مغرورا وجاحدا وعديم الفهم اذا ظننت ولو للحظة قصيرة ان نجاحى كان بجهدى الخالص او بدونك، اتذكر الان بعض ما جرى ... اتذكر وجه (سلوى) مشوشا غائما وبلا ملامح مميزة ... نجمة صغيرة توهجت لفترة قصيرة وتمددت فى ظلام حياتى وسكونها فايقظت احلاما نائمة وظمأ طويلا و لكنها غابت بأسرع من لمح البصر وتبخرت وتلاشت كفقاعة صابون صغيرة طفت فوق وجه الماء لبرهة يسيرة حتى انها من عجلتها لم تنتظر لإكمال دراستها بل لفظت الجامعة لفظ النواة حين عثرت على مبتغاها على طبق من الذهب (وماذا تفعل بدراسة الطب مع تلك الخزانة التى تزوجتها ؟ هل تنقصها شهادة صغيرة تعلقها فوق جدار فى قصرها ؟) هكذا قالت لى (ناهد) صديقتها بكل جلافة ارستقراطية وقحة  تتفضل على واحد من الرعية بكلمات مهينة يستحقها لتطاوله على مقامها الرفيع ، كنت لا استلطفها وكانت تدرك ذلك وتبادلنى الشعور نفسه ولكنها كانت مرغمة على استقبالى بابتسامة زائفة فى حضرة صديقتها ولكن القناع انكشف الان فكشرت عن الأنياب فى وجهى وقالت قولها ببرود جراح منهمك فى معاينة جرح مفتوح ومضت فى صلف وخيلاء كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ ان عرفتنى .
لم يكن من عاداتى ان أشكو جراحى الى احد ، لكن صدرى ضاق بما يحمل يومها فرويت لرفيقى فى الغرفة (مصطفى) ما حدث فقال لى :- (كل الجامعة كانت تعلم ان سلوى لم تكن منجذبة اليك بل كانت منجذبة الى هالة الضوء المحيطة بك فانت اول الدفعة وصاحب النبوغ الفريد والمستقبل الواعد ، طول عمرها كانت سلوى تأخذ ولا تعطى طول عمرها كانت تحرص على الوجود فى دائرة الضوء حتى يراها من يصلح لتلبية مطالبها من الحياة ... لم تكن بالنسبة لها اكثر من فترينة عرض مضيئة جذابة او قل جرس بيد دلال يستدعى الفضول والطامعين ... لم تكن تحتاج الى ضوئك اكثر مما يكفى لالتقاط فتى الاحلام ثم تمضى دون كلمة شكر او وداع) .
قلت له بفزع حقيقى :- (يا مصطفى كفاك ... انت تصور الاشياء بطريقة بشعة ولا ترى سوى الجانب المظلم منها... انت تتكلم عن سلوى كأنك تخطب فى ندوة سياسية لحشد الاصوات ... انت يا ...) قاطعنى مصطفى بعنف قائلا :- (دعنى انا وشأنى ، لكن صدقنى اذا لم تخرج من هذا الكهف الذى تحبس نفسك بين جدرانه فستصبح هدفا دائما للباحثات عن فترينة عرض ...) .. اصطفق الباب  خلف (مصطفى) بعنف وانطلق الى الخارج غاضبا وبقيت وحيدا ونادما على افضائى اليه بسرى فقد كانت اشباح سخرية ابناء المدن منى قابعة فى اعماقى منذ بواكير الطفولة فعلمتنى تلك المخاوف ان انكفىء على نفسى ولا ابوح لأحد بشىء مما يعتمل فى دواخلى ، لكن عبارة مصطفى التى استعيدها الان كلمة كلمة تقلقنى كثيرا فانا لم انتبه بادىء الامر الى ما قاله :- (كل الجامعة كانت تعلم) ويقفز السؤال من اين لهم ذلك ؟؟ كيف عرفوا اصلا اننى مهتم بسلوى علما بأننى لم اقل لها او لأى شخص شيئا ولم ابرز اهتمامى بها بل كنت اخفى حتى ضربات قلبى عنهم وحين تجىء سلوى اتشاغل بصفحات كتاب ما او بالنظر بعيدا ... المرات القلائل التى واتتنى الشجاعة وقابلتها فيها حرصت على ان يكون ذلك بعيدا عن اعين الفضوليين ... لكننى فيما يبدو كنت كالنعامة تخفى رأسها فى الرمال وكل قوامها الباقى أمام الاعين يدل عليها ... تحسب انها طالما لا ترى الناس لا يرونها ولا تدرى انهم يرون عورتها  كانت (سلوى) زلزالا هدم سكينتى وعصف بى بشكل مدمر كاد ان يخرجنى عن اتزانى ومسارى ، لكن صوتك أتانى من الذاكرة ذات مساء من الماضى البعيد قويا وواثقا كأنه نبوءة مسبقة :- (لا تحول نظرك عن هدفك ابدا ... لا تنشغل بأى شىء اخر عنه ، ابقه دائما فى مركز اهتمامك ..) . بكيت فى تلك الليلة وانا احتضنك فى خيالى واستمد من قوتك السحرية سحرا وصمودا ... ذهبت وتنشقت هواء الليل العليل كأننى اتذوق حلاوته للمرة الاولى ، توضأت واخذت اصلى حتى ادركنى الفجر وانا اصلى بلا انقطاع ... صلاة لم ادر ماذا اسميها لكننى كنت محتاجا اليها ، وحين اصبح الصبح كانت (سلوى) قد تبخرت تماما من ذهنى كما تبخرت من حياتى ، لم اعد ارى سوى كتابى وهدفى الوحيد العاجل ... وهكذا طويت سنوات الطب الطويلة دون ان اهتز ودون ان انظر يمنة او يسرة خارج مسارى المرسوم وصوت (ود الامين) يلاحقنى من كل الزوايا قويا دافئا :- (ما افتكرت الحظ يساعد عمرى يورق من جديد ... يورق من جديد ...) .
اعرف انك  سعدت سعادة بالغة لما شفيت من سلوي وانصرفت الي دراستي وتخرجت من  كلية الطب بتفوق  باهر، لمحت دموعك في يوم حفل التخريج في ميدان الجامعة الشرقي حين زغردت امي وهي تراني اتقدم  مرتديا ذلك الروب الأسود نحو منصة التتويج كأنها تزفني عريسا ، كنت ادرك انك تغالب دموعك وتعرف كيف تخفيها بمهارة رجل عاش حياته كلها يبكي دون ان يلحظه أحد أو يدرك الناس كم هو مرهف  ورقيق الشعور، لذلك فانني إخترت اللحظة الوحيدة التي يمكن ان اضبطك فيها متلبسا بالدموع. والآن بعد كل هذه السنين  هل يحق لي ان اتساءل: هل كانت دموعك تلك دموع فرح بنجاح غرسك ام دموع حزن وفجيعة لانك ادركت بقدرتك الفريدة علي التنبؤ ككل الأباء  انني حين ادرت ظهري اليك في ذلك اليوم ومددت يدي لإستلام تلك الورقة الملفوفة بعناية قد ادرت ظهري أيضا لأشياءاخري كثيرة وانني وان كنت قد عدت اليك في حاتمة المطاف في تلك الليلة وعدنا سويا الا انني حلقت بعيدا عن العالم الذي تحبه ابتداء من تلك اللحظة التي كانت هي البداية ( أول الغيث قطرة) ثم جاء زواجي بعد ذلك خطوة اخرى في ذات الاتجاه واتسعت الهوة بيننا وقد كنت اعلم انك كنت تتمنى وترغب ان اتزوج بنت عمي او احدى بنات خالتي ، لذلك لم اجرؤ على محادثتك بشكل مباشر حين عقدت العزم على الزواج ووقع اختياري على امرأة غريبة ، فأكتفيت بكتابة رسالة مقتضبة اليك وأوكلت الى امي باقي المهمة الثقيلة وبقيت على رصيف الانتظار كمن ينتظر حكما بالاعدام ، وحين عادت امي واخبرتني بانك لا تمانع لم اصدق اذني وايقنت بان في الامر شيئا لانك لم ترد على رسالتي كتابة فقلت لها ( هل هو راض حقا يا امي ؟!) ومن نبرة صوتها ومن ترددها لبرهة يسيرة قبل الرد ادركت انها تحاول اخفاء شي ما عني وان ذلك الشيء قطعا هو شعورك بالصدمة نتيجة اختياري وهروبي من مواجهتك وان الامر بات سيانا لديك وان خيبتك كانت اكبر من اي شيء اخر وتخيلت صوتك وانت تقول لها بغضب (اليطير محل ما يطير ، وكت الجية قاسية عليه وابوه ما عندو قيمة عندو ) وقد صدق حدسي حين جاء يوم زواجي وتخلفت انت عن الحضور وتاكد الأمر لدي اكثر حين التقينا لاول مرة بعد الزواج ببضع اشهرحين جئت لقضاء عطلة العيد بابي هشيم ورؤيتك بعد وعكة صحية المت بك ، كنت وحيدا وخاتم الزواج يلمع في يدي اليسرى وحين رايتك تنظر اليه طويلا بعد ان فرغنا من المصافحة وددت لو انني اخفيته ثم جاءني صوتك طافحا بالسخرية (( آها الملكة ما لا ما جات معاك ؟ خايفة تطعنا  شوكة ولا خايفة من ركوب الحمير ؟ )) تلعثمت واخذت احشد كل ما خطر بذهني من تبريرات واسباب لعدم مجيء امل زوجتي معي ولكنني لم اجرؤ على قول الحقيقة المتمثلة في كونها لم تغفر لك غيابك عن زواجنا أو انها قد قالت بصلف: ( ده ابوك وانت مجبور عليهو انا ما مجبورة على شي ) وانني غضبت في بادئ الأمر وثرت  في وجهها وقلت لها انك ابي وانني لست مقطوعا من شجرة ثم عدت والتمست لها الاعذار في خاتمة المطاف واقنعت نفسي بانه ليس من مبرر لغياب اب عن زواج ابنه ومن ثم قررت عدم الضغط على امل والحضور وحدي رغم ادراكي لما يثيره غيابها من تساؤلات محرجة . لم اشعر بفداحة ما فعلته امل وفداحة ما فعلته معك الا حين رأيتك بعد كل ذلك الغياب ، كان الغياب بحساب السنين اربعة او خمسة اعوام فقط ولكنه بحساب الالام والمعاناة وخيبة الأمل كان دهرا فيما يبدو بالنسبة اليك ، بدوت لي لاول مرة شاحبا وهزيلا وغير مهندم وزاهدا في كل شيء ، حتى تلك النظرة المميزة في عينيك لم اجدها ، وجدت رأسا محنيا وعيونا مغروسة في الرمال دائما كانها تحتمي بها من شيء ما .. لم يكن ذلك الذي امامي الان هو ابي الذي اعرفه بل كان شخصا اخرا مختلفا تمام الاختلاف عنه : سالت نفسي : ( ما الذي حدث له ؟! هل يشكو ابي من علة ما ؟! هل يفعل المعاش بالرجال كل هذا ؟! هل تمسي الشجرة الباسقة التي لا تهزها أعتى الرياح غصنا جافا تكسره  لمسة  اليد او بالونا تفتك به شكة دبوس صغير . ) عندما نظرت الى يديك هالني ذلك التشقق وتلك الخشونة الباديتين عليهما قلت لك دون ان اعي ما اقول : ( يا ابوي انت الزراعة دي بتدور بيها شنو ؟! .. كفاك يا ابوي  .. خلاص العليك سويتو .. اقعد في مكانك وارتاح و حقك يجيك معزز مكرم لحدي  عندك .) فاجاني صوتك غاضبا كالرعد : ( قصدك اقعد وامد إيدي ليكم وارجا الصدقة منك انت واخوانك ؟! كتر خيرك وبارك الله فيك يا الياس وكان الطبشيرة عندها معاش الزراعة ما عندها معاش وانا طول ما ني ماشي فوق الواطة دي بزرع وباكل من ضراعي .. ) قلت لك بصوت هامس : (انحنا ما يانا زراعتك يا ابوي : هو عيب الراجل ياكل من زراعتو ؟ )) لكنك لم ترد علي ادرت ظهرك وخرجت غاضبا فتلفت حولي في يأس وقلت لامونة التي كانت حاضرة : ( انا غلطان يا امونة اكان داير ابوي يرتاح ؟! انا غلطان كان نجحت وقعدت محل راحتي ومحل مستقبلي ؟! ) نظرت الي امونة شذرا وقالت بما يشبه السخرية : ( ما ك غلطان يا الياس .. غلطان ابوكم الربي وعلم وفي الاخر قبض الريح وكلكم قايلين جميل الوالد بتسدو القريشات البترسلوها . القروش شن  يسويبا   ابوكم؟ هو وكتين اكن بدورها كان بدورها عشانكم فيشان تبقوا رجال وترفعوا راسو وسط اهلو، ماكان قايل يلدالو رجال  وفي الاخر يرجع زي ما كان... يادكتور في جروح مابتداويها القروش وما بيقدروا عليها الدكاترة.) وذهبت وهي تغلي كالمرجل اوتركتني مأخوذا وقد الجمتني الدهشة  .  قلت لنفسي:( هل هو غاضب منا الي هذا الحد؟ واي جرم قد فعلنا؟ تركنا ابوهشيم؟!! ومتي عشنا فيها اصلا؟وهل نحن أول من تركهاأو آخرهم ؟    انت ياأبي عشت هنا وسكنتها وسكنتك هي الاخري. اما نحن فلا نكرهها ولا نحبها مثل حبك لها ولكنها اضيق من ان تتسع لطموحاتنا واضيق من الدرجات العلمية التي نحمل، ومن حق اولادنا ان يعيشوا حياة مختلفة عن حياتنا وحياتك.)
شعرت بالراحة عندما وصل تفكيري الي هذه النقطة فقلت لنفسي واناالمح أمونة قادمةوهي تحمل علي رأسها صفيحة ماء من النهر لتملأ الازيار:  
( تستحقين حياة أفضل ياأمونة من هذه الحياة القاسية ولكن ماذا نفعل مع عنادكما انت وابيك وهذا الحب الأحمق لهذه البقعة من الأرض؟)  بقيت بضع ايام وانتهت العطلة سريعا وعدت إلي حيث صرت انتمي وتوجد أسرتي الصغيرة وعيادتي التي فيها معاشي وسرعان ما إنغمست في نهر الحياة الجديدة المتدفق وعادت ابوهشيم مجددا الي زاويا الذاكرة والنسيان ولكنها ظلت تعاودني كالحمي بين الحين والآخروكنت حين تتراءي لي صورة رمالها ووجه ابي ووجه امونة وهي ترتدي ذلك الحذاء المصنوع من البلاستيك الملون بلون أزرق باهت وهي تحمل حزمة من القش فوق رأسها عند الأصيل وهي عائدة من الجزيرة الصغيرة ينقبض قلبي وانا انظر الي نقشة الحنة الجميلة في أيدي أمل وحذاءها المستورد ورائحة العطر الباريسي الجميلة ينقبض قلبي ... أشعر بإحساس غامض يجتاحني..تبدو لي سعادتي طارئة وزائفة وناقصة .. يشكني وخزضميري كالدبوس اظل ساهرا وحدي طوال الليل ولاأنام  حتي يؤذن المؤذن  لصلاة الفجر. أنظر الي اولادي النائمين في وداعة ثم انظر الي أمل وشعرها الأسود الذي ينسدل علي وجهها فيغطيه حين تنام ... يتراءي لي سرير ابي العتيق غارقا في الرمال التي احتلت الداربعد ان حاذت السورالطيني القديم في بادئ الأمر ثم صارت أعلي منه فغطته وتسللت الي الداخل فكأنما القوز الذي يقع خارج الدار بات مصمما علي ردم الهوة التي تفصله عن القوز الصغيرالموجود بداخلها... اشعلت سيجارة وجذبت منها نفسا عميقا وانا أحاول جاهدا ابعاد هذه الصور عن مخيلتي ولكن صورة سرير أبي الغارق في الرمال ترفض الرحيل من مخيلتي كأنها تخرج من مكان ما بداخلي انا وليس من الخيال المحض .. انظر الي مروحة السقف وهي تدور فوق روؤس اولادي وتلتمع من ذاكرتي صورة أخري هي صورة المشلعيب المصنوع من ا لسعف وهو يتدلي من ذلك العود الضخم الذي يتوسط سقف الغرفة الكبيرة في بيت ابي في ابو هشيم ، تموت سيجارتي في يدي واغفو من جديد ومجددا تلتمع امامي صورةسرير ابي الخشبي العتيق وهو مشغول بصاحبه المتغطي ببطانية رمادية اللون يتأرجح السرير فوق الأمواج كأنه مركب دوم صغيرة وتبدو أمونة حافية القدمين عند القيفة وهي تتابع السرير الطافي فوق سطح الماءبهلع وتصرخ بأعلي صوتها فلا تخرج الصرخة فتعاود الكرة وتصرخ من جديد حتي أري قاع حلقها ولسانها يروح ويجئي ولا يصدر عنها أي صوت... تبدو مذهولة وحزينة... تدفع الامواج القوية السرير الذي بدا هذه المرة أصغر مما كان بعيدا ثم تشتد الأمواج وهي تتقاذف السرير كما يتقاذف الصبية كرة صغيرة...تعدو أمونة علي عجل صوب النهروتلقي بنفسها في الماء دون أدني تردد..تطفو وتغطس وهي تضرب الماء  بيديهاوتمخر عبابه كتمساح يطارد فريسته باصرار وهي تشق طريقها نحو السرير وعندما باتت قريبة منه اتت أمواج عاتية من المجهول ودفعته بعيدا عن متناول يدها ولكنها لم تيأس وظلت  تشق طريقها نحوه في حزم وإصرار أصرخ دون أن أعي بنفسي:( أمونة.....أمونة) وأهب من نومي مفزوعا فاجد أمل عند حافة سريري والهلع مرتسم علي وجهها ويدها علي جبهتي وهي تتمتم بآيات وأدعية متداخلة، طلبت منها كوبا من الماء فاحضرته واحتسيته في جرعة واحدة ولفنا صمت ناطق بالأسئلة والحيرة . وحين تكرر ذلك الحلم نفسه وتكرر الكابوس في ختامه وتكرر صراخي قالت لي أمل وهي تمسح رأسي بحنان :( الياس.. إذا كنت خائفا علي ابيك واختك ومهموما الي هذا الحد فلا بأس إذا ذهبت وسلمت عليهم وقضيت يومين معهم ... صحتك اهم من الشغل..) كنت بحاجة اليك ياأبي وبحاجة الي رؤية أمونة  والإطمئنان عليكما وكان الحلم نداء خفيا يشدني الي عالمكا ولكنني لم ادرك مغزاه الا بعد فوات الاوان ، ربما لوكنت استمعت إلي نصيحة امل لكنت بجوار أمونة في الوقت المناسب في تلك الليلة المشؤومة ولربما كنا تسامرنا سويا فمنعها ذلك من بلوغ مكان ذلك الثعبان الرابض في الظلمة..ربما .......ربما.............. ولكنني كنت مشغولا  ومشدودا الي امدرمان بالف خيط وخيط ،ثمة مؤتمرات علمية تنتظرني ومخاضرات بالجامعة اكون فيها صورة حديثة لابي ., معلما من طراز آخر ، وعملي بالمستشفي ينتظرني هو الآخر وهناك العيادة وصفوف المرضي الهاربين من كآبة مستشفيات الحكومة الي العناية مدفوعة الأجر مقدما ، وهناك النادي وإجتماعات مجلس الادارة والشلة المفضلة وجلسات الأنس، كل هذا وغيره كان أقوي من نصح أمل ومن الهواجس التي أثارها في نفسي ذلك الحلم المتكرر.. ذلك السريرالطافي فوق الماءتارة وفوق الرمال تارة أخري  كأنه مهد طفل رضيع، صراع أمونة مع الأمواج لم يفلح في انتزاعي من عالمي الصغير المتشابك . وبعد اسابيع قليلة من ذلك جاءني الخبر كالصاعقة في تلغراف صغير، كلمات قليلة وانطوت حياة أمونة كصفحة في كتاب ولا مجال لاستعادتها ثانية ابدا، رحلت أمونة كالشهقة ........ كالشهاب........ككلمة حق في لسان شاهد زور..........رحلت أمونة قبل ان تكتمل دورة حياة تضطرب في رحمها ولم تكتمل دورة حياتها هي نفسها بصورة او باخري.لكن صورتها ظلت تلاحقني في كل مكان .. في قاعة المحاضرات المكتظة بالطلاب وفي زحمة المستشفي وفي السيارة وانا عائد الي البيت، وظلت صورتها وهي تصرخ بلا صوت عند الضفة مستغيثة بالعدم تحول بيني وبين النوم وكان حزني الأكبر حين حضرت بعض طالباتي معزيات برغم انهن لم يرين أمونة ابدا ،كن يسألن ببراءة ولكن بالحاح: ( هل كانت المرحومة مريضة؟ كيف رحلت؟ هل تألمت كثيرا؟)  كنت اخجل من الإجابة .. وهل بمقدوري ان اقول لهن ان أخت الجراح الشهير والأكاديمي البارز قد ماتت لديغة؟هل اقول لهن إنها ظلت ترتعش منتظرة الموت الزاحف علي ظهر حمار باحثة عن مصل لانجد من يحتاجه في مستشفيات العاصمة علي وفرته ولايجده من يحتاحه في الاطراف البعيدة رغم حاجته؟    
الان فقط ادركت سر المرارة في صوتك ياأبي وسر سيوف الإتهام المشهرة في عينيك وانت تصرخ في وجوهنا كأنك تصرخ في العدم: (ألا تشعرون بالعار؟...............)
بلي ياأبي نشعر بالعارواكثر من ذلك ولكن الأهم  كيف نغسل ذلك العار؟  كيف نستعيد أمونة من العدم وكيف نستعيدك من كهوف الصمت؟ وكيف ارشف كأس نجاح ولاأري في قاعها دم امونة الطاهر وهو يخرج لسانه الي متهكما وهازئا؟صوت الممرضة الملحاح يعيدني مجددا الي الواقع:)دكتور الياس............ دكتور الياس .. العملية جاهزة.) قلت لها بشرود وقلبي معلق في البعيد: ( حاضر .... حاضر) واوسعت الخطي في الردهة الخالية التي تلتمع كعروس في ليلة زفافها من فرط الاناقة.. دفعت باب غرفة العمليات الأليف ودخلت ، كانوا جميعا في انتظاري.. المريضة الممددة.. الأطباء...تناولت المبضع  بيد وأرخيت الكمامة بالاخري وشرعت في لعبة التسابق مع الموت الرابض متربصا وكالعادة غاب وجه المريضة وحل محله وجه (أمونة) مبللا بالعرق ومجهدا ولكنه ممتلئ حنانا ودفئا ومحبة وطمأنينة فكساني إطمئنانا وأخذت أصابعي تجول في الجسد المستسلم لاناملي كما تعزف يد خبيرة انغاما علي آلة العود، كان تلك وسيلتي الوحيدة اليائسة كي استرجع الزمن واحاول إدراك امونة. فرغت من العملية مرهقا وحزينا إذ عدت الي الواقع وبدا لي وجه مريضتي النائمة ، رفعت الكمامة عن وجهي وهرولت خارج الغرفة لكي أستنشق هواء  نقيا وكنت قبلا قد خلعت قفازاتي واسلمت جبهتي طائعا الي الممرضة لتمسح عنها حبات العرق وهي تهمس مهنئة بنجاح العملية . ملأت رئيتي بالهواء وقطعت الخطوات القليلة بين مكتبي وغرفة العمليات فلحقت بي الممرضة وساعدتني في خلع الرداء الخاص بالعملية وعلقته علي الشماعة . استويت جالساعلي الكرسي الدوار في انتظار قهوتي الأثيرة، رن الهاتف فلم ارفع السماعة وظل الجرس يرن بالحاح شحاذ يؤمن في داخله بان لديه حقا في ذمة من يسأله إحسانا ، مددت يدا غاضبة ورفعت السماعة برما ولكن سرعان ما إنفثأ غضبي حين جاءني صوت بنتي الصغيرة (ندي) فحل محل الضيق الارتياح ثم الابتسامة حين ذكرتني بقائمة إحتياجاتها الصغيرة فقلت لها سمعا وطاعة ووضعت السماعة ضاحكا ،ثم ماتت الضحكة علي شفاهي وانا اتذكرك فجأة يا أبي واتذكر الرحلة الي دكان الحلاق  اول كل شهر... مشوار شراء الاحتياجات المدرسية وأول مرة أخذتنا فيها الي السينما انا واحمد في عطبرة والخوف الذي إعترانا حين أطفئت  الانوار، المرات التي كنت تأخذنا فيها الي الحلواني حيث كانت الحلويات المعروضة في داخل الواجهات الزجاجية اقصي امانينا وكنت تدرك ذلك بحس المعلم وتأخذنا مرة كل شهر ثم تسألنا عما نريد وتنادي علي الجرسون ذي الملابس الملونة ثم تجلس ترقبنا في صمت وحنان ونحن نأتي علي ماطلبنا وتجلب لنا المزيد... الآن ينهض ذلك العالم الذي غاب خلف ضباب السنين وكانه لم يكن ويستوي امام ناظري واقفا من جديد كأنها البارحة.... اشم رائحة شجرة الليمون التي كانت تتوسط بيتنا  في عطبرة واري حائطه المبني من الطوب الأخضر لكنه لايخلو من فخامة وبعض ملامح الكبرياء بذلك العلو الذي يميزه عن غيره من البيوت....اتذكر الحوش الكبير والعناقريب المبعثرة في الهواء الطلق والمراتب القطنية التي تغطيها........ كانت تلك مراقدنا  وقد كنا وقتها اربعة صبية ولم تكن أمونة قد وطأت اقدامها شجرة الحياة بعد، كنا حين  نصحو من نومنا مصدرا لجلبة وضجيج اكبر من ضجيج كل القطارات القادمة الي عطبرة او الخارجة منها، نتدافع علي عجل صوب الحمام الوحيد بغية الحصول علي الفرصة الاولي وإذا فشلنا في الحصول عليها نظل نطرق بابه ونستعجل من ظفر حتي يسارع بالخروج ولايظفر من أولويته الا بالضجيج والملاحقة المزعجة، وحين تخرج يا ابي من غرفتك علي صوت الضجيج تختفي كل مظاهر الفوضي  ويسود البيت سكون كذلك الذي يعم الفصل لحظة  ولوج المعلم بعد ضجيج وفوضي صاخبة في  الفاصل بين حصتين دراسيتين.
يرن في الذاكرة صوت النقود المعدنية اللامعة التي كنت توزعها علينا بالتساوي ومشهد سندوتشات الفول المصري التي تلاحقنا بها امي حتي الباب ونحن نركض صوب المدرسة القريبة......... يثقبني الحزن الآن يا أبي كما كان يثقبني  بعد العودة الي البيت خاوي الوفاض من النقود بعد زهوة وسعادة قصيرة العمر بملمس النقود ودفء امتلاكها وطعم الحلوي التي اشتريتها بها في نهاية يوم دراسي طويل لا يزال بفمي، كنت اتحسر علي ذهاب نقودي اللامعات وقتها ولم يخطر ببالي قط اننا سنصبح ذات يوم مصدر حسرة لك بذهابنا من بين يديك كذهاب تلك القطع المعدنية من بين ايدينا في بواكير الطفولة. كنا نقودك التي إدخرتها لزمان بخيل وضننت علي نفسك بها حين كان بمقدورك انفاقها وتبديدها، وحين أتي الزمان البخيل كان القرش الأبيض الصغير قد طار بعيدا من غير رجعة ولم تجد في راحة يدك المضمومة سوي بعض الندوب القديمة وبعض حبات العرق.... طارت العصافير بعيدا... وارتفع صوت الناي ومات المغني كمدا وحسرة... كان بيتا عامرا بالحب والمحنة وكنا نتقاسم السيجارة عند عمود النورفي ناصية الشارع بعيدا عن عينيك ونتقاسم ذات السماء الباهرة نجومها  ونتقاسم تحتها اسرار المراهقين الصغيرة ونتبادل الافكار والقصائد والنكات ، كان ذلك البيت الصغير بمنقده الذي لاتخبو ناره ابدا يبدو وقتها كأنه بيتا يدوم الي الابد، ولم يكن اكثرنا تشاؤما يظن انه سيأتي يوم ينفرط فيه عقدنا بهذا الشكل ويصبح البيت الواحد بيوتا عديدة... انت وأمونة في ابوهشيم..وننقسم نحن الي عدة دور في مدينة واحدة  تجمعنا رابطة دم  وتفرقنا سبل الحياة فلانلتقي الا لماما وفي الأعياد والمناسبات  والجمع إذا تيسر ، اما أمي فقد اصبحت تتجول بين خمسة دور ليس من بينها تلك الدار الدافئة التي تركناها في عطبرة..... كفت تلك الدار عن ان تكون حقيقة ولم تعد الا صورة صغيرة تومض بين الحين والآخرفي ذاكرة خربة ، الا انني ظللت دائما احن الي تلك الدار واتقصي اخبارها واشتاق الي حوائطهاالتي كتبت عليها أول أحرفي واشتاق الي تلك الغرفة الصغيرة ذات الجدار العاري من الطلاء التي إكتشفت فيها صدفة انتقالي من عالم الصبية الي عالم الرجولة المكتملة ... كانت صدفة مملؤة بالرعب والخوف الغامض والإحساس بالذنب والعار ، كنت أسال القادمين من عطبرة عن شجرة الليمون كأنني اسال عن واحد من أصدقاء الطفولة،أسأل بلهفة المشتاق: هل لاتزال مخضرة وحية؟ أما زال إنتاجها غزيرا؟ أما زالت أغصانها تتدلي في الشارع خارج السور كصدقة دائمة للفقراء والصغار؟
ظلت الأخبار جيدة حتي جاء يوم اخبرني فيه من سألته ان البيت قد تم تخصيصه للمحافظ الجديد بعدأيلولة عدد كبير من بيوت وزارة التعليم  الي المحافظة بعد أن آل أمر التعليم اليها،وكان أول قرار للمحافظ الهمام هو قرار يقضي بإجتثاث تلك الشجرة  الكئيبة من موقعها، اتراه كان يعلن للناس انتهاء زمن العطاء وحلول زمن الآخذين بلا مقابل؟؟................. لم أنم في تلك الليلة.....ظلت المعاول التي انهالت علي شجرة الليمون العزيزة تدق عند أذني كطبول حرب مجنونة وظللت أتوجع مع توجعها ليلي كله ......... كنت اسمع عظامها وهي تتكسر تحت وقع الفؤوس الحاقدة ورأيتها في منامي وهي تهوي علي وجهها للمرة الاولي والأخيرة كأنها تقبل الأرض قبلة الوداع،لكنهم لم يتركوها وشأنها بل ظلوا يسحبونها فوق الشوك بكل قسوة وفؤوسهم تنهال علي ماتبقي منها وتمزقها أشلاء كأن بينهم وبينها ثأرا قديما، وكانت هي تئن والأرض من تحتها تئن  ولا شئ سوي ازيز العاصفة بالخارج ونباح كلاب بعيد.
ذكرني نباح الكلاب بكلبي (جرقاس)، قلت في سري لعله عاد من المجهول ليحمي الليمونة العزيزة من اللصوص والفؤوس عرفانا ووفاء لايام عديدة قضاها تحتها محتميا بظلها من الهجير، وسرعان ما تدفقت الصور من ذاكرتي موجعة وقاسية واليمة وغير قابلة للاجترار.....كان جرقاس هو الكلب الوحيد الذي دخل بيتنا، الأول والأخيرو كان قرار دخوله بيتنا قرارا إتخذته وحدي وجعلته امرا واقعا، فقد كنت بمعية صديقي مصطفي ابن الناظر وتصادف  في ذات اليوم ان كلبتهم قد حظيت بمجموعة من الجراء  الصغيرة  وكان جرقاس متمزا عن إخوته بعيونه الذكية ولونه الأبيض  فدخل قلبي من الوهلة الأولي والححت علي صديقي الحاحا حتي اقنعته ان يمنحني ذلك الجرو الجميل... حملته معي والأفكار السوداء تعصف بي علي طول الطريق الي البيت فقد كنت اعرف موقف أبي وأمي من تربية الكلاب
كانت أمي تقول: ( الملائكة لاتدخل بيتا  يعيش فيه كلب أبدا) وكان أبي يقول ان الكلاب نجسة وان تربيتها في البيوت من علامات البخل وقلة الايمان. كنت انصت اليهما وأهم بالحديث ثم اتمالك نفسي واختار الصمت والتفكير بصوت غير مسموع...ادخلت جرقاس البت سرا في البدء ولكن ذلك لم يدم طويلا وسرعان ماإنكشف السر  وبعد دموع ومفاوضات مضنية توصلنا الي صيغة توفيقية تقضي  بان يبقي جرقاس في الحوش بعيدا عن مكان السكني واداء الصلاة وكان ذلك هو جواز مروره الي بيتنا وحياتنا.
اتذكر الآن ذلك اليوم بكل تفاصيله...كانت ليلة من ليالي الشتاء الطويلة التي لاتنتهي وكان نومي متقطعا و ملئيا بالكوابيس  المرعبة لكن اكثرها رعبا كان ذلك الكابوس الذي ظل يلاحقني بعد ذلك عمري كله... كنت أري (جرقاس) متدليا من شجرة القرض الكبيرة التي تقع امام بيتنا وكنت أري حبلا غليظا من التيل الأبيض ملتفا حول رقبته الصغيرة ولم تكن العيون جاحظة جحوظ الموت بل كانت ممتلئية دموعا وجرقاس يبكي مثل طفل صغير وحشرجة خافتة تصدر عنه ثم سكن الجسد تماما وامسي كأنه لعبة مصنوعة من القطن تتدلي في صالة أحد الدكاكين التي تبيع لعب الأطفال صرخت باعلي صوتي ونهضت من نومي مفزوعا نظرت حولي يمنة ويسرة فلم اجده حيث اعتاد ان يكون ، كانت الشمس قد اشرقت تماما والرؤية واضحة فهرولت صوب شجرة الليمون فلم اجده هنالك في مرقده الأثير، دفعت الباب الخارجي وركضت مسرعا صوب شجرة القرض وتفحصتها عودا عودا ولم اجد له أثرا، نظرت الي الارض تحتها فوجدتها خالية الا من بعض الأشواك والأغصان الجافة المتكسرة، جلت ببصري في الشارع كله ثم داخل الدار ولم اجد له أثرا، انتابني خوف غامض وصرخت باعلي صوتي: (جرقاس............ جرقاس) واصدرت صفيرا مميزا يعرفه جرقاس  فاجابني العدم، وبغتة سمعت صوتا يشبه صوت إنفجار إطار عربة،إزداد توتري حين سمعت أنينا خافتا بعد ذلك ثم سمعت الصوت الأول نفسه مرة أخري، دفعت الباب الخارجي ثانية بكل قوتي وانطلقت صوب مكان الصوت .... كان جرقاس هنالك امامي مباشرة ممددا فوق التراب غارقا في الدماء... وعلي بعد خطوات قليلة كان القا تل واقفا ممسكا ببندقية قديمة وهو ينظر الي ضحيته متحفزا، ودون ان أعي ما أفعل وجدت  نفسي  أعبر الشارع كالمجنون ولم أتوقف الإ حيث يرقد جرقا س الذي كان الآن يصدر أصواتا خافتة وهو يتلوي من الألم ونظر نحوي في ضراعة ثم سكنت حركته تماما فادركت ان طائر الموت قد غشاه وأخذ روحه وحلق بعيدا فصرخت باكيا باعلي صوتي واندفعت صوب الرجل الممسك بالبندقية غير آبه بملابسه العسكرية وامسكت بالبندقية بقوة فجذبها مني بعيدا وأبقي صدره مكشوفا بلا حماية فانهلت عليه بقبضة يدي الصغيرة بلكمات متتابعة وانا اصرخ في جنون والرجل ينظر الي في دهشة واستغراب دون ان تند عنه اية ردة فعل. بعد ذلك اليوم بسنوات عديدة علمت من أبي ان جرقاس المسكين قد راح ضحية حملة نظمتها البلدية لمكافحة داء السعر بالتخلص من الكلاب الضالة والمريضة، فقلت له في التو والحين ان جرقاس لم يكن ضالا ولا مسعورا، حدق أبي في البعيد وقال لي بصوت عميق: (هذا صحيح....... ولكنه كان موجودا في الزمان والمكان الخطأ فحسبه الشرطي كلبا مسعورا حين رأه مندفعا نحوه ليهاجمه بعد أن شاهده جرقاس وهو يحصد أبناء جنسه.) شعرت ببعض الراحة حينها حين قررت بلا تردد  ان جرقاس قد مات شهيدا وهو يدافع عن عشيرته ولكنني لا أدري لماذا أستعيد الآن عبارتك الأخيرة ياأبي واسأل نفسي : تري هل كانت أمونة موجودة هي الاخري في الزمان والمكان الخطأ؟؟ 

                                                         


الفصل الثالث 





حكاية النخلة والنعش






















النعش الطائر من هناك

سيارة سوداء مظللة تظليلا كثيفا توقفت أمام مدخل البناية التى اتحذتها مقرا لاعمالى منذ سنين عديدة ، فتح السائق بابه ومد يده بتؤدة ليفتح الباب الخلفى ، عبر الزجاج تبينت هوية الرجل ذى البدلة السوداء الذى ترجل من السيارة ، كان صديقا قديما وجارا من ابناء امدرمان الذين تربطنى بهم اكثر من صلة وهمزة وصل و اندهشت قليلا لأنه لم يسبق له ان زارنى فى مكان عملى بهذه المظاهر الرسمية ، قلت لنفسى لعلها زيارة عارضة لغرض عاجل أو للتحية ، اخر ما كنت اتخيله ان يحمل هذا الرجل الى خبرا بهذه القسوة فى تلك الكلمات القليلة : - (ابنك عمر يا حاج احمد ... تعيش انت ... تشجع يا حاج احمد ... لا راد لقضاء الله ...) هوى قلبى بين اقدامى ، لم اسمع بقية ما قاله ، بقيت يداه المرفوعتان وهو يتمتم بالفاتحة غريبتان وبدأ لى ممثلا رديئا لا يجيد التمثيل ، تجاهلت يده الممدودة بورقة عليها كلمات قليلة بالانجليزية ، قلت له بنبرات مضطربة :- (ابني بعيد ... خارج البلاد ... ما ادراك ؟ ) قال وهو يتلعثم :- (هذا الفاكس وصل صباحا من سفارتنا هناك ) ثم لاذ بصمت ناطق ، بدت (هناك) اشبه ما تكون بقاع بئر عميقة عند إلقاء حجر فيها ، كنت طوال السنين الماضية اتوق الى عودة (عمر) الى (هنا) وانتظر تلك العودة حتى حين ارسل صورة زفافه تلك قلت لنفسى :- (سيعود عمر ... مهما فعل ومهما حدث سيعود عمر) قلت لامه حين اجهشت بالبكاء وهى تنظر الى الصورة وتتحسس جبهته فى الصورة كأنها تتحسس انسانا من لحم ودم : (هو لا يستحق دموعك هذه ... هو نسى ان له اب او ام ... هو ...) قاطعتنى بصوت باك :- (بلا قساوة القلب دي ما فى شيتا خلاهو يطير لى بلد السجم دى ... يا راجل ارحم ... ارحم) واخذت تهتزكجدار آيل للسقوط ... اسقط فى يدى ... استعدت من الذاكرة صوت ابى القاطع كالسيف فى مواجهة دموع امى المتوسلة الباكية ... السوط فى يد ابى ... نظراتى المتحدية ... ظهرى الدامى ... خرجت من الغرفة مسرعا كالهارب من شىء ما ...قلت لنفسى : انا لست ابى  انا لم اضربه قط ، وحين ازمع السفر باركت قراره بعد تمنع لطيف ليس الا ... ليتنى منعته ... ليتنى ابقيته رغم انفه وزوجته  رغم انفه ، لكان بقى هنا ولم يذهب (هناك) لكانت الرصاصات المجهولات قد سكنت جسدا اخر غير جسده ... استعذت بالله من الشيطان الرجيم فى سرى عندما وصل التفكير بى الى هذا الحد ... وعدت الى الواقع ، كان الرجل واقفا لما يزال وهو يحاول حل رباط عنقه بعصبية زائدة ويده تمسح بمنديل صغير على جبهته جيئة وذهابا ... حاج عبد الباسط يتساءل بصوت خافت عما حدث يهمس الرجل فى اذنه بصوت اكثر خفوتا ، يعلو صوت حاج عبد الباسط (حسبنا الله ونعم الوكيل ... حسبنا الله ونعم الوكيل... الفاتحة ...) وترتفع الايدى نحو السماء واهبط نحو السكون ، قلت لنفسى وانا ارفع يدى بصورة الية واخفضها: لقد خبرت الموت يا ود البشرى طفلا وصبيا ورجلا فى مقتبل العمر وكهلا يقف عند اعتاب الرحيل لكنك لم تالفه ولن تألفه ابدا ، يبقى دائما ذلك الالم ، تلك الشهقة وما يشبه الوخزة فى موقع القلب وشريط الذكريات المتلاحق التى لا تستطيع قوة فى الارض ان توقفه حين ينعى الناعى عزيزا ، نجتر الذكريات بأدق تفاصيلها وكأننا نشاهد عرضا سينمائيا داخل الذاكرة بلا شاشة عرض ولا ادوات ولا شريط يدور ، تستيقظ الاوجاع القديمة كلها كأن يد الموت قد ايقظتها من سباتها الطويل ، تلتمع وجوه الاحبة الراحلين ، وجه ابى ... كلماته الاخيرة فى الحقل ووجه أخى يعلو ويهبط مع الامواج ويغيب بغتة كما يغيب حجر بت الحاج عند ارتفاع منسوب النهر فى الدميرة ، وجه خالى احمد الامين كما اتصوره والحمى التى فتكت به فى كسلا غريبا ووحيدا  تلونه بحبات عرق غزيرة تبدو كحبات مسبحة فى يد بت الحاج و عشرات الوجوه تدق باب الذاكرة الخربة الليلة كالشواكيش ... كالمطارق التى تنهال على اخشاب شجر الدوم عند المشرع لتصنع منه مركبا يحمل الناس من الضفة الى الضفة الاخرى ، وحده وجهك يا عمر يرفض ان يدخل فى جوقة الوجوه الراحلة ... ترفض استقباله ... تصرخ معى بعناد وبأعلى صوت :- (عمر هناك ... عمر لم ي...) لم اقو على نطقها حتى فى سرى ، لكننى حين وقفت فى تلك الظهيرة الحارقة عند الهيكل الضخم لتلك الطائرة ايقنت عندها فقط ان قطعة اخرى منى قد ذهبت بلا عودة ، كنت انقل بصرى بين الشمس  ذات الوهج الحارق وبين وجه تلك المرأة الاجنبية التى جاءت مع النعش من هناك واخذت تحادثنى بلغة لا افهمها ومع ذلك كنت قادرا على فهم ما تريد ان تقوله ، حين وقع بصرى على النعش اول مرة احسست بوخزة مثل شكة الدبوس في الجانب الشمالى حيث القلب ، خفضت بصرى واشحت بوجهى الى الجهة الاخرى ، قلت لنفسى انه يشبه مركبا من الدوم سوى انه مغلق من الاعلى ، اين عساك تريد ان تذهب يا صاحب المركب ؟ أتريد ان تذهب الى النهر حيث ذهب عمك الذى لم تره ابدا ام تريد ان تذهب الى الحقل حيث ذهب جدك الذى لم تره هو الاخر وحيث ذهب خالك واخرين بعدد حبات الرمال ؟ بكيت بأعلى صوتى حتى سقطت عصا الخيزران التى اتوكأعليها من يدى وانكفأت بوجهى على النعش المطعم من الخارج بازهار ذابلة قطعت الاف الاميال لتنتهى حياتها تحت وهج هذه الشمس المحرقة فى رابعة النهار  وانا اشتم رائحة ابنى عبر الخشب البارد ... أدنيت انفى دون ان اقصد من كومة الازهار الملونة الذابلة فلم اشتم شيئا ... كانت ازهارا بلا رائحة ... لا شىء هنا سوى رائحة الموت ووهج الشمس الحارقة ، لا شئ سوى الحزن يثقبنى من الداخل حتى القشعريرة ... اشعر اننى اتوحد مع تلك الزهور الذابلة عديمة الرائجة ... اصرخ بلا صوت : (كنت محقا يا ابى ... الرجل بلا ارض شاة عجفاء لا تدر لبنا ولا يؤكل لحمها وليس لها سوى ان تنتظر رصاصة الرحمة او الموت الزاحف ...) ... امضى خلف النعش بلا خطوات لكننى اسمع وقع الوف الاقدام ترن بداخلى حتى لا اعود اسمع شيئاو الطائرات الرابضات على المدرج تبدو كنسور جائعة تنقر بمخالبها الارض فتبدو الارض الملساء تحتها كجثة ممددة فى خلاء تتناوشها النسور بلا رحمة ... انظر فى الوجوه الباسمة فارى الف (عمر) اخر يحمل حقيبة صغيرة ويمضى راضيا نحو نعش ينتظره (هناك) انظر الى وجوه الامهات والنساء المودعات فلا ارى الدموع ، اصرخ باعلى صوتى : (لا ... لا ... لا تتركوا عمر يذهب ... مزقوا وثائق السفر اللعينة ... اطلقوا النار على هذه النسور الجائعة التى تأخذ الاولاد بعيدا ...) ... المح الدهشة فى الوجوه ... الاستياء ونظرات الاشفاق ... واسمع كلمات مواساة ... المح دموعا فوق وجوه اعرف بعضها واخرى لا اعرفها ... اغيب فى جوف سيارة ما والنعش لا يغيب عن عينى الا حين تتحرك السيارة ... تبدو المسافة من مطار الخرطوم الى الهاشماب ابعد من المسافة الى المريخ ، تبدو الشوارع مقفرة واشجار شارع النيل الكبيرة تبدو اشباحا غارقة فى الصمت مثلى ، يئن كوبرى امدرمان العتيق تحتنا والمح الارض الواقعة تحته جرداء بعد ان انحسر عنها النيل وخلافا للعادة لا تكسوها الخضرة كما تكسوها فى مثل هذا الوقت من السنة ، ينحنى الشارع فنعبر خور ابو عنجة فى طريقنا الى سوق الموردة بمبانيه التى تتحدى الزمن بحوائطها الطينية القديمة وترفض التغيير فى صلف وعناد مثلها فى ذلك مثل بيوت الموردة والهاشماب ودار الرياضة العتيقة ... تسقط على خدى دمعة وانا اتذكر ذلك الحب الذى يكنه (عمر) لتلك الازقة وحكاياته عن خور ابو عنجة وسوق الموردة ومراكب الصيادين الذين كان صديقا دائما لهم منذ بواكير الصبا ... اتذكر قولى له ممازحا لكى اغيظه :(انت لا شفت المراكب ولا شفت الصيادين ... تعال معاى لى ابو هشيم وحأقول لى على ود ابوزيد يسويلك مركب دوم ويعلمك صيد السمك على اصوله وتعوم فى البحر بدل العوم فى الخيران ذى القعوى وان درت عوم الخور تعال شوف خور أمور والله خيران الدنيا كلها تمسخلك بعدو ...) فيرد (عمر) : (انت وكت ابوهشيم عاجباك كدى يا ابوى المقعدك هنا شنو ؟) قرصته فى اذنه حتى توجع وقلت له : (المقعدنى انت يا اب اضنين ، شوفوا الولد ومساختوا ...) يركض بعيدا وهو يقول : (نان انا جبتها من السوق يا ابوى ...ما جبتها منك) يبدو الصيوان الان من على البعد وهو يسد الشارع الضيق وتبدو عربات امدرمان كلها اليوم هناك فى تلك المساحة الصغيرة ، كنت احلم دائما بالصيوان وازدحام العربات ولكننى كنت احلم بصيوان العرس وليس بصيوان العزاء !! انهض الان يا عمر ... كفاك تلاعبا ... انتهت المزحة ... انهض من مرقدك المزين بزهور ذابلة واطلق ضحكتك الشقية فى الفضاء ... اخرج لسانك لهم وانهض مرتديا الرقم (10) وفنيلة فريق الهاشماب المميزة ... انهض الان حتى تكف النسوة النائحات عن النواح وتستعيد وجوه ابناء الحى البريق ... تعال الان صافح المعزين وقل لهم انك سئمت تلك البلاد واردت الخروج منها فلم تجد سبيلا سوى إدعاء الموت !! لكنك لا تجيب ... لا يجيبنى شئ سوى العدم والنساء النائحات وتلك المرأة الاجنبية ذات العيون الخضراء التى لا تكف عن البكاء !! فأعود الى الواقع المرير الذى يقول ان (عمر) قد رحل الرحيل الاخير ولن يعود ابدا ولم يعد فى العمر متسع لبدايات جديدة فقد كتبت النهاية هناك ولم يعد هناك ما يكتب او يقال هنا سوى المشوار الاخير الى مقابر حمد النيل حيث تنتهى رحلة النعش الطائر من هناك !!                 







            









دفتر يوميات فاطمة

(عين فى الجنة وعين فى النار) ذلك هو الوصف المناسب لتلك الحالة الغامضة التى تعترى ابى وتعصف بسكينته بين الحين والاخر ... طول عمره ظل يحلم بالحياة فى المدن المضيئة وتحقيق احلامه العريضة وحين بلغ مبتغاه واصبحت الخرطوم وطنا دائما له وطوى تلك الذكريات البعيدة الغارقة فى الظلمة والرمال اجتاحه حنين غامض الى ذلك السكون الاليف الذى خلفه وراءه فى ابو هشيم وبدا يعقد مقارنة مستمرة بين هنا وهناك وكان دائما ينتصر مثل مشجع كرة مهووس لابوهشيم القابعة فى ذاكرته خارج الزمان والمكان مجمدة كقطعة لحم فى ثلاجة لا تفقد خواصها ابدا ولا تتغير ، تعبت من الحوارات المتكررة الطويلة بينى وبينه فى هذا الشأن ، كان مصرا على اعارتى ذاكرته ومحبته لتلك البقعة البعيدة عن بصرى والقريبة الى قلبى بفضل حرارة صوته والبريق فى عينيه حين يجىء ذكرها على لسانه او على لسان اى شخص ، وحين قلت له اننى اريد الذهاب اليها ورؤيتها شحب وجهه بغتة وقال لى بصوت هامس اننا سنذهب يوما ما ولكن ليس هذه الايام ... (هذه الايام صعبة هناك ... وصعبة بالنسبة لظروف عملى يا فاطمة) لكن اليوم المناسب الذى يتحدث عنه لم يأت ابدا... كانت المشغوليات فى تزايد دائم وكان حماسى يخفت ويقوى على حسب النبرة فى صوته ، واتذكر اننى قلت لنفسى عندما كنت صغيرة ذات مرة حين اصطدمت بفتور حماسه للذهاب الى ابوهشيم  :- (لعل ابوهشيم مثل فاطمة السمحة وأبنى عمها ليست موجودة الا فى خيال الحبوبات ولا يمكن ان نراها ابدا ...) وحين كبرت قليلا قلت لنفسى وانا اراه ينتصر دائما لابوهشيم فى المقارنات التى يعقدها بينها وبين غيرها : (لعله شعور متأخر بالذنب يجتاجه ويلون الاشياء أمام ناظريه بالوان اخرى غير الوانها الحقيقية ، لعله وفاء اعمى وشعور دافق بالمحبة ورغبة فى التقديس مثل تلك المشاعر التى تجتاح الناس عند رحيل شخص عزيز فيأخذوا فى تجميل صورته ونسج القصص حوله ولا يعودوا يرون فيه الا الابيض ويصنعون منه شهيدا وقديسا قل ان يجود الزمان بمثله بينما كان الفقيد الغالى بالامس القريب يمشى بين الاحياء فلا يكاد يراه او يشعر بمعاناته أحد ولا يجد ممن يبكوه اليوم سوى اشواك تدمى الايدى ونكران وجحود وفى افضل الاحوال عدم مبالاة ونفور ، لعله شعور بالذنب لاهمالهم للفقيد حيا وهو الذى يجعلهم يسرفون فى إظهار المحبة والتقدير له ونسبة كل ما هو نبيل من صفات اليه كنوع من الاعتذار او التعويض الذى يدركون فى اعماقهم انه لن يناله منه شىء ابدا ولكنه قد يمنح من يحبه بعض العزاء ويهون عليه مصيبته وفى ذات الوقت يعطيهم احساسا بالتحلل من الشعور بالذنب ويمنحهم فرصة للتجمل اجتماعيا ... ياللبشاعة !! حتى مصيبة الموت يغتنمها البعض من بنى البشر فرصة للتجمل وتحقيق المطامع !! حين انتهى الى هذه الفكرة المخيفة اقول لنفسى بصوت مسموع  : (لا .. لا ..ابى لا يكذب ولا يتجمل فى حضرة ابو هشيم .. ابى يحب مدينته الفاضلة حبا يفوق ضعف بنى البشر ...) بالنسبة الى كانت (ابوهشيم) حكايات ساحرة يرويها ابى كأنه يلقى قصيدة شعر مليئة بالصور الجميلة منذ بواكير طفولتى ، كنت انظر الى القمر فى الاعلى ساطعا بنوره وانظر فى عينى ابى العميقة الحزينة فأرى قيزان الرمال الذهبية التى يسرف فى وصفها حتى اراه بأم عينى طفلا صغيرا نحيلا يرتدى عراقيا باهتا من الدمورية عليه بقع خلفها الرطب على صدره وارى اقدامه الحافية تغوص عميقا فى تلال الرمال حتى يمسى عاجزا عن اقتلاعها ومواصلة سيره ... تغطى الدموع وجهه الذى تنعكس فوقه اشعة القمر فيبدو ذهبيا كلون الرمال ، يصرخ مستنجدا بأعلى صوته فتمتد يد ما وتنتزعه برقة ومحبة من الرمال وتحرره من أسرها ، ارى فى عينيه فرحة صافية كصفحة النهر فى الظهيرة وارى فى عينيه غابات من اشجار النخيل الباسقات وهن يملن ذات اليمين وذات اليسار كأنهن اميرات مسحورات يتراقصن فى حفلة عرس ، اسمع زغرودة طويلة ويلمع وجه جدتى واراها وهى تغنى لابى الجالس فى حجرها تلك الاغنية الجميلة التى اسمعه دائما يترنم بها والتى تحكى عن (دومتين مرات بالبحر مارات) ، امد يدى فى الخيال للامساك باحدى الدومتين وبصعوبة بالغة تتمكن يدى الصغيرة من الامساك بها اخيرا وحين اقربها الى فمى واعض عليها لكى (اكدها) افاجأ بها وقد اخذت كل اسنانى وركضت عائدة الى الماء لتلحق بأختها التى لا تزال تتهادى فوق صفحة الماء ، اركض خلفها بغية إستعادة اسنانى بلا جدوى فيأتينى من الضفة صوت مجموعة من الاطفال : (يا شمس شيلى سن الحمار وادينى سن الغزال ياشمس شيلى سن الجهال واديها سن الغزال... ) صرخت بأعلى صوتى : لا اريد اسنان الغزال ... اريد اسنانى ، اصرخ بأعلى صوتى ... يضحك الاطفال ويدورون حولى وهم يغنون : (الفات الفات وفى ايدينو سبعة لفات ... الفات الفات... العمة وقعت فى البير ... وصاحبها واحد خنزير ... والهون ضرب التلفون ... وعمي علي بياع الزيت وطاقيتو مربوطة بخيط....) ، أصرخ بأعلى صوتى ... أصحو من حلمى ، اشعر بالراحة حين اتحسس اسنانى فأجدها كاملة سالمة فى مكانها .        
تلك بعض احلامى وبعض الذكريات التى تقاسمها ابى معى على امتداد طفولتى والتى بدأت بميلادى ذات صباح ماطر من صباحات الخريف التى تخشاها بيوت امدرمان الطينية ولا تقوى على احتمالها ، فى احدى تلك البيوت المبنية  بالجالوص التى تقع قرب مستشفى التجانى الماحى كان ميلادى وكانت صرختى الاولى ... فى ذلك الصباح الماطر خاض ابى فى الطين وذهب وجلب القابلة لتوليد امى وحين صرخت واخرجتنى القابلة كانت السماء لا تزال مفتوحة الابواب والمطر منهمرا بلا انقطاع ، كان ذلك البيت الصغير هو اول بيت يضمنا كأسرة فقد كانت امى تقيم فى منزل جدى الفسيح فى حى الهاشماب قبل زواجها وانتقلت بعد الزواج الى هذا البيت الذى لم يكن يبعد كثيرا عن بيت جدى ولهذا السبب الجغرافى ولاسباب اخرى غيره فان بيت جدى هو الذى استأثر بمعظم ذكريات طفولتى ... كان ذلك البيت هو الاخر قصة حب أخرى لابوهشيم بطلها هو جدى لامى ، كانت ابو هشيم تتجسد فى ذلك المنزل فى تلك النحلة الفارعة الطول التى تحتل قلب الداروتطل على جميع اهل الهاشماب من عل كأنها ملكة جمال فى لحظة إعلان فوزها وكان جدى ود البشرى يفاخر بنخلته تلك بمناسبة وبغير مناسبة ويوليها عناية خاصة لا تخطئها العين من الوهلة الاولى ، اتذكر وانا صغيرة جدا ان جدى حكى لى قصة احضاره لهذه النخلة من ابوهشيم بطريقة مشوقة وكان وهو يحكى عنها يتحدث وكأنه يتحدث عن كائن حى من لحم ودم له ماض وحاضر واسرة ومشاعرا تتأذى بسوء المعاملة وليس مجرد نخلة ، فقد حكى لى جدى عن أمها التى غُرست فى مكانها ذلك فى ابو هشيم قبل مائة عام او يزيد بواسطة جده وكيف انها انجبت محموعة من النخلات هن اخوات نخلته وكيف انهن يحطن بخصر الأم إحاطة السوار بالمعصم ، وحكى جدى عن الساعات الطوال التى يقضيها الناس فى ابوهشيم كل عام عند موسم الحصاد بغية جمع ثمار النخلة الأم وبناتها ، كانت النخلة وبناتها رمزا من رموز ابوهشيم ومعجزة من معجزات الله فيهاو كنت اسرح مع صوت جدى واراه طفلا صغيرا وسط جموع غفيرة من الناس جاؤوا جميعا لمشاهدة تلك الشجرة المعجزة ... الشجرة ذات العشر بنات المثمرات الشجرة التى يستغرق حصادها وقتا يكفى لحصاد بستان من اشجار النخيل ، وحين قال جدى ان تلك النخلة قد اطعمت اجيالا متعاقبة وبقيت بالرغم من ذلك تجود بالتمر فى كل عام ، رحل من غرسها ورحل بعض من اعتادوا تلقيحها وجمع ثمارها ورحل كثير ممن ورثوا فيها حقا وبقيت هى واقفة وسط اكوام الرمال دون ان تكف عن الولادة وعن منحنا ثمرها اللذيذ لا يماثلها فى الصمود شىء الا النهر الجارى منذ عصور سحيقة ، حينها بدا ما يقوله جدى مسكونا بالغرابة ومثيرا للدهشة الى حد اننى حين نمت رأيت فى منامى النخلة الأم وبناتها العشر وهن يرفلن جميعا فى ثياب بيضاء ناصعة ويوزعن التمر على الوف من الناس احتشدوا على جانبى الطريق ، تنحنى الواحدة منهن وتهز شعرها كطائر صغير يخرج رأسه من الماء ويصفق بجناحيه فرحا فيتساقط التمر مع تموج النخلات رطبا جنيا فيتخاطفه الناس قبل ان يبلغ الارض ، تبتسم النخلة الأم فى حنان وهى تهز رأسها بهدؤ دلالة الرضا فيتساقط رطبها هى الاخرى ... اسمع انين النخلة الوحيدة الكائنة فى منزل جدى ، يختلط وجهها فى منامى مع صور اخرى سريعة وغامضة لا اكاد اتبينها ، المح الدموع فى مأقيها الصغيرة فأسألها ما بك ؟؟ لا تجيب على سؤالى ، تغيب صورتها وتحل محلها صورة النخلة الام وبناتها وعيونهن جميعا تبدو محمرة من البكاء ، اكتشف عندئذ انهن يكتشفن غيابها ويذكرنها ساعة الحصاد ويبكين فراقها ، وانها تتلوى ألما هى الاخرى فى دار جدى وحيدة تشتاق الى حضن امها ودفء عشيرتها ... وبغتة يتداخل وجه جدى مع وجه نخلته ويتداخل وجه ابى ... تبدو لى دموعهم جميعا وهى تصب فى ابوهشيم ... تذكرنى الدموع دموعا اخرى وصورا حزينة ترقد فى مكان ما من الذاكرة ... تأتى صورة (عمر) من كل الانحاء تحتل الذاكرة كما يحتل وجه البطل شاشة السينما المظلمة فيحبس الناس انفاسهم كانهم يخافون أن يأتى البطل اليهم من تلك المساحة البيضاء على الجدار ويوسعهم ضربا كما يفعل بأعدائه ، كان (عمر) ابعد الناس عن استخدام العنف او اللجؤ الى القوة ، كان مثل ابيه (جدى) نبعا حالما من الحكايات والنايات الحزينة ، كان يصغرنى بأعوام قليلة ولكننا كنا نستوى فى عدم رؤية ابوهشيم ابدا الا عبر الحكايات ووجوه القادمين منها بين الفينة والاخرى الى عالمنا الصغير فى امدرمان ، كان خالى فى حسابات البشر وعمود النسب لكنه فى حساباتى وحياتى يبقى الاخ الوحيد الذى حظيت به ويبقى الصورة التى تجسد الرجل بالنسبة الى كما ينبغى ان يكون .. وسيما ، فارع الطول كنخلة ، ممشوق القوام ، بادى الرجولة ، واسع العينين ، لا تعرف التكشيرة سبيلا اليه حتى فى احلك الظروف ، لكننى كنت المح دائما فى قاع عينيه الواسعتين شيئا ما غامضا وحزينا وتوقا دائما الى المجهول ، كان هذا الشىء الغامض هو الذى يكسو عمر هيبة ويزيده وسامة وجاذبية زاد فيها كونه كان موهوبا بالفطرة ومتعدد المواهب فهو صاحب خط انيق جميل وهو صاحب ذاكرة جبارة قادرة على الاحتفاظ بأدق التفاصيل وإستعادتها عند اللزوم بسهولة ويسر وهو عازف ماهر على اكثر من اداة موسيقية ولاعب كرة قدم ماهر برز نجمه سريعا مع فريق الحى ثم اصبح نجما مشهورا فى اكبر الاندية الامدرمانية صيتا وشهرة وهو لما يزال فى العشرين من عمره ، وبالرغم من ذلك كله كان طالبا مثاليا يشق طريقه فى الدراسة بعزيمة لا تلين وتميز واضح توجه بنيل شهادة الهندسة من جامعة الخرطوم ، كان مهووسا بالرسم والموسيقى ، كان يرسم فى كل مكان وفى كل وقت وعلى اى شىء يجده أمامه ، وكان يرسم كل من يعرفه ، ابيه... امه ... امى ... انا ... النخلة ... الباعة فى سوق العناقريب ... الأزقة ... ساعة المجلس البلدى فى امدرمان ... وجوه الباعة فى السوق .. الدموع فى عيون حصان الكارو والكرباج فى يد العربجى النحيل البارزة عظام وجهه ، قلت له : (انت مجنون ... لماذا تتعب وترسمنا ونحن امامك كل يوم صورة وصوتا ...) قال لى وهو يضحك : (الرسام لا يرسم بعينه ... لا يرى الاشياء بعينه ولا يرسمها كما تراها عينه ... هذه الصورة مثلا ... هذا وجه ابى كما اراه كما احسه واشعر به وما هو كامن خلفه ...كل واحد  منابداخله رسام ... انت نفسك رسامة عظيمة لكنك ترسمين بطريقة مختلفة... بالكلمات ... الرسم هو كلمات ... هو لغة اخرى ... لكنه فى النهاية لغة معطونة فى الدم والشعور واللاشعور...) قلت له : (كفى ... اظنك سمعت ما تقوله وانت فى الطريق الي هنا خلف اسوار مستشفى التجانى الماحى ... بالمناسبة هناك واحد يشبهك هنالك انه يرسم بالفحم فى كل مكان.. على الارض وعلى الحائط وعلى ظهر الزير ... تصدق !!) كنت اضحك وانا احكى له لكنه لم يضحك وانطلق خارجا بسرعة ، بعد ذلك علمت انه ذهب الى ذلك الرجل نزيل مستشفي الامراض العصبية والنفسية الذي حدثته عنه.. كان مأخوذا برسوماته بشكل غريب  ... حمل إليه دفاترا واوراقا واقلاما والوانا ... نظر اليه الرجل طويلا ثم دفع الاوراق والالوان بعيدا واخذ قطعة الفحم من على الارض واخذ يرسم على الجدار فى صمت دون توقف وهو يولى ظهره الى (عمر) كأنه ليس موجودا ، قال لى (عمر) وهو لاهث الانفاس هل تعرفين ما الذى رسمه ذلك الرجل على الجدار يا فاطمة ؟؟ قلت له وما ادرانى ؟؟ قال عمر وعيونه تلتمع كأنها برق بعيد فى ليلة ماطرة وصوته مشحون بالغموض ان الرجل قد رسم شجرة ضخمة لكنه بدلا عن الفروع رسم حرابا مدببة وبدلا عن اوراق الشجرة رسم حجارة حادة الاطراف مكانها!! وفى مكان ما بأعلى الشجرة رسم عينا واحدة مفقؤة تنظر الى الامام مباشرة ... قال لى عمر هل فهمتى شيئا من ذلك ؟؟ هززت رأسى بلا مبالاة بالنفى ، فغاب فى صمت طويل ... كان ثمة شىء ما يشد عمر بعيدا نحو بحر هائج مصطخب  كان يقول لى دائما انه سيجد نفسه بعيدا عن هنا ، كان يصمت ويقول لى : (حتى انت تظنين احيانا ان مكانى الطبيعى هو  مستشفي التجانى الماحى لمجرد اننى اقول كلاما يبدو غير مفهوم ...) نفيت ما قاله بشدة ، قلت له اننى اعرف ما يغيظه واعرف انه يحب ان يسمع ما يغيظه  وضحكت وقلت له : (اكان قايل الغنا ولا الرسم يخلوا الناس يقولوا عليك مجنون امدرمان دى كلها مفروض تكون جوه التجانى الماحى لانو ما فيها زول ما بيرسم او بيغنى...) .
 لكن اصراره على السفر كان قويا وكان اختياره للجهة التي يزمع السفر اليها اغرب ... (امريكا يا عمر ؟ ماذا تريد ان تفعل فى امريكا ... ليس لنا اى اهل او معارف هناك ، الناس تسافر الى السعودية او الى الخليج فلماذا تريد ان تسافر بعيدا؟) هكذا قال له جدى اول مرة وهو يضحك ملء شدقيه ظنا منه ان الامر دعابة من دعابات (عمر) العديدة ، لكن الامر لم يكن دعابة ولم يستسلم عمر أمام سخرية ابيه واعتراضات المعترضين ، بدا جدى شاحبا ومرهقا وحزينا وهو يطلب من ابنه فيما يشبه الضراعة البقاء الى جواره ، قال له انه مستعد ليقدم له كل مساعدة يريدها وان المستقبل واعد امامه هنا فهناك وظيفة محترمة تنتظره ولا تمنعه من ممارسة العمل الخاص ، لكن عمر لم يعد يسمع الا صوتا واحدا مصنوعا من خياله واحلامه ورغبته هو ، الدموع فى وجه جدتى لم تردعه او تغير قناعته ، وشيئا فشيئا اخذ الكل يستسلم لارادة عمر واصبح سفره الى امريكا امرا واقعا ... واتذكر ... جواز السفر اللامع وتذاكر السفر والحقيبة الصغيرة فى يد (عمر) ... نظرات جدى الواجم كمن تلقى خبرا مشئوما للتو ... نظراته وهى تبحث عن عن شىء ما فى وجه الابن الذى يتفادى التقاء النظر بالنظر الى الاسفل ... صورة جدتى وهى تمسك بكتفى ابنها وتنهار باكية كالاطفال ... دموع امى المنهمرة وهى تمسح انفها بكم ثوبها ... الابتسامة الواثقة فى وجه (عمر) ... خطواته المسرعة نحو الباب ... صوت الباب الخارجى وهو يغلق ... صوت محرك العربة الاوبل وهى تدور ... هرولتى نحو النافذة ... مشهد السيارة وهى تتحرك من امام الدار باتجاه الشارع الرئيسى حتى تغيب عن بصرى ... ثم السكون الذى لا يقطعه شىء سوى همهمة خافتة ونشيج مر ... النخلة وهى تتمايل فى الفناء ... كان ذلك اخر عهدنا جميعا بعمر... لم نره بعدها ابدا ... ولم يعد الى امدرمان الا نعشا محمولا على متن طائرة ذات نهار ما بعد عدة سنوات من ذلك اليوم ... جاء النعش مصحوبا بامرأة بيضاء ذات شعر اشقر وعيون خضراء تحمل معها مجموعة من اللوحات التى رسمها (عمر) خلال اقامته هناك ، كانت اكثر لوحة شدتنى ووقفت عندها تلك اللوحة التى رسمها للنخلة فى منزل ابيه فجعلها تبدو اعلى من كل البنايات وهى تنظرمن اعلى الى اسفل واستبدل جريدها الاخضر بوجوه مألوفة لإناس يعرفهم ... وجه جدى ... ووجه جدتى ... وجهى انا ... ووجهه هو ... ووجه طفلة غريبة الملامح ، وكان لون السماء فى اللوحة احمرا متوهجا وكان ثمة عصافير ملونة ذات وجوه خائفة تحاول الاقتراب من النخلة ، اشارت المرأة الاجنبية الى اللوحة باصابعها الطويلة الرشيقة وقالت بكلمات متقطعة ان عمر رسمها فى الاسبوع الاخير قبل وفاته ثم اضافت بصوت هامس باك : (كأنه كان يعلم انه لن يرى بلاده ثانية ولن يرى هذا المنزل مرة اخرى ، كأنه كان يكتب رسالته الاخيرة اليكم جميعا ...) كانت تتكلم الانجليزية بلكنة مختلفة وتنطق الكلمات بسرعة ولكننى رغم ذلك كنت قادرة على على متابعة الحديث وفهمه ، والغريب ان جدتى فهمت بطريقة ما ان الحديث عن عمر واللوحة وعنا فانفجرت باكية دون ان تنتظر ترجمة منى لما قالته المرأة. كانت الفجيعة المرة كفيلة بأذابة كل الحواجز بين (سارا) الامريكية الشقراء الفارعة الطول التى ترتدى بنطلونا من الجينز وتى شيرتا قصير الاكمام وبين جدتى وامى وبقية نساء العائلة اللائى تحلقن حول تلك المرأة الاجنبية ، كانت (سارا) قد التقت عمر فى الجامعة حيث انجز دراساته العليا فى الهندسة ، درسا سويا فى ذات القسم وذات التخصص وجمع بينهما عشق الموسيقى والرسم ... كان يرسم لها عالما تقاسم معها العيش فيه وخبره وعايشه وكانت ترسم معه عالما لم تعرفه الا عبر كلماته ورسوماته ... عالما كان يرقد فى مكان مجهول من العالم لم تكن تتخيل انه موجود قبل ان تراه فى عيون (عمر) ورسوماته ... كان (عمر) سفينة منجذبة نحو شواطئها دون ان تهدئ السرعة او تتزود بالوقود ... ارتفع الموج وانتقلت الصداقة وتقاسم الاهتمامات المشتركة الى مرحلة جديدة وامست زواجا بين عالمين واتذكر الرسالة الصغيرة التى ارسلها(عمر) الى والديه مشفوعة بصورة زفاف صغيرة بدا فيها عمر سعيدا كطفل واقصر قامة من عروسه الضاحكة ، كلمات قليلة يقول فيها انه كان يتمنى حضور والديه والجميع لزفافه ويطلب مسامحته ، نظرت امه الى الصورة فى وجوم ثم القت بها ارضا فى قنوط من هوى من اعلى الجبل الى السفح وظل يراقب نفسه وهو يهوى تدريجيا دون ان يستطيع ايقاف السقوط ، منذ ذلك اليوم حتى وصول نعشه اصبح خالى عمر صورة معلقة على الجدارفى غرفته حيث تركها قبل سفره يتأملها الجميع فى صمت دون ان يجرؤ احد على ازالتها او الحديث عن صاحبها الا رمزا او بصورة عابرة .
الان ينكسر الصمت فى حضرة الموت والرحيل الباكر وفى حضرة هذه المرأة الاجنبية التى جاءت من المجهول حاملة نعى (عمر) للمرة الثانية وبدلا عن صورة الزفاف الصغيرة التى جاءت مع تلك الرسالة القصيرة جاءت هذه المرأة بلوحات مثيرة للشجون مرسومة بواسطة (عمر) باتت هى كل ما تبقى منه .
تحدثت المرأة كثيرا مع جدتى وأمى وانا الهث بينهن محاولة القيام بدور المترجمة ثم خرجت الى الفناء المكتظ بالنسوة النائحات والنسوة الصامتات اللائى ينظرن اليها بفضول ... نظرت اليهن بدهشة ثم استرعت النخلة اهتمامها كأنها تراها للمرة الاولى اخذت تدور حولها وهى تنظر اليها باهتمام بالغ ودموع خجولة تترقرق فى عينيها ثم عادت الى الداخل ، سألت عن مكان جدى وطلبت منى توصيلها اليه ، تقدمتها حتى باب صالون الرجال المكتظ ، سلمت على جدى ، افسحوا لها مكانا فجلست ، اخرجت علبة سجائرها باصابع مضطربة و اشعلت سيجارة وقالت لجدى بصوت حاد يشبه البكاء بالانجليزية : (مستر بشرى ... ان عمر اوصانى فى لحظاته الاخيرة ان يدفن هنا وان أجئى معه الى هنا  وان اطلب منك بنفسي ان تعفو عنه كونه تزوج دون رضاك ودون حضورك ، وهو يقول انه يعلم انه حطم فؤادك دون ان يقصد ذلك وإ ن هذا هوقدره ومصيره الذى لم يستطيع ان يتفاداه ...)ثم رددت عبارتها بالانجليزية بصوت اقرب الي الهمس والضراعة: (please forgive him) و انحرطت سارا فى البكاء بشكل هستيرى ، ونهضت فجأة ، القت بالسيجارة المشتعلة ارضا وداست عليها بقدمها بقوة ثم هرولت خارجة كالقذيفة الى الفناء دون ان تنتظر ردا .
وساد صمت رهيب وبقيت الدهشة مرتسمة على وجه جدى حتى بعد ان ترجمت له ما قالته سارا .












صور متقاطعة
في طريق العودة من ابو هشيم كان الصمت وحده عنوانا لرحلة العودة الطويلة.. غرق كل منا في عالمه وكنت أكيدا ان دموع أبي كانت هي القاسم المشترك في خواطرنا فقد كانت تلك صورة يصعب محوها من خيال ابن مهما يكن مايشدنا بعيدا قويا، عن نفسي فانني لا اذكر متي خرجت من أبو هشيم قبل ان يعيدني رحيل أمونة اليها فقد كان ذلك زمانا بعيدا ربما يرجع الي إحدي تلك المرات التي كنا نسافر فيها من عطبرة الي هنالك حين تغلق المدارس ابوابها ، كانت أمونة حينها تتنقل بين الأيدي وهي لما تزال في طور التشكل لا تجيد لغة سوي لغة العيون الصغيرة او الارجل القلقة أو الدموع والبكاء بلا انقطاع ... اتذكر حتي يوم فأجأ امي المخاض ولم يكن أبي موجودا، نادتني جدتي يومها بصوت هامس وهي ترتجف وطلبت مني ان أذهب الي منزل الداية سكينة التي تسكن في الحي المجاور واطلب منها الحضورحالا، كان في صوتها رنة قلق بادية اشعرتني بخطورة مهمتي وكنت أدرك مغزي طلب الداية فانطلقت  اسابق الريح بدراجتي في أزقة عطبرة حتي بلغت منزل سكينة فتوقفت وركنت الدراجة كيفما أتفق وانطلقت داخلا دون أي استئذان أو طرق للباب كما اعتدنا  في ذلك الزمان وتلك المدينة من فرط ترابطنا ... قابلني (طارق) ابن سكينة في منتصف الحوش قبل ان ابلغ مجلس أمه  في الراكوبة الواسعة المسقوفة حديثا بشرقانية مصنوعة من اعواد القمح الصفراء فظن طارق انني جئت استعجله الذهاب الي تمرين كرة القدم  فقال لي : ( دقيقة يا أحمد ... دقيقة واحدة والحقك ) تجاهلته تماما واندفعت الي الداخل وانا اهتف : (خالة سكينة .. خالة سكينة ...) فجاءني صوتها قويا كأنها أدركت مغزي الرنة التي في صوتي او كأنها كانت تتوقع مجيئي :( حبابك يا المبروك ... خبارك؟ مالك تكورك كدي؟...... إنشاءالله خير؟) قلت لها بانفا س لاهثة إن جدتي تنتظرها وإن أمي تحتاجها ولم أزد... أومات برأسها  في صمت دلالة الفهم ثم غابت قليلا وعادت وهي تحمل حقيبة الدايات المميزة وبدت في أهبة الإستعداد ، اسرعت عائدا بدراجتي . وحين خرجت سكينة من دارنا في عصر ذاك اليوم  كانت أمونة  قد حلت ضيفا طال انتظاره كثيرا وصار ببيتنا اخيرا انثي بعد خمسة اولاد ذكور فقال خبثاء المدينة أن ابي كف بها العين عنا وقال آخرون انه يتوجب علينا ان نبحث عن طوبة من الآن فصاعدا لان الأنثي الواحدة وسط الرجال نذير شؤم. تنحدر فوق خدي دمعة والقطار يشق طريقه بحزم عائدا في الظلام من أبوهشيم الي الخرطوم وأربعة منا في جوفه صامتين والحزن يثقبنا ووجه ابي وهو يترنح  كشجرة في مهب الريح عائدا باتجاه الديار وحيدا  محطما ويائساوهو يجاهد لاخفاء وجهه عنا بيديه ويتمتم بكلمات مخنوقة بالكاد تسمع لما تزال مرتسمة امام أعيننا ... كان ( الياس) محقا وكان اكثرنا جرأة حين عاد ولحق بابيه ولم يهن عليه ان يتركه وحيدا في هذه المحنة... لم يحتمل رؤيته وهو يترنح تحت وطاة جبل الحزن الذي يفتك به..... تأتيني ملامح أمونة  من الذاكرة مشوشة وغامضة ... اسمع صوت طه وهو يحكي بصوت باك تفاصيل المشاهد الاخيرة في حياتها  القصيرة .... انظر في خيالي الي صورة بنتها الصغيرة  التي جاءت صورة طبق الأصل عنها واسترجع نظرة الدهشة والنفور في عينيها وهي تنظر الي نظرة الاطفال الي الاغراب واتساءل في سري   وانا أحادث أمونة قائلا : ( من كان يصدق أو يتوقع ان تكوني اول حبة تنفرط من العقد وقد كنت آخر حبة اكتملت فيه؟ من منا كان يتخيل ان تكون أيادينا التي حملتك لحما طريا  ترتفع الآن بالفاتحة صوب السماء وتتقبل العزاء فيك ؟)........................  اتذكر الآن أشياء عديدة نهضت من الذاكرة كمارد عملاق نام سنينا طويلة ثم كشر عن أنيابه أخيرا وهشم الجرة التي كان محبوسا فيها وخرج ليزرع الفوضي  اينما حل.......... اتذكر فرحةأبي وهو يحمل أمونة بين يديه بحنان ورقة كأنه يحمل قطعة ثمينة من الماس يخشي عليها من الكسر او كأنه يحمل روحه بين يديه......... كان حين يحملها يغيب تماما عمن حوله وعما حوله............ كنت أري نورا خفيا يسطع بغتة فيغطي المسافة بين وجهه ووجهها الباسم المطمئن في حضرته فيبدوا معا ساعتها ينتميان الي الخيال المحض وعالم الاحلام الجميلة وليس الي هذا الكون أو الي طينة البشر. وكانت أمي سعيدة هي الأخري سعادة لا تستطيع ان تخفيها خاصة حين تراه منهمكا مع بنته غارقا في فرحه بها  .. اتذكر انني سمعت امي ذات مرة وهي تقول لجدتي والدموع تلتمع فوق وجهها المجهد :( الطيب طول عمرو يهاتي بي البت .. الرجال كايسين الاولاد وهو  روحو مشحتفة في البت.. طوالي يقول لي نفسي ياعاشة ربنا يكرمنا ببي بنية فيشان اسميها أمونة.) وصمتت أمي قليلا وقالت: ( شاحدة ربي اولادي يطلعوا ليا زي ابوهم في برو بي امو  في حياتها وفي مماتها... يارب...) يأتى صوت العطبراوى دافئا ومسكونا بالحنين والحب وهو يغنى فى حفلة عرس فى عطبرة ... يمسح جبهته العريضة بمنديله وينساب صوته دافئا ولذيذا من الذاكرة ، كأنه يغنى الآن ... اتذكر صلاة العيد ... الجلوس ارضا على البروش الكثيرة التى لا اعرف من اين تجئ ... إنحناء ابى فى الصلاة ... جبهته التى يغطيها غبار ... كنت لا ازال صغيرا اتعثر فى جلابيتى البيضاء الصغيرة مثلى واتحسس فى فرح الطاقية الحمراء الصغيرة فوق رأسى واركض خلف ابى واخوتى فى طريقنا الى مكان الصلاة وفى طريق العودة منه ... اتحسس النقود المعدنية المصقولة فى جيبى بيدى وبى شوق الى الانطلاق الى حيث بائع البالونات الملونة والمزامير والعصافير الصغيرة ... اتذكر مشاهد اخرى غامضة واخرى باهرة فى وضوحها ... الايام الاولى فى المدرسة ... طابور الصباح ... ذلك المدرس الذى كان يصر ان نغنى خلفه بعد نشيد العلم اغنية (انا سودانى انا) فنغنى خلفه بضجيج جميل ونحن نقطع طريقنا الى الفصول (نحن من نفر عمروا الارض حيثما قطنوا) .
اتذكر مشهدا اخرا ... تدوى الصافرة ينفتح الشارع على اجراس الدراجات وعلى اللون الازرق ... امواج زرقاء تندفع من الورش ...فنندفع من المدرسة حتى لا يفوتنا ذلك االضجيج المحبب ... كان معظمنا يتناول وجبة الفطور داخل المنازل القريبة ، لكن ذلك النهر الازرق كان اجمل وجبة نتناولها كل صباح فى عطبرة ، وكانت المحطة عالما قائما بذاته عامرا بالضجيج واللهجات المتباينة والباعة والدموع والغبار والعيون المرهقة ، وبين هذا وذاك انقضت ايام الدراسة عجلى ... انتقل ابى وامى وامونة الى ابوهشيم وانتقلت الى الخرطوم لالحق بالياس و (مصطفى) وادخل عالم الداخلية والدراسة الجامعية كما كنت اشتهى واحلم وكان ذلك الانتقال بمثابة خروج بلا عودة الى ابوهشيم بالنسبة الى ... كانت الجامعة بحر متلاطم الامواج يمور بالضجيج وبالحياة ... الندوات السياسية الصاخبة ... حمى الانتخابات ... الصحف الحائطية المتشاكسة بتلك المانشيتات المثيرة ... الفتيات الجميلات ... الحفلات البهيجة ... مباريات كرة القدم ... التشجيع المميز ... المشاحنات بين مشجعى كل كلية من كليات الجامعة ... فريق الطب الذى عذبنا عذاب الله اكبر وحال بيننا وبين الحصول على كأس الجامعة ثلاث مرات جتى تمكنا اخيرا من صرعه فى المرة الرابعة وسهرنا بمدرجات الهندسة وبالنشاط حتى الصباح ... إحتفالات مارس شهر الكوارث بطقوسها المثيرة بالبركس وحفلة تنصيب شيخ البركس وهو اقدم الطلاب واكثرهم بقاء بالجامعة رغم انفه (مربتا) تلك الزفة الفريدة وابداعات هيئة حلمنتيش التى تذيب جليد السياسة ولهيب الانتخابات وتعيدنا الى مربع البراءة والشباب الباحث عن الابتسامة والامل ... وسرعان ما انقضت سنوات الجامعة ولفظتنا الجامعة الى نهر الحياة مع الفارق فقد كنت اعمل اعمالا صغيرة فى العطلات حتى اتمكن من الظهور خلال العام الدراسى بمظهر لائق من جهة وحتى اصبح رجلا يعرف كيف يعتمد على نفسه من وجهة نظر ابى ، اما الان وقد حصلت على شهادة الهندسة ووظيفة مرموقة واعمالا خاصة فى الوقت الخاص فلم يعد العمل هما وكابوسا بل صار عنوانا دائما ومركزا إجتماعيا مرموقا وصارت الدنيا تبتسم امامى وتفتح ذراعيها بوجهى وابتدأت ادرك بعض الاشياء ... ثمة مفاتيح لكل الابواب يجب على المرء ان يمتلكها ... ليس بالشهادة الجامعية وحدها يحيا الانسان ، ثمة علاقات مفيدة لابد من الاهتمام بها ... ثمة ديكور خارجى جذاب يجب ان يكون دائما محيطا بمن يريد النجاح ... ليست السياسة خارج الجامعة ملابسا متسخة وصراخا مجنونا بوجه الاخرين ... السياسة خارج الجامعة جواز مرور قابل للاستخدام اكثر من مرة وفى اكثر من اتجاه ولتحقيق اكثر من غاية ... تلفت حولى قبل ان اخطو اى خطوة ... قلت لنفسى : (اليسار مهما كان جذابا مآله الى العزلة وجلب عداوات انا فى غنى عنها ولا تحقق اهدافى ... انا لست مشجعا مهووسا بفرقة كرة قدم ... أما الاتجاه الاخر فانه لا يلائمنى ... انا احب الانطلاق وارفض بطبعى القيود والموقف الحادة فى الحياة لا تلائمنى ... ليس هناك افضل بالنسبة الى من حزب الوسط ... انه المكان الذى يجعلنى مقبولا من الجميع ويفتح امامى الابواب المغلقة دون اية خسائر تذكر ...) ، سرعان ما نقبت فى ذاكرتى عن الاصدقاء القدامى الذين قد يساعدوننى فى ولوج المسار الجديد ولحسن حظى كانوا اكثر مما كنت اتصور واكثر نفوذا ممما كنت اعتقد فحملتنى امواجهم القوية ومساندتهم الى القمة سريعا ... بت نائبا فى البرلمان وشريكا فى عدة شركات هندسية اختلط فيها مال السياسة بالاقتصاد والهندسة والطموح والنفوذ ... وباتت الوزارة على مرمى حجر ... صار سفرى بالطائرة وعطلاتى خارج البلاد ... فى الليلة التى نعى فيها الناعى (أمونة) كنت اخطب فى البرلمان صباحا بكل فصاحتى ومهارتى فى امتلاك قلوب وعقول السامعين متحدثا عن تدهور صحة البيئة فى امدرمان مطالبا بتحسين شبكة الصرف الصحى وبتنشيط حملات إصحاح البيئة والاهتمام برصف الشوارع وإنارتها ... وحين سألت عن سبب موت (أمونة) إنتابنى إحساس فظيع بالمهانة والخجل ... تصورت ابى منتصبا وسط البرلمان وهو يمسك بى ويصرخ (نحن تقتلنا الثعابين وانت تطالب برصف الشوارع وإنارتها ؟ اسألوه من اين اتى وماذا فعل لنا ؟؟) تصببت عرقا فى ليل الشتاء ... تذكرت إحساسا مماثلا إنتابنى يوم ولجت دارا للبغاء لاول مرة فى حياتى ..كنت اتقدم خطوة وارتد اربع خطوات ... كانت رائحة العفونة محيطة بالمكان ... الفقر فى كل مكان من ذلك الحى المظلم بمنازله المتهالكة كقاطنيها ... صفوف الرجال التى تثير ذكراها فى النفس إحساسا بالبشاعة لا حدود له ... وجوههم الباهتة ... حركة أيديهم القلقة والمنفرة ... ملابسهم الرثة وملامحهم الريفية ... اللافتة السوداء المكتوب عليها باللون الابيض (منزل أحرار) ... لماذا يسكن الأحرار بجوار هذه المواخير ؟؟ ضحك (عثمان) وقال لى : (هذه اللافتة لا تعنى شيئا سوى ان السعر اغلى ونوعية الزبائن اكثر مالا ونفوذا ... على اية حال من يصدقهم ؟) ولجنا الدار الصغيرة ... همس (عثمان) فى اذنى بان لا ادفع اكثر مما سيدفع وانه هو الذى سيقود المفاوضات ... كنت ارتجف من رأسى الى اخمص قدمى ... استقبلنا رجل قصير يرتدى جلبابا ملونا ويتثنى فى المشى حتى راودنى الشك فى هويته النوعية وزاد شكى حين تحدث بصوت هامس لا يخرج من فم رجل ابدا ... اجلسنا الرجل فى صالة صغيرة وبدا العرض ... كن مجموعة من النسوة الشاحبات الوجوه يلجن الصالة واحدة تلو الاخرى ثم يخرجن سريعا ... وانتهى العرض بالاختيار ... دفعنا مقدما وولج كل منا غرفة مع رفيقته ... كانت رفيقتى صغيرة فى السن نسبيا شعرها المتدلى على جبهتها مممشطا هو ما شدنى اليها ... ؟إقتربت منها ملاطفا ... دفعتنى بعيدا فى برود ... تمددت على ظهرها وقالت بفروغ صبر: (هيا ... فلننته سريعا ...) ، نظرت اليها فى دهشة ... فنظرت الى فى امتعاض شديد ... ماتت الرغبة فى داخلى ... اغلقت ازرار قميصى على عجل ودفعت الباب واسرعت خارجا ... وحين دفعت الباب الخارجى اسرعت راكضا ابعد ما استطعت ثم توقفت وملأت رئتى بالهواء النقى كالخارج من نفق مظلم معتم ، لم اعد بعدها ابدا ولم يسألنى (عثمان) عن سبب ذهابى بدونه ولم اقل له شيئا ، كان ذلك ايام الدراسة الجامعية الاولى ولكن صورة تلك المرأة ظلت تطاردنى سنينا بعد ذلك ... بدأ ذلك فى ليلة زفافى ... كنت سعيدا كطفل ومشتعلا بالرغبة والحنان ... قبلت عروسى فى جبهتها واخذت يدها فى راحة يدى ... اطرقت خجلى ... لم نعد نسمع شيئا سوى انفاسنا المتلاحقة ... وبغتة جاءتنى الصورة من الماضى البعيد وجاءنى الصوت الآمر (هيا.. فلننته ...) ، سرت البرودة فى اطرافى ... ماتت الرغبة ... ونمت وعروسى حزينين بلا سبب واضح .. لم أشف من علتى تلك الا بعد صراع طويل معها وبعد جهد جهيد من الاطباء دون ان ابوح لهم بسرى الخطير ... لم أشف تماما ... ولكننى بت قادرا على تجاوز محنتى حين تجئ واعادة الكرة وساعدنى حنان (حنان) وتفهمها وشيئا فشيئا اصبح الامر كله جزءا من الماضى ... الان اتذكر ذلك واتذكر وجه ابى ونظرة الاتهام فى عينيه ... صمته الطويل ... صلاته الباكية التى كانت كل ركعة فيها تبدو كأنها الاخيرة ... كنت اشعر بتعاسته وكانت كل ذرة فى داخلى تود مشاركته حزنه عليها ... لكن افكارى كانت عاجزة عن الخروج فى شكل كلمات وعاجزة عن التعبير عن نفسها اليه بأى وسيلة اخرى ... كان الشعور الاكبر المسيطر على هو اننى بت غريبا عنه ... ثمة شئ ما انتصب بيننا وأغلق كل منافذ التواصل ... حتى قبل رحيلها الفاجع كان هذا الاحساس يملؤنى وينتصب بينى وبينه فى المرات القلائل التى كنا نلتقى فيها لقاء مباشرا حين يأتى الخرطوم معزيا او مهنئا او لاى غرض آخر ... لم يك يبقى طويلا ... لكنه كان يحرص على إرضاءنا جميعا ... يقسم ايام إقامته بيننا ويقسم حنانه على الاحفاد بالتساوى ... اللحظة الوحيدة التى لا اشعر فيها بوجود تلك الهوة هى اللحظة التى اراه فيها يعود طفلا مع احفاده وهو يضمهم فى حنان وهم يلعبون بلحيته فى طمأنينة ... يحدثهم برقة حينا وبحزم حين يتطلب الامر ذلك ... لكنه لا يغضبهم او يغضب منهم ابدا ... حينها أود لو تعود السنين القهقرى فاعود طفلا مثلهم وادفن رأسى فى صدره وابكى واقول له كل الذى عجزت عن قوله له ... اقول له اننى احبه اكثر من اى شىء اخر فى الدنيا ... واننى مستعد للعودة الى ابوهشيم مزارعا لو كان ذلك يرضيه واننى سعيد بحياتى هنا واعلم انه فى قرارة نفسه سعيد بسعادتى رغم انه كان يتمنى لها مسارا مختلفا ... واقول له اننى مستعد لرصف طرق ابوهشيم وإنارتهاولكن الطاعون الذى اجتاح هذه المدينة سيجتاحها مع الشوارع المضيئة ... سيأتى اليها من المجهول بأمراض جديدة وأحزان لا حدود لها ... ساقول له اننى لست ابنه الذى يعرفه ... لست الشتلة الصغيرة التى رواها ماء سلسبيلا عذبا ... وابكى عند قدميه واشكو له الادران والاوساخ التى لحقت بى بعد خروجى من عنده واقول له ان امونة ليست الوحيدة ولا الاخيرة التى تخليت عنها فى سبيل البقاء والصعود الى الاعلى لكنها الوحيدة التى لم ادرك اننى اتخلى عنها او اتعمد التخلى عنها ... تخليت اول ما تخليت عن ابوهشيم ، كنت حين يسألنى الناس من اين انت اقول بلا تردد اننى من عطبرة واقول لنفسى حين اشعر بالخجل او اتصورك قريبا منى بالمصادفة وانا اقول ذلك (ما العيب فى ذلك ؟ من يعرف ابوهشيم هنا ؟ لماذا انفق وقتا طويلا فى التعريف بها والحقيقة اننى ولدت ونشأت فى عطبرة ... لست وحدى من يفعل ذلك ، كم من زملاء الدراسة فى الجامعة من ابناء القرى الصغيرة عرفوا انفسهم بالمدن الكبرى المجاورة لهم او التى يعرفها الناس ...) ، فى مرحلة تالية تخليت عن عطبرة نفسها ...بت انتمى الى امدرمان حيث دارى الفسيحة وحيث عملى وحيث الهالة المضيئة من الشهرة والنفوذ التى تحيط بى بأعتبارى نائبا من نواب البرلمان عن إحدى دوائر امدرمان وعلما من اعلام المال والسياسة فيها ... حتى حين صحونا ذات صباح فوجدنا انفسنا بلا احزاب وبلا برلمان وبلا بريق لم تنطفئ تلك الهالة ... حتى حين ولجنا المعتقلات بأعتبارنا من رجالات العهد البائد والاحزاب المحلولة لم ينطفئ البريق ... لم يدم الامر طويلا ... خفتت المارشات العسكرية وخرجت سريعا من المعتقل ... وجدت واقعا اخرا لكن سرعان ما تجاوزت الامر ، وكرست وقتى كله لاعمالى المتعددة ونفضت الغبار عن المهندس الذى أهالت رمال السياسة الغبار على قدراته الكبيرة ... نهضت ببطء من القاع ولكن بقوة ... إكتشفت لاول مرة ان بريق السياسة خريف كاذب يدخل المرء فى دوامة لا تنتهى من الخطب الرنانة وإهدار الوقت الثمين وان الدفء الحقيقى هو دفء الاعمال التى تقربك من السياسة بالقدر اللازم لحماية ظهرك وفتح الابواب المغلقة امام نشاطك الحقيقى ... بات شعارى الجديد (كن صديقا للسياسيين ولكن لا تكن سياسيا مثلهم ... اذا صرت مثلهم حرقتك نارهم واذا بت قريبا منهم دون ان تمسى واحدا منهم نالك دفء قربهم دون ان تطالك شرارة نيرانهم والنيران المفتوحة عليهم ...) اسقطت حزبى القديم من حساباتى وتركت الباب مواربا مع اصدقاء الزمن الغابر ... فلا انا اشعلت حربا عليهم او تنكرت لهم علنا وفى الوقت نفسه لم أنغمس فى حركتهم السرية ضد النظام الجديد وكنت امد يد المساعدة بقدر ما استطيع لمن تعثرت حياته منهم فى حدود الصداقة وما يجلب الثناء ويقينى سهام الكراهية ، كان البعض يفسر ذلك على انه نوع من النشاط غير المعلن عنه والوفاء القديم ، كنت اكتفى بالصمت ، لا انكر ، لا انكر الاعتقاد ولا اعترف بصحته صراحة ، وكان هذا الوضع الغامض يكفينى ... كان الحفاظ على شعرة معاوية هو المطلوب فى الظروف الماثلة ... لكننى كنت احتاج غطاء اخر للاقتراب من اصحاب الخيول الرابحة دون ان الفت الانظار ودون ان اصبح واحدا منهم ... بعد جهد جهيد وجدت فى الرياضة بغيتى ووسيلتى ، كانت الرياضة هى البحر الوحيد الذى تسبح فيه كل انواع الاسماك والتماسيح فى ذات البقعة وذات الوقت دون ان تلتهم احداها الاخرى ودون ان يشعر الاخرين بالروابط الجديدة التى تربط بينها فاندفعت بقوة الى قلب المجتمع الرياضى الذى يضم كل الوان الطيف والذى لا تكلف فيه معرفة احد دخول داره اكثر من بضع كلمات اثناء مبارة كرة قدم او اثناء اجتماع او لقاء عابر فى النادى او منزل احد الاقطاب ... واكتشفت اكتشافا مذهلا اخرا الا وهو انه فى المجتمع الرياضى يتقبلك حتى الخصوم ولا يحول اختلاف الميول دون نشوء الصداقات العابرة للانتماءات وتعصب المشجعين ، وهكذا امسى النائب البرلمانى قطبا كبيرا من اقطاب اكبر اندية امدرمان ، شب الاطفال وترعرعوا هنا و امتلأت دواخلهم وعقولهم بامدرمان الحديثة الغارقة فى الماضى واشباحه حيث تقف فيها الطابية المبنية بالطين الاخضر عند بوابة النيل امام مبانى الاذاعة والتلفزيون المزودة بأحدث تقنيات الاتصال كأنما اراد القدر ان يجبر الناس على عقد مقارنة دائمة بين ذلك السور القصير المبنى بالطين فى القرن الماضى وفتحاته الصغيرة التى كانت تختبئ خلفها فوهات اسلحة قديمة وصدور رجال لهم عيون كعيون الصقر _هم فرسان المهدية البواسل الذين واجهوا المستعمر بما يملكون من عتاد قليل وهزموه بسلاح لم يعرفه جنوده ولايباع في سوق السلاح سلاح اسمه الايمان_ وبين تقنيات العصر الحديث واسلحته الجديدة وفرسانه الجدد الذين يقاتل بعضهم بعضا، وعلى مسافة يسيرة تقف بوابة عبد القيوم ومن خلفها السجن العتيق الواقف وسط المبانى الحديثة التى نهضت ببطء عبر السنين وغيرت ملامح امدرمان العجوز بملامح اخرى جديدة مختلفة تماما ، لم يبق شئ فى مكانه يا ابى ... الشوارع لم تعد الشوارع ... لم تعد تلك الازقة الترابية الضيقة التى ترهقنا صعودا ونزولا وتتركنا فى الخريف تبحث عن مخرج مستحيل ولا نجد بدا من الخوض فى الوحل والاستغناء غن سيارة لا يمكنها ان تخرج من الازقة الا اذا نبتت لها اجنحة . حلت محل تلك الازقة شوارع مسفلتة مضاءة بالانوار ليلا وتراجعت الازقة فأمست داخل الاحياء الصغيرة حيث لم تبلغ يد التحديث بعد او حيث يستحيل بلوغها ... اختفت المقاهى الصغيرة المنتشرة فى امدرمان رويدا رويدا وحلت محلها محلات جديدة انيقة يخاف المرء منها ويهاب دخولها ، إزدادت اعداد الباعة المتجولين وعلت اصواتهم على كل الاصوات فباتت المدينة تبدو كأنها عبارة عن سوق كبير لا يعرف المواسم ولا تهدأ فيه الحركة ابدا ... تغيرت الوجوه المألوفة بوجوه عديدة لافواج من البشر اخذت تتزايد حاملة معها احلام عديدة لاصحابها القادمين من كل بقاع البلاد الكبيرة ... اخذت المساحات الخالية فى اطراف امدرمان تتقلص كل يوم والمبانى الجديدة تبرز من العدم وتمتلئ بالساكنين ... ازدهرت اعمال البناء والتشييد فتوسعت اعمالى ... بت صاحب الاعمال الكبيرة الذى لا يباشر بنفسه الا المشاريع المهمة ويكتفى بالاشراف على مملكة كبيرة آخذة فى الاتساع ... صرت لمن لا يعرفوننى قمة يصعب بلوغها وشخصا محظوظا ولد وعلى فمه ملعقة من ذهب . وحدي كنت ادرك الحقيقة عارية .. كنت أعرف انني ذلك الفتي ذي الاصول الريفية الذي كانت الدراسة اول عهده بالمدينة التي لا يعرفها الا من خلال سرير لايملكه ينام عليه بالداخلية وانني ابن استاذ الطيب ود محمودالذي ظل يتقاضي بضع جنيهات من الحكومة حتي تقاعده حين ادركه المعاش قسرا والذي رفض صرف استحقاقت معاشه وعاد مزارعا كما بدا في ابوهشيم مكتفيا بفلاحة الارض حين منع من حراثة العقول أويئس من جدوي ذلك ، فضل البقاء  هناك حيث يقرأ الصحيفة بعد عدة ايام من صدورها علي ضؤ لمبة جاز صغيرة ويرفض الرحيل الي حيث يقيم اولاده ذوي المراكز المرموقة ... والدى فضل الماء الذى يحمله على كتفه بالجوز مباشرة الى الزير على الماء المتدفق من المواسير بعد تنقيته بالكلور ، وحدى كنت اعلم اننى مهما ارتفعت فى اعين الناس اظل فى عين ابى صغيرا واننى مهما انجزت هنا من انجازات اظل فى نظره رجلا تنكر للجذور وادار ظهره لها دون إحساس بالذنب او شعور بالتفريط فى واجب ... لم اكن اهتم بذلك ... كنت اقول للياس حين نجلس سويا فى لحظات الصفا والانس وينازعه الحنين الى ابوهشيم والاحساس بالذنب فيذكرنى بذلك ويقترح اقتراحات غير قابلة للتطبيق لتسوية الامور مع ابى فى هذا الشأن :- (ما تبقى خيالى زى ابوك يا الياس ... انحنا ما مسئولين من شىء قدام ربنا غير ابونا وامنا واختنا واولادنا ... نحن وطنا يا هو هنا محل عايشين اولادنا .) يرد الياس بقنوط :- (طول عمرك يا احمد ما تفهم الا لغة الارقام والربح والخسارة ... مشاعر الناس والوطن ما بتتقاس باللغة دى ، ووالله لو ابوك سمع كلامك ده يقع ميت من ساعتو ...) ضحكت وقلت له :- (وطول عمرك حسابك للامور بى العاطفة وعشان كده يا الياس الدكاترة الاتخرجوا اول امبارح فاتوك) ونظل هكذا تنعارك بلا معركة بالكلمات حتى يأتى من يقطع حوارنا الذى لا نستطيع مواصلته فى حضرة الاصدقاء ، كنت حين اخلو لنفسى اهتز قليلا واقول لنفسى احيانا اننى تغيرت كثيرا وان الياس على حق واننى كلما علا صوتى فى نقده ونقد عاطفته كنت ادافع فى الحقيقة عن نفسى امام نفسى لانه ظل دائما مرآة صادقة تعكس لى الشروخ والندوب التى احدثها الزمان بقلبى وجسدى وروحى ولكننى فى حضرته كنت  اتمسك بعناد الطفولة وكبرياء الرجال الكاذب  : - (من يعترف بالقبح فى حضرة الجمال  ؟؟) .                 

                      
                               السؤال والاجابة

كان السؤال الذى يريد جدى طرحه على (سارا) سؤالا لا يحتمل التأجيل ولكنه قبل التأجيل على مضض فى بادىء الامر او لعله كان حتى وصول النعش المحمول جوا و هذه المرأة ما زال متمسكا بأمل ضعيف فى وجود خطأ ما ، وحين وصل الجثمان وتمت مواراته الثرى وتناثرت فى ارجاء المدينة قصة الرحيل الفاجع كما روتها المرأة الاجنبية وكما وردت فى الاوراق الرسمية ، حينها قفز السؤال الى المقدمة (اين الحفيدة ؟ اين بنتك الوحيدة يا عمر ؟ لماذا لم تجلبها امها معها ؟) كنت قد سبقت جدى وسألت السؤال نفسه لسارا بفضول النساء فى صباح اليوم التالى لوصولها مباشرة ، بدت متوترة وعصبية وهى ترد باقتضاب وبكل ما فى اللغة الانجليزية من فظاظة (هذا ليس شأنك !! لماذا تسألين ؟؟) لم تنتظر تفسيرا منى وغادرتنى على الفور تاركة الدهشة عنوانا للموقف ، انقبض قلبى وقلت لنفسى بكل حسن الظن الموجود فى الدنيا (لعل البنت قتلت مع ابيها ، لعلى نكأت جرحا لم تجف دماء من يعانى منه ؟ لعلى تسرعت ..) ، عزمت على الاعتذار لسارا وان اسعى لمعرفة الحقيقة من طريق اخر و لكن السؤال لم يكن يدر بخلدى وحدى ، امى طلبت منى ان اسأل سارا عن الحفيدة وكذلك فعل جدى ود البشرى ... والنسوة كن حين يسود صمت قصير فى بيت العزاء يقطعنه بالسؤال الخطير نفسه بصيغ مختلفة ، وبات على ان انقل هذه الاسئلة الى سارا وكان عليها ان تجيب اعجبها السؤال ام لا ...لكننى قررت ان اسألها فى حضرة جدى وامى حتى لا تتحجج بأن الامر لا يخصنى كما فعلت فى المرة الاولى ، لكنها خيبت كل توقعاتى هذه المرة لم تهتز او يطرف لها جفن او يبدو عليها التوتر وقالت بهدؤ من يلقى خطابا وقف أمام المرآة عشرات المرات والقاه لجمهور وهمى حتى حفظه عن ظهر قلب : (ياسمين ابنتنا بخير ، لم اشأ احضارها معى لاننى لا استطيع المغامرة بذلك فتلك مغامرة محفوفة بالمخاطر حسب نصيحة المحامى ، انا اعرف انكم طيبون ورائعون مثل عمر وعمر كان يحب ان تأتى بنته الى هنا ، لكننى ام والأم لا تخاطر بابنتها ، ياسمين صغيرة وستبقى معى حتى تبلغ عمرا يكون بمقدورها الاختيار فيه بين (هنا) و(هناك )، حتى ذلك الوقت سأكون عادلة معكم ، متى شئتم رؤيتها هناك هذا امر متاح ، وستبقى على اتصال بكم بقدر استطاعتى ، هذا كل شىء .. ) كانت تتكلم بهدؤ وثقة من ينهى قرارا غير قابل للجدل وكنت الاحق كلماتها واترجم ما تقوله لجدى وامى وبقية افراد العائلة الموجودين ... عم صمت قصير ، ثم جاء صوت جدى غاضبا هادرا : (ماذا تقول هذه المرأة يا فاطمة ؟؟ يقتلون (عمر)ويأخذون بنته منا ؟ هل هذا ما تقوله وتقصده ؟؟عن اي عدالة تتحدث ؟؟) نظرت الى سارا التى كانت تتابع الانفعالات على وجه جدى وتبدو وكأنها قد ادركت مغزى ما يقول .. اعدت النظر الى جدى وقلت له : (هى تقول انها تركت البنت هناك عمدا خوفا من ان نأخذها منها وانها لن تمانع فى ان تروها هناك بين الحين والاخر ولكنها لن تسمح لها بالمجئ هنا ولن تحضرها اللهم الا اذا بلغت سن الرشد ..) قاطعنى جدى قائلا :- (قولى لها ان ما تقوله ان ما تقوله مستحيل ... لن يجدث ابدا لن اترك حفيدتى هنالك مهما كلفنى ذلك ...) ، حين ترجمت لها ما قاله جدى ابتسمت سارا وقالت بهدؤ : (قولى له انه لن يستطيع ان يفعل شيئا مما يقوله ... القانون الامريكى لن يسمح له ان يأخذ طفلة امريكية من أمها ابدا ، وانا لن اترك الشئ الوحيد الذى تبقى من عمر) ثم نهضت وقالت : (اسفة هذه المحادثة انتهت) وانصرفت فى هدؤ تاركة الصمت والغضب والذكريات تحلق جميعا فى المكان ، عادت الى الفندق حيث تقيم بعد ان رفضت فى الايام الاولى كل العروض التى قدمت اليها للانتقال للاقامة فى بيت الاسرة ... بح صوتى ونضب قاموس لغتى الانجليزية الفقير وانا احاول جاهدة ان اشرح لها ان التقاليد السودانية تأبى ان تقيم ارملة الابن فى فندق ودار اهله على مرمى حجر وان (عمر) لابد قد قال لها شيئا مماثلا  لكنها كانت تحتمى بعبارة وحيدة (اوه لا استطيع oh I cant do that) الان فقط فهمت سر اصرارها فقد كانت تحمل الدموع فى عينيها ولوحات عمر فى ايديها وفى مكان اخر مظلم بداخلها تخبىء اسلحة معركة استعدت لها جيدا وحسبت كل احتمالاتها ولم تكن مستعدة للتفاوض الا فى الحدود التى رسمتها هى للامور ... وحين اجهشت جدتى بالبكاء  فى حضرتها وتوسلت اليها باللعة الوحيدة التىتعرفها قائلة ان العمر لم يعد فيه بقية وانها تود ان ترى حفيدتها لم تهتز (سارا) بدت كلماتها لطيفة وهى تخرج صورة صغيرة للحفيدة وهى تتوسط ابيها وامها ودفعتها نحو جدتى وانا بالكاد الاحق كلماتها مترجمة إياها الى جدتى التى تناولت الصورة بلهفة ولم تعد تسمعنى ... اكتفت بلغة العيون ... وحين رأت ابتسامة عمر وهى تطل من الصورة لم تتمالك نفسها فاجهشت ببكاء طويل ولم يعد للحديث بقية ... تركت (سارا) الصورة فى يد جدتى وتسللت خارجة وعلبة سجائرها فى يدها ويدها الاخرى على الزناد ، كنا نبكى جميعا ودخان سجارتها يأتينا من الخارج كأنه دخان غاز مسيل للدموع القت به شرطة مكافحة الشغب وسط مظاهرة بريئة لتفريقها عنوة ، حين توقفنا عن البكاء الجماعى كانت رائحة الدخان قد تبخرت تماما ، وحين خرجنا الى حيث كانت سارا كانت هى الاخرى قد تبخرت ، جمعت اغراضها الصغيرة واختفت ، وظننا ان المشهد بات اصعب من قدرتها على الاحتمال فقررت الانسحاب مؤقتا ، لكنها حين غابت فى اليوم التالى ولم تحضر اثار ذلك ريبتنا فذهب جدى وبعض الاقارب للسؤال عنها فى الفندق فكانت المفاجأة حين علموا انها قد غادرت عائدة الى بلادها فجرا ... دون وداع ... دون رسالة ... الشئ الوحيد الذى تركته لنا كان هو بطاقة صغيرة ملونة عليها اسمها وعنوان وارقام هواتف ، وكانت المفاجأة الاكثر قسوة ان جدى فور فراغه من ايام العزاء بادر بالسفر للبحث عن حفيدته الى لم يرها الا فى تلك الصورة الوحيدة التى تركتها امها الغامضة ... لكنه حين بلغ المدينة التى كان يعيش فيها (عمر) و (سارا) و (ياسمين) لم يجد غير محضر مقيد ضد اشخاص مجهولين بقسم شرطة ، اما عنوان (سارا) وهواتفها فلم يعد لها وجود فيها ... تبخرت (سارا) والحفيدة الغائبة (هناك) ولم يكن ثمة أثر او خيط يمكن الاستدلال به .... لم يجد تعاطف السفارة والعاملين بها ولم يجد حماس الشباب السودانى المقيم هناك ، لم تجد النقود التى انفقت فى مكاتب المحامين ... تبخرت (سارا) كأنها طيف او خيال ومض فى ليلة من ليالى الشتاء فى ذاكرة حالمة وانطفأ ولم يعد ابدا ، وحين عاد جدى من (هناك) بدا وكأن الشهور التى قضاها كانت دهرا ولم يعد ذلك المارد الذى لا يشيخ ابدا ، امسى شخصا اخرا زاهدا فى كل شئ ، صموتا ... يتنقل فى  الدار الساكنة فى صمت كما تتنقل الظلال ... بقيت عربته الاوبل قابعة فى مكانها عدة اشهر دون حراك ، وما بين المسجد وغرفته التى يغلقها عليه انقضت الايام الاولى الصعبة على جدى ، لكن تلك الايام لم تنقض ابدا بالنسبة لجدتى وامى ، كان يكفى ان يفرغ احدهم من صلاته فتنفجرا باكيتين وهن يتساءلن عن مصير (ياسمين) الضائعة فى بلاد بعيدة مع (ام) ليست كالامهات اللائى نعرفهن ووسط قوم ليسوا مثلنا فى شئ ... (صلاتهم ليست صلاتنا – ان كانوا يصلون اصلا – حياتهم ليست حياتنا ، دى نصيبة شنو الوقعنا فيها يا ناس ؟؟ )كانت جدتى تطرح سؤالها هذا فى كل مرة تذكر فيها حفيدتها الغائبة كأنها تنتظر الاجابة ... كانها تنتظر معجزة مثل تلك التى حررت فاطمة السمحة من الغول الذى ينام مائة عام !!  


                                    دفتر يوميات عمر     

رأ يت فيما يرى النائم ماردا ضخما لم استبن ملامحه لكننى احسست به جاثما على صدرى مطبقا على بكل قوته كأنه كلابيش من الحديد فى رسغ سجين ، كان صدره يعلو وينخفض بقوة كاشفا عن مدى الحقد الدفين الذى يحمله ضدى دون ان ادرى السبب ، رأيته بين اليقظة والمنام بين الشعور واللا شعور يحاول جاهدا احكام قبضته على وانا احاول جاهدا الخلاص من براثينه لكن قواى واهنة وعزيمتى لينة لا تكاد تسعفنى ، وحين اوشكت الهزيمة الماحقة ان تتسلل الى روحى بزغت فجأة فى خاطرى الفكرة ... انه (.......) ودون ان ادرى كيف ومتى حدث ذلك بدأت ارتل تلاوة عذبة اتت من مكان ما فى داخلى بصوت خفيض فى البدء ثم احذ يعلو كاصوات جوقة حماسية على خشبة مسرح :- (قل هو الله أحد ... الله الصمد ... لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا احد .) اخذ صوتى يعلو بأيات القرأن وأخذت القبضة الحديدية تتراخى من حولى وصوتى يعلو وهو يزداد ثقة وطمأنينة وقوة : (قل اعوذ برب الناس ، ملك الناس اله الناس من شر الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس من الجنة والناس.) تتراخى القبضة وينفثئ ثقل العملاق الذى كان يطوقنى كما يحدث لبالونة صغيرة تثقبها يد طفل فى المنتصف ... تحرر جسدى من القوة الزائفة التي كانت تحاول تطويقه ...... شعرت بانني حر وإنني امسيت خفيفا كطائر صغير يحلق كيفما شاء في ملكوت الرحمن وفضاءاته التي لاحدود لها.... انهمرت دموعي وارتفع صوتي بالتلاوة مجددا:( يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين ، على صراط  مستقيم تنزيل العزيزالرحيم لتنذر قوما ما انذر اباؤهم فهم غافلون ... ) يرتفع صوتى جهيرا وواثقا ومنغما كأنه ليس صوتى ... كانه يأتى من مكان مجهول خارج الزمان والمكان ، وأفيق من النوم ولسانى لا يزال يردد تلاوته البديعة وحبات عرق قليلة احسها واقفة على جبينى ... وجه (سارا) المملؤ دهشة وخوفا يعيدنى الى الواقع هنا فى قلب نيويورك بعيدا بمئات الالاف من الاميال عن المأذن وصوت المؤذن وبلاد التلاوات العذبة التى ينتهى بها اليوم ويبدأ بها اليوم التالى ... تدفن (سارا) وجهها فى صدرى وهى ترتعش كعصفور وتقول بالانجليزية (لقد افزعتنى يا عمر ... ما الامر ؟؟ هل كنت تقرأ القرأن ؟؟) مسحت على شعرها بيدى بحنان واحساس غامض بالانتصار على شئ ما يملؤنى وطمأنينة لا حدود لها تكسونى : (لا شىء ... مجرد كابوس ، تركت صلاتى منذ فترة لذلك تنتابنى الكوابيس ... لكن لا تقلقى ... كيف عرفتى اننى كنت اقرأ القرأن ؟؟) صمتت قليلا وقالت : (كلما وقفت تصلى وقفت ارقبك واستمع اليك وانت تهمهم بكلمات غامضة باللغة العربية فعرفت انه القرأن ، انا اعرف ذلك فحسب .) . نهضت واغتسلت وتوضأت وصليت فى خشوع صلاة كثيرة وعدت الى فراشى ممتلئا طمأنينة ، كانت (سارا) لا تزال ساهرة فى انتظارى فقالت حين عدت الى جوارها : (هل تصلون طوال الليل هكذا دائما؟) قلت لها ان بعضنا يفعل ذلك دائما وبعضنا يفعله بين الحين والاخر ولكننا جميعا نصلى خمس صلوات لا تقبل النقصان ، صمتت سارا وبدأ لى كأنها قد خلدت للنوم وحين ادرت رأسى الى الجهة الاخرى لانام جاءنى صوتها حالما كأنها تحادث نفسها : (عمر ... اريد ان اعرف الكثير عن الاسلام وعنك ... هل تفهمنى ؟؟ اريد ان اعرف ولكن لا تدفعنى دفعا ... انا لا احب ذلك ... 
Don’t Bush me please you know what I mean??) قلت لها اننى اتفهم وجهة نظرها وان الاسلام يمنعنا من اكراه احد على قبوله عنوة ... قلت لها ان هذا ما يميز الاسلام عن غيره ، قاطعتنى قائلة : (الم اقل لك لا تدفعنى دفعا !! ها انت تفعل من البداية ... هذه هى المشكلة ) لم اقل شيئا اخرا وخلدت هى الى النوم وبقيت ساهرا اتذكر كيف التقينا وكيف سارت الامور بيننا بسرعة غريبة لم اعهدها ... حتى اننى اعترانى الخوف فى البدء وكدت ابتعد منها بوحى من ذلك الاحساس بأن الامور سارت بسرعة كبيرة جدا ... كانت تلك اول مرة فى حياتى اسمع فيها امرأة تقول لرجل فى اللقاء الرابع بينهما انه يعجبها وانها تميل اليه ميلا لم تتبين اسبابه بعد ... هكذا تحدثت (سارا) ببساطة شديدة وعبرت عن نفسها مباشرة لم تعطنى اى فرصة لابراز مواهبى الامدرمانية فى التقرب من الحسان ... فاجأتنى وهى تنظر الى فى مرسمى وانا ارسم تلك اللوحة لبيتنا فى امدرمان بالقول : (مذهل ... Amazing هذا شىء رائع ... انت رجل مميز جدا يا عمر ... كل شىء فيك يعجبنى ويشدنى اليك ... كل شىء ... من اين تأتى بكل هذه الرومانسية والاجواء الساحرة ؟؟) الجمتنى الدهشة واضطربت يدى الممسكة بالفرشاة فتوقفت عن الرسم ... لم اعرف ما اقول ... ظللت ابتسم دون ان اقول شيئا ... خيل الى انها كانت تنتظر ردة فعل احرى خلافا لذلك ... لكننى كنت خائفا ومرتبكا فى حضرتها كأنه يومى الاول فى المدرسة فى امدرمان كنت اعرف ما يسعد المرأة وما يغضبها ... هنا لا اعرف شيئا بعد ... هنا امشى كالسائر فوق ارض مليئة بقطع الزجاج الصغيرة او كمهرج فى سيرك يمشى فوق الحبال فوجدت ان مخرجى الوحيد هو الصمت والانهماك فى الرسم ... اتذكر الان ايامى الاولى فى هذه البلاد ... زيارتى الاولى لشارع Broadway ذلك الوجه الاليف (طارق) ابن السودان الممسك بفرشاة وهو يرسم فى عرض الشارع والفتيات الجميلات يتابعن رسمه بفضول وانتباه كمن يشهد لحظة ميلاد للمرة الاولى ، كان يرسم فى قلب (البرودواى) اشجارا استوائية ووجوها غليظة الشفاة وحرابا وسيوفا وقطاطى مبعثرة وغزال صغير ذو عيون رائعة يتأهب للفرار من الصياد المتربص ... كان طارق ينقل بفرشاته الوطن البعيد الى قلب هذه الغربة الموحشة ... كان هو نفسه لوحة متميزة بطوله الفارع وجسده الضخم واياديه الرشيقة الممسكة بالفرشاة وعضلاته البارزة وصدره الذى يعلو ويهبط تمردا على القميص الذى يرتديه الذى بدا ضيقا به وبما يحمله صدره من ضجيج ... وقفت ارقبه فى سكون وهو يرسم غائبا عما حوله كالمستغرق فى صلاة طويلة ... كنت اعرف انه من السودان ... منذ ايامى الاولى هنا حدثونى عنه ... (طارق السودانى) الذى يحتل مكانا مميزا فى شارع البرودواى ويمثل حالة خاصة فيه ... (اذا لم تشاهد طارق والبرودواى فانت لم تشاهد نيويورك .) هكذا وجدتنى فى هذا النهار البديع فى قلب البرودواى فى الناصية حيث يرسم (طارق) فى الهواء الطلق ... يفتح ذاكرته المحتشدة بتفاصيل الوطن البعيد ويفتتح متحفا سودانيا فى كل صباح بفرشاته التى يمسك بها بيده اليسرى دائما ، تخرج لوحاته طازجة كرغيف بلدى من المخبز العتيق بسوق الموردة .       
وقفت أرقبه فى صمت وانبهار حقيقى كأننى لم اسمع قط ولا ادرى لماذا تذكرت ذلك الرجل الذى يرسم فى كل مكان بالفحم فى مستشفى التجانى الماحى فى امدرمان ... قلت لنفسى ما اشبه الجنون والعبقرية وما اقسى الفارق بينهما !! ، كان طارق يؤدى لحنا غامضا بشفتيه وهو يرسم بتركيز وكأنه وحيد فى وسط تلك الانهار البشرية المحيطة به والتى تمثل السمة الاساسية لذلك الشارع الذى يفترش الجنون ويحتضن الدهشة و تقدمت منه حتى صرت فى مرمى بصره اذا ما رفع رأسه عن لوحته لاى سبب لكنه لم يفعل ابدا، كان كمن يسابق الزمن وعيونه مسمرة على مشهد يخشى ان يهرب من امامه قبل ان يحيله الى لوحة نابضة بالحياة ، كنت انا من يتلفت يمنة ويسرة كلما سمعت خلفى او يمينى تنهيدة دهشة منغمة صادرة عن فتاة من وسط ذلك التجمع الصغير المتزايد حول (طارق) لم استطع صبرا وجدتنى اقول بلا مناسبة (انت طارق ... اكيد انت طارق السودانى ...) توقفت الفرشاة فى منتصف الطريق بين اللوحة وبين الفراغ الذى تقطعه الفرشاة حتى تبلغ موقعها فى اللوحة ، استدار (طارق) كمن لسعته نحلة وفى اللحظة التالية وجدتنى فى احضانه كأننى صديق قديم يعرفه منذ الاف السنين احسست به وهو يقلدنى بكلتا يديه كأنه يبحث عن شىء ما ... عن رائحة ، تصافحنا بحرارة ثم افلتنى فجأة وارتد بضع خطوات الى الوراء واخذ يتأملنى كأنه يرانى للوهلة الاولى ،، هكذا بأسرع من لمح البرق صرنا اصدقاء فى ذلك المساء كنا نمشى الهوينا سويا سيرا على الاقدام عبر اطول شارع فى العالم شارع البرودواى الذى يشق نيويورك انطلاقا من الفورتيى سكن معقل الرسامين حتى انتهينا فى مطاعم يمانية عربية اقامها المهاجرون فى البروكلين حيث تجد العالم كله متجاورا وممثلا هنالك كأنك تجول فى معرض دولى للثقافات المتباينة واحتضنته ارض معرض واحد ، وبينما نحن نسير وسط ارتال البشر توقف (طارق) فجأة ... نظر الى اصابع يدى التى لوحت بها اثناء الحديث طويلا ثم ابتسم وقال بهدؤ : (انت رسام يا عمر ، واذا كنت لم ترسم فى حياتك عليك ان تبداء من الان) ضحكت وقلت له وانا اهز رأسى بالايجاب : (من يراك ترسم بذلك الجنون وتلك البراعة الناطقة لن يجرب الرسم ثانية يا طارق ...) ، صمت (طارق) طويلا حتى ظننته لن يرد على عباراتى ثم قال فجأة بصوت هامس كأنه يحدث شخصا ثالثا غير مرئى : (انا لا ارسم ... انا احاول ان اشفى من جنونى ومن جراحى ... انا احاول ان اقول اننى لست قادما من    no where) نطق عبارته الاخيرة بالانجليزية بتمهل من يمتص ببطء اخر نفس فى سيجارته الاخيرة ، احسست بخوف غامض يجتاحنى فجأة ، بدا لى بحاستى التى لا تخيب اننى اقترب من حقل الغام وانهار احزان عصية على التجفيف ، اسرعت الحطى حتى اتجاوزه فلا انظر فى عينيه ولا امكنه هو من النظر فى عينى مباشرة ، بدا لى عندها شخصا اخرا ، ارتخى كتفاه العريضان وبدت أكمامه كأنها معلقة فى الفراغ وليس فوق ذلك الجسد الذى كان يبدو قويا وفتيا حين كان يرسم فى عرض الشارع ، تسمرت العينان المتعبتان على الارض وامسى يسير بصعوبة بالغة وهو ينتزع اقدامه انتزاعا كأنه يخوض فى وحل الخريف فى ارض طينية زلقة فى قلب الجزيرة ، ساد صمت موجع بيننا ، لم نعد نسمع سوى انفاسنا اللاهثة ونحن نمضى قدما كالسائر الى الخلف ، وحين ولجنا ذلك المطعم اليمانى الصغير دبت الحياة من جديد فى طارق وتهللت اساريره كالعائد الى داره بعد يوم عمل شاق وطويل و ابتسم طارق وهو يحى الجرسون ذى الملامح واللهجة العربية كمن يحى صديقا قديما ضحك وقال لى : (هكذا هى اقدارنا اللعينة يا عمر ... نرحل عن الامكنة التى نحبها ثم نصنع لها تمثالا او نموذجا مصغرا نلجأ اليه كلما داهمنا الحنين ، انعل ابوالحنين ...) ادهشتنى المفردة العامية التى اختتم بها كلماته العميقة ... قلت لنفسى : هذه المفردة نفسها نموذج صغير للحنين الذى تلعن ابوه يا طارق ، قال طارق بلا مقدمات وهو يتدفق كشلال: (هنا التقينا اول مرة ... كنت موليا ظهرى لها وانا ارسم وكانت هى خلفى تماما ... احسست بأنفاسها تلسعنى لسعا .. ثم حدث كل شىء  بسرعة كتلة ثلجية متدحرجة من اعلى الجبل ... فضولها وفضولى واللوحة والمطعم العربى ودهشتها حين عرفت اننى عربى كل ذلك كان وصلا لخيوط غير مرئية جمعت بينى وبين (كاثرين) التى تحب الابتسام حين ترانى ... قالت لى فى الاسبوع الاول لتعارفنا حين شكوت اليها متاعبى الكثيرة وهى تبتسم  (  never let yesterday use up today ) قلت لها بعناد :- (لكن امسى لم يقضى على الحاضر فقط بل اتى حتى على المستقبل يا كاثرين ... هل بامكانك ان تتصورى ذلك ؟؟ ) قالت لى :- (انت رسام والرسام نصفه خيال جامح ... والاحزان تبدأ كبيرة ثم تغدو صغيرة دائما ... لا نعود نذكرها ...) كنا نتمشى على عشب اخضر اكثر خضرة من العشب الذى نراه فى الصور الملونة ... كان ثمة ضجيج ونوافير واطفال يتراكضون ... وقفت فجأة واجهشت بالبكاء حين تذكرت (عثمان) وجمجمته المهشمة والتقرير الكذوب والطبيب الذى يرتجف ... افواج المعزين ... والصمت الذى عم المدينة ... اتذكر المشهد كله وارفض ان ابوح به فى حضرة هذه المرأة الاجنبية ، ارفض ان اشفى منه ... ماذا اقول لها ؟ أأقول لها انهم هشموا رأسه لانه قال كلمات صغيرة يعتقد انها صحيحة ؟ أأقول لها انه لم يكن يحمل بندقية ولم يكن خادما لسفارة اجنبية ... كان عاملا صغيرا شاءت الاقدار ان يعتلى رأس نقابة وان يكون رأسه قويا لا يلين الا بأسكاته تماما ... أأقول لها انهم هشموا رأسه وهم يتقاذفونه وحيدا داخل مكتب يرفع فوقه علم الوطن الذى تخلى عنه فى محنته وتركه وحيدا بينهم وهم ينقبون فى صدره الذى تكسرت ضلوعة وفى رأسه بحثا عن اسرار خطيرة حتى هشموا رأسه واضلاعه ثم سلموا جثته الى ذويه مشفوعة بتقرير طبى تفوح رائحة عفونته اكثر من رائحة الموت فى الجسد المسجى ، تقرير خجول ممهور بتوقيع طبيب مجهول يقول ان سبب الوفاة هو حمى الملاريا !! . 
 اتذكرالتفاصيل الصغيرة الموجعة ، حتى احتباس لسانى فى قاع حلقى وحتى سورة القرأن التى قرأها ذلك الشيخ فى ذلك الصيوان فى تلك الليلة (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون) كان الرجل يحتاج الى كل الشجاعة الموجودة فى المليون ميل مربع على امتداد العصور حتى يقرأ تلك الايات الكريمة فى تلك اللحظات المظلمة لكنه كان شجاعا اكثر من ذلك فقرأها علنا وتحدث عن موت عثمان وفساد الحكام ، اتذكر الوجوه جميعا وذلك الصمت الناطق : هى نفس الاجواء التى خبرتها صغيرا ليلة إغتيال زميلى فى المدرسة الثانوية فى مظاهرة سلمية لتلامذة برصاص منهمر كا لمطر : اتذكر العنقريب ذى القوائم الحمراء الذى حملنا فوقه جثمانه وسط امواج بشرية نحو المدافن واتذكر مشهدا اخرا ليلة اعتيال عثمان صورة والده وهو يضع يديه فوق رأسه لبرهة يسيرة ثم يشرعهما الى الامام كالسيف وهو يوجه عباراته كا لقذائف الى اولئك الرسميين الذين احضروا الجثمان المسجى والتقرير الكذوب : (وما دخل الملاريا بتهشيم الروؤس وجراح الجسد ؟ الا تصلون ؟ الا تعبدون الله  الذى نعبده ؟؟)
 كان الرد طاطأة روؤس وصمت ، وكان فى الصمت اجابة.  دفنا عثمان كما دفنا طه الصغير من قبل ودفنت الوطن هناك معهما ، حملت حقيبتى وفرشاة الالوان وقررت الرحيل ابعد ما استطيع عن هذه البلاد التى لم تعد تأبه بالقتل ولا يهتز لها جفن ، قلت لنفسى : (لن ابقى فى وطن تذبح فيه الغزلان وتحرق فيه الغابات وتهشم روؤس الرجال و لن ابقى فى وطن التقارير الكذوبة والروؤس المطاطأة لأناس لا يعبدون الله الذى نعبده ... ) قلت لنفسىبصوت مسموع : (كفاك يا طارق ... انك تفتح جروحا لا تندمل !!) قال طارق بصوت غاضب : (من يريدها ان تندمل ؟ قبلك قالت لى (كاثرين) وهى تضمنى فى حنان الى صدرها وتدفن رأسى فيه ونحن فى عرض الطريق : (ابك يا صغيرى ... ابك كما تشاء ... لا تدعى القوة ... القوة الحقيقية ان تظهر ضعفك لا ان تخفيه ... لا شىء يحررك سوى ان تكون كما انت ...) دفعتها عنى بعيدا وقلت لها بغضب : (نحن نموت واقفين كالاشجار ولا تصدر عنا اهة الم ... اتفهمين ؟؟) تركتها حيث هى والدهشة رفيقتها وهرولت بعيدا عنها باسرع ما استطيع .
قلت له : (لا اعرف لماذا اتذكر الان يا طارق رحلتى الاولى والاخيرة الى الجنوب ... اسمع صوت طائرة الانتينوف الصغيرة التى ليس بها مقاعد والتى اقلتنى من الخرطوم الى جوبا مع مجموعة من المقاتلين الشباب ... كانوا فى مثل عمرى وقتها ، طلابا لا يزالون بالجامعات ودونها ... يغنون اناشيد حماسية وهم ذاهبون الى حيث خيار واحد من اثنين : (الموت او القتل)  شبانا فى ميعة الصبا احلامهم تحلق ابعد من الافق الذى ترسمه الطائرة الصغيرة التى تتأرجح فى الجو كريشة فى مهب رياح عاتية وهى تمضى بهم نحو المجهول ... كنت اتوق الى رؤية الجنوب ولم اجد فرصة افضل من الذهاب كمصور صحافى متبرع ... كان التصوير هوايتى الثانية بعد الرسم ، وكان سبيلى الوحيد لرسم الجنوب فلم اتردد فى الولوج غبر بوابته ، لم اخبر ابى بوجهتى ... قلت له ان الجامعة تنظم رحلة الى شرق السودان بينما كانت وجهتى جنوبا حيث المحاذير والنيران المشتعلة ... بطريقة ما صرت مصورا حربيا يقلع فى طائرة  تحمل مقاتلين ينظرون اليه شذرا وهم لا يخفون ضيقهم وتبرمهم بهذا الذى يحمل كاميرا وفرشاة رسم لم يستطيعوا ان يفهموا ان شخصا يذهب كل هذه المسافة من اجل صورة او لوحة ولم يبذلوا جهدا لإخفاء شعورهم العدوانى تجاهى فقال لى احدهم وهو ينظر فى عينى مباشرة : (الناس ماشه تكاتل وانت ماشى ترسم ؟) قلت له بنبرة زائفة وكلمات ميتة :  (انا ذاهب لارسم الرجال وهم يقاتلون !!) بدت عليه الحيرة ... نظر الى زملائه واطرق ولم يحادثنى بعدها ... ولكننى رسمته بعدها بسنوات من ذاكرتى حين قابلت احد زملائه وعلمت منه انه راح ضحية لغم مزق جسده اشلاء صغيرة قبل ان يطلق طلقة واحدة من بندقيته ، وتذكرت تلك النبرة فى صوت ذلك الضابط الذى باشر اجراءات تأمين سفرى فى تلك الرحلة وهو يختم اخر اوراقى وهو يقول : (هى حرب لعينة ليس فيها فخر لاحد حتى نرسمها ، لماذا نريد ان ترسمها ؟ نحن نريد ان نمحوها من ذاكرتنا وذاكرة العالم فلماذا تصر انت على اخراجها من هناك الى الاخرين الذين لم يروا كم هى بشعة وغبية ومخزية !!) لم ينتظر جوابى واسرع الخطى وحينها فقط ادركت انه من جرحى الحرب الذين اصطلح العسكريين على تسميتهم (لجنة) قياسا على السيارات التى تعطب ويتم تلجينها واخراجها من الخدمة .
وحين بت هناك فى جوف الغابة والخوف من الموت المختبىء فى الارض واعالى الاشجار وكل مكان ادركت مغزى ما قاله ذلك المقاتل القديم فقد كان بمقدورى ان اسمع الغابة وهى تتوجع كامرأة فاجأها المخاض فى العراء وسمعت الاشجار وهى تبكى ورأيت الحيوانات المفزوعة  وهى تبحث عن حق اللجؤ فى البلدان المجاورة .
قاطع طارق استرسالى قائلا :- (فى احراش الجنوب فقدت اعز اصدقائى واجملهم ... كان طويلا كنخلة وكان اميز مدافع عرفته الرابطة الجنوبية ... كان نجمة تزين صدر فريق المجد ، وكان ضاحكا حين ودعنا ذات نهار كانه ذاهب الى حفلة عرس فى احد الاحياء القريبة ، لكنه لم يعد ابدا لم يعرفوا له مكانا ، لم يعرفوا ان كان حيا او ميتا ... لم يعد ... تذكرته هو الاخر فى ذلك اليوم وانا عائد من صيوان عزاء (عثمان) وبدا لى ان ثمة رابط مشترك بين موتهم جميعا ، ثقبنى الحزن وبدا رحيلى فى تلك الليلة وذلك اليوم فقد كنت قانعا بحياتى راضيا بها ... استاذا للرسم فى مدرسة ابتدائية براتب صغير وطموحات اصغر منه ، كان ابى قد انفق حياته كلها فى خدمة الشرطة ولم يحصد من ذلك سوى شيئا سوى بيت صغير فى اشلاق البوليس وطعنة غادرة من لص ذات مساء وهو على صهوة حصان السوارى اقعدته عن الحركة فبقى اسيرا لكرسى متحرك ، لكننى لم اشعر يوما بعدم الامان حتى حين بدأت الخطابات التى تتعلق بإخلاء المنزل ترد بين الحين والاخر، لم يكن ابى راضيا عنى ، كان ينظر الى ويقول ...( لو كنت قد صرت شرطيا لكنا على الاقل امنين فى هذا المنزل من الطرد و لكنك اخترت هذه الدراسة عديمة الفائدة ) لكنه كان يحبنى وكنت احبه حبا جما ... وكانت رنة الاسف فى صوته لا تبقى كثيرا ، كنا سعداء بحياتنا البسيطة ن كانت سعادته تكون اكبر حين يلجأ الى رؤسائه فى كل كبيرة وصغيرة تتعلق باحتفالات الشرطة فى الكتابة والرسم وغيره مما يدخل فى اختصاصى ، كان يشعر بأنه موجود بينهم بطريقة او بأخرى من خلالى كان فى ذلك سلوى وعزاء له وافتخار بما كنت دائما اشعر اننى لا استحقه ابدا ، لكننى حين عدت تلك الليلة من صيوان العزاء اجرجر اقدامى عبر طرقات المدينة التى كانت تبدو غير عابئة بى وبحزنى او بعثمان وجراحه ومصيره الفاجع ، حينها وانا اقطع الطرقات المبللة بماء المطر ونباح الكلاب يلاحقنى ايقنت باننى لم يعد بامكانى الاستمرار فى حياتى هنا ، احسست ان شيئا ما قد ذهب الى غير رجعة مع (عثمان)  قلت لنفسى : (كيف تعيش هنا يا طارق ، كيف تنظر فى وجوه التلاميذ ولا ترى عجزك وجبنك ، كيف ترسم الاشجار ولا ترى الجذء المكسور من جمجمة (عثمان)  فى اعاليها ؟ كيف ترسم الارض ولا ترى دماء (طه) تغطيها ؟ كيف ترسم البيوت ولا ترى احد القتلة ساكنا فيها ناعما بنوم هنىء بعد وجبة طعام بشرية !!) قلت لنازك بعد ايام قليلة حين التقينا فى منزل صديق مشترك ان علاقتنا محكوم عليها بالموت واننى لست لائقا لها واننى لن اقوى على العيش هنا وليس من العدل ان اقودها معى صوب المجهول والرمال المتحركة ... قالت لى بهدؤ : (انت تحمل الاشياء اكثر مما تحتمل يا طارق ... انت مجروح وحزين وهذا حقك ، لكن القرارات الكبيرة لا تتخذ فى مثل هذه الظروف ... اعط  نفسك فرصة  ) قلت لها والهواء يلعب بضفائرها الطويلة ودمعتها ترتطم بالارض بصوت مسموع : (لم يعد ببلادى مكان للعيش يا نازك ، سماءنا ملبدة بالدماء ونجومنا متخمة بالكراهية وحشائش حدائقنا الخضراء باتت شاحبة ومليئة بالاخطار الكامنة ... لم يعد لنا مكان هنا ، اذا اردنا ان نعيش هنا فيجب ان نحمل بندقية أو نطأطى الروؤس ، وانا اكره البنادق واكره طأطأة الروؤس ... انا ...  ) قاطعتنى بحزم : (انت تصور الاشياء بصورة فظيعة يا طارق انت ...) لم ادعها تكمل الجملة قلت لها : (ليست اكثر فظاعة مما رأيته وعايشته ، ليست اكثر فظاعة من اولئك الكامنين فى الظلام الذين لوثوا اوراقى البيضاء بالدماء وكسروا فرشاة الرسم) . صمت طارق وبدا لى المطعم الصغير بكل جماله والهدؤ الذى يسكنه وروائح الطعام الشهية مكانا اضيق من خرم إبرة صغيرة وشعرت اننى احتنق حتى الموت ، قلت له محاولا اخراجه من كهفه : (الست جائعا يا طارق ، انا اكاد اموت جوعا ، دعنا نأكل شيئا ثم نواصل ...) لاذ (طارق) بالصمت كاننى لم اقل شيئا ... تنحنحت بصوت مسموع واشرت على (النادل) الذى بدا كأنه كان ينتظر اشارتى منذ زمان  بعيد فاقبل مسرعا وحيانى باللغة العربية بلطف شديد وسألنى ان كنت اريد شيئا معينا مضيفا انه يعرف  ماذا يريد (طارق) سلفا ... قلت له ان يحضر ذات الطبق الذى يحضره لطارق فأنصرف على عجل كما جاء ... ادرت رأسى باتجاه (طارق) لاحادثه فوجدته منحنيا على ورقة امامه وهو يرسم على عجل كمن يسابق الزمن ، كان قد فرغ لتوه من رسم الرأس والعينين ، ايقنت انها (نازك) دون سواها بتلك العيون الواسعة العميقة وذلك الانف المميز وخصلات شعرها التى يلعب بها الهواء كأنها علم فوق سارية فى عرض المحيط ... قلت لطارق انها (نازك) فهز رأسه بالايجاب ولم يضف شيئا آخرا بدا كأن رسمه لها قد أراحه قليلا واعاد اليه شيئا من توازنه المفقود وبعض الحيوية ... احضر النادل طعاما شهيا فنسينا كل شىء سوى جوعنا ولسعة البرد المحيطة فأتينا على اطباقنا وطلبنا المزيد . اشعل طارق سيجارة وأخذ منها نفسا عميقا  واخرجه ببطء وهو يرقب سحب الدخان الصغيرة كانه يرقب غروب شمس حياة عزيزة وقال بصوت واهن  وهو يحدق في المجهول:(انا لم احب السياسة ابدا ، لم اقترب منها ولم ارغب يوما ان اكون بطلا قط ،اردت ان اعيش حياة عادية مثل ابي وجدي وكل الناس الذين احببتهم....كنت احب الرسم واحببت ان اعلم الاولاد حبه... كنت سعيدا وسطهم ولم اكن اريد سوي دار صغيرة ارسم علي جدرانها وازرع في حوشها كل انواع الزهور والشتول واجلب اليها انواعا مختلفة من العصافير.. كنت احب (نازك) وكانت تحبني وكنت اريد منها اولادا وبناتا يلعبون بذقني ويتعلقون بظهري ويحبون الرسم والموسيقي والشعر مثلي.
لكن ذلك كله تبدد وتبخر فجأة مثل فقاعة صغيرة اطلقها طفل فى الهواء عبر صابون مخلوط بالماء ثم لاحقها بالنفخ المستمر حتى تبددت تماما ... لم يعد بمقدورى ان العب لعبة الرجل العادى التى لعبتها المدينة بأكملها ، لم يعد بمقدورى ان اصير رجلا عاديا فى زمن غير عادى ، ولم يعد من حقى ان اعلم الاولاد ما يضرهم ولا ينفعهم ، ليس عدلا ان اعلمهم الاحلام وان يحلقوا بعيدا باحلامهم فى زمن باتت الاحلام فيه تكلف اصحابها رؤوسهم واشياء اخرى كثيرة ، لم اعد اقوى على النظر فى عينى (نازك) حين التقيها وانا اعلم انه ليس ليس بمقدورى حمايتها ، لم اعد واثقا من قدرتى على انجاز اى شىء ، ثمة شىء ما انكسر فى اعماقى منذ ذلك اليوم وكسرنى الى عشرات الالوف من القطع الصغيرة الهشة التى لا تقوى على الائتلاف والتجمع مجددا ، إنهار عالمى كله مرة واحدة والى الابد كما ينهار جبل مصنوع من الرمال فى ساحل البحر حين تغمره موجة مفاجئة او تدوسه قدم عابرة ، اصابنى شئ مماثل لذلك المرض الذى يصيب شخصا مغتصبا فيتوقف الزمن عنده عند لحظة الاغتصاب ويرى زمان كل الناس متوقفا عندها ويراهم جميعا يشاهدونه وهو يفقد رجولته ولا يتحقق تحرره الا بعد ان يقتل مغتصبه امامهم جميعا فيتطهر علنا ولا يكفيه ذلك فيقتل نفسه او يقٌتل حتى يشفى من العار الذى لحق به ، واذا لم يحدث ذلك يصيبه جنون مطبق  فيريحه مما يرزح تحته من عذاب الوعى بما جرى ، وحين جاءنى زملاء ابى كعادتهم يطلبون منى رسومات وشعارات وهدايا مخطوطة بخط يدى وتصميمى ليزينوا بها احدى احتفالاتهم الكثيرة وجدتنى انظر الى الامر بطريقة مختلفة هذه المرة ، قلت لنفسى : (هل نسيت يا طارق بهذه السرعة كيف مات (عثمان) ؟ وما ادراك ان من قتله لن يكون هنالك حيث يطٌلب منك تزيين المكان برسوماتك ؟) ، استدرت وقلت لهم بفظاظة وعصبية واضحة : (لن ارسم شيئا ... لم اعد ارسم ولم اعد اكتب او افعل اى شىء ابحثوا عن غيرى ...) ، اسقط فى يدهم ونظروا الى فى دهشة ظاهرة ولكن كل محاولاتهم وحتى وساطة ابى باءت جميعها بالفشل واستدرت وتركتهم فى مكانهم وذهبت بعيدا ، لم يعد الامر يتعلق بالنقود التى يدفعوها نظير عملى ولم يعد الامر يتعلق بالوفاء لوالدى او انه يسعده ان انجز عملا لمهنة افنى فيها زهرة شبابه وعمره كله وجنى منها شللا نصفيا وكرسيا متحركا يلازمه بقية عمره ، قلت لنفسى بعد ان ذهبوا وانا احاول إقناع نفسى بأننى لم ارتكب خطأ : (ابى ليس مثل اولئك .. ابى جازف بحياته لانقاذ حياة الاخرين وحماية ممتلكاتهم وكان يسهر الليل كى يناموا مطمئنين ولكن من قتلوا (عثمان) بدم بارد كانوا بطريقة ما يعملون فى خدمة الوطن مثل ابى وفى مكان يرفع علم الوطن فوق بوابته وكانوا يحملون ذات الوثيقة الخضراء التى يحملها (عثمان) فما ادرانى انهم ليسوا انفسهم هم الذين انفقت وقتى وجهدى كله فى تزيين احتفالاتهم بلوحاتى ، أأخون صديقى ميتا بعد ان تخليت عنه حيا مثلما فعل الاخرين ؟ لا.. لا .. محال ) . هكذا بات الوطن كله فى نظرى زنزانة صغيرة احتشدت فيها العصافير منتوفة الريش تنتظر مصيرها المحتوم على ايدى النسور الجائعة الطليقة ... بات كل وجه مبتسم او متجهم يقابلنى فى الشارع مشروع قاتل او عدوا محتملا ، لم يعد بمقدورى ان أميز بين من عشت عمرى كله معهم آمنا مطمئنا وسعيدا وبين النسور الجائعة القادمة من المجهول ، إنفتحت الطمأنينة التى كان الوطن يتدثر بها طول عمره على كل الاحتمالات التى لم ترد على البال ، اختلطت رائحة القهوة برائحة الدم واغنيات الحب برقصة الموت الاخيرة وطبول الحرب ، اختلطت كراسات التلامذة بالقنابل اليدوية وملابس المدرسة بأزياء المقاتلين ، لم تعد العصافير تسكن اشجار المدارس كما كانت تفعل ، لم تعد الاجراس ترن قبل طابور الصباح ، اختنقت ... كففت عن الرسم ... القيت فرشاتى وعلبة الالوان فى اقرب مصرف ولذت بالصمت ، صرت مسكونا بهاجس وحيد : (يجب ان ترحل يا طارق عن هذا المكان وتركض بأقصى ما لديك من سرعة من هذا المكان الذى اصاب والدك بالشلل وإلتهم اصدقائك المقربين واسلمهم للموت الزاحف واصابك بشلل من نوع اخر فبت عاجزا عن ممارسة الحياة ، يجب ان ترحل من هنا قبل ان يتيبس ما تبقى فيك من عروق وتموت واقفا كالاشجار ...) جمعت لوحا تى جميعا و نظرت اليها واحدة تلو الاخرى نظرة وداع اخيرة وانا استعيد بمرآها رائحة اللحظات التى رسمتها فيها والوجوه وصوت موسيقى (جيمس لاست) التى كانت تدور فى المسجل الصغير الذى كان اول ما امتلكت فى حياتى من الاشياء بعد عدة الرسم ، حتى تلك اللوحة التى رسمتها فى خيالى وانا اسير مع (نازك) صباح احد ايام الاعياد على ضفة النيل حين إعترضت سبيلنا حمامة صغيرة اصابتها نبلة طفل شقى فاقعدتها ومنعتها من الطيران ، استوقفتنا النظرة الحزينة فى عينيها وهى تحاول عبثا التحليق لتلحق بسرب الحمام الذى كانت معه ، كان فى عينيها شىء اقرب الى الضراعة أو البكاء ، اقتربنا منها على مهل وهى تحاول ان تنأى عنا واقدامها الصغيرة لا تسعفها ، إمتدت يد (نازك) واخذتها فى حنو دافق وكما تحمل الام وليدها حملتها وقربتها الى صدرها بمحبة كأنها تواسيها ، رفرفت الحمامة الصغيرة بجناحيها فى يأس ثم إستكانت فى صدر (نازك) كأنها وجدت فيه العش الذى تريد التحليق لبلوغه ، حين نظرت اليها والى نازك فى تلك اللحظة احسست ان ثمة شئ يولد فى هذه اللحظة ، احسست ان ثمة وشائج دم وقربى تربط هاتين العينين الواسعتين الباسمتين لنازك وهاتين العينين الصغيرتين للحمامة الجريحة فى تلك اللحظة فاجأتنى الرغبة فى الرسم حتى شعرت بحمى مجهولة تجتاحنى من رأسى حتى اخمص قدمى ، لم اك املك ورقة او قلما ولم يكن ذلك متاحا فاكتفيت بالتحديق بقوة كى اختزن فى ذاكرتى كل التفاصيل الهاربة لتلك اللوحة ، وفى تلك الليلة لم انم الا بعد ان فرغت من رسم اللوحة واستلقيت أمامها ارضا اتأملها للحظات قليلة ثم عدت اليها مجددا لمعالجة ما بدا لى بها من قصور ... هانذا الان اقف امامها مهزوما مشتت الفكر ثم جمعت ما تبقى من لوحات دون ان اتوقف عندهن حتى لا تتدفق الذكريات مع التوقف ، يممت صوب دار (نازك) طرقت الباب بهدوء جاءنى شقيقها ضاحكا ومرحبا متسائلا عن الشحوب الذى يعترينى فتمتمت بكلمات مبهمة وغاب هو بالداخل قليلا وعاد بصحبة (نازك) التى تفحصتنى بجزع وبادلتنى التحية ثم ساد صمت فتنحنح اخوها وغاب داخل الدار فانتهزت الفرصة ودفعت اليها باللوحات وهى ترمقنى بنظرات متسائلة فقلت لها : (هذا ما تبقى منى ، ليس هناك من استطيع إئتمانه عليه سواك ) ، قبل ان تقول شيئا عاد اخوها حاملا اقداح الشاى ، إحتسيت الشاى وودعتهم بإقتضاب وهرولت خارجا كالهارب من شىء ما وانا اشعر بنظراتها المتسائلة تلسع ظهرى كسياط حوذى على ظهر حصانه .
بعد ذلك سارت الاحداث متلاحقة دون ان تترك امامى مجالا للتراجع او التقاط الانفاس حتى حلقت الطائرة نهارا من الخرطوم والشمس ساطعة كأنها تودعنى قصدا قرب النافذة الصغيرة جلست ارقب اخر معالم الوطن وهى تغيب وحين صار النيل عبارة عن خط صغير متعرج كأنه طريق صاعد فى الجبل او كأنه حبل ممددعلى ظهر الارض حينها فقط بكيت وادركت اننى قد غادرت وطنى واننى اتخذت قرارا خطيرا ليتنى لم اتخذه واننى واننى ... ولكن هيهات فلم يعد ثمة مجال للتراجع الان ، لم يعد امامك يا طارق سوى التحليق جريحا كتلك الحمامة الصغيرة الى افاق مجهولة دون ان تدرى اذا كنت ستشفى من جراحك وتعاود التحليق نحو عشك من جديد ام لا؟ توقف (طارق) عن الحديث وهو يلهث مثل عداء بلغ نقطة النهاية فى سباق للمسافات الطويلة ، كانت انفاسى لاهثة اكثر منه فقد ركضت معه خطوة خطوة من عند نقطة البداية حتى خط النهاية ثم لفنا صمت وغرقنا فى تفكير عميق .... قلت له فجأة بلا مقدمات :   (لقد اعدت رسم تلك اللوحة مرة اخرى يا طارق ... اليس كذلك؟ انا اكيد انك فعلت ... ) قفز طارق كمن لسعته نحلة على حين غرة ونظر الى فى دهشة وقال (كيف عرفت ذلك يا عمر ؟ تلك هى اللوحة الوحيدة التى لم ارسمها فى الهواء الطلق امام العابرين ، كانت سرى الصغير الذى قضيت معه عشر ليال كاملة ... فى كل ليلة كنت ارسم جزءا من اللوحة وانام فيطاردنى الجزء المتبقى فى منامى ولا اعود لمواصلة الرسم الا فى الليلة التالية ، وحين فرغت منها وجدتنى قد اعدت رسمها ولكننى لم اعد رسمها كما هى ، تغيرت معالم اللوحة كثيرا ، لم تعد ذات اللوحة ، لم تعد الحمامة فى اللوحة هى الجريحة بل (نازك) التى نبتت لها اجنحة عاجزة عن التحليق واستحالت الحمامة انثى ذات شعر طويل يلعب به الهواء وباتت هى التى تضم (نازك) المفزوعة الى صدرها فى حنان !! المرة الوحيدة التى تجرأت فيها ووضعت تلك اللوحة ضمن لوحاتى فى احدي المعارض فتحت ابواب الشهرة أمامى ، لم ير الناس سواها ، لا ادرى السبب فى توقفهم عندها دون غيرها ، لا ادرى الشئ الذى شدهم اليها هل هى عيون (نازك) ام عيون الحمامة ام هى طريقة الرسم غير المألوفة !! لا ادرى ولكننى سحبتها من المعرض سريعا ولم اعرضها مرة اخرى ، اشعر دائما بأن هذه اللوحة هى التى ترسمنى ولم ارسمها قط ، اشعر انها تمتلكنى ولا املكها ولا املك حق عرضها او التعليق عليها) ، كنت اود ان اراها ولكن طلبى مات على شفتى دون ان ابوح به بعد ان سمعت كلمات طارق الاخيرة وادركت مغزاها جيدا ، فلذت بالصمت فى إنتظار طارق كى يواصل ، لكنه لم يقل شيئا ، نهض فجأة ودعانى الى الرحيل ... وهكذا انتهى اطول يوم فى حياتى كلها ولكن عشرات الصفحات الجميلة انفتحت فى الايام والشهور والسنين التالية بينى وبين هذا الرجل الشلال الذى يعرف متى يتدفق ومتى يلوذ بالصمت والسكون ... قالت لى (كاثرين) بعد عدة لقاءات جمعتنا الثلاثة سويا : (طارق رجل رائع ، لكنه يبقى لغزا محيرا بالنسبة الى ... كلما اقتربت منه ابتعد وكلما دعوته للبوح باحزانه غضب ونأى عنى بعيدا ، لا استطيع فهمه ...) قلت لها بصوت هادئ وكلمات ميتة : (الزمن كفيل بكل شئ ... هو انسان عادى ولكنه يعانى شروخا عديدة يصعب شرحها) قالت بصوت حالم : (الجروح لا تجف الا اذا فتحت وطهرت , السكوت عليها غباء لا مبرر له ... ) . قلت لها وقد بدأ صبرى ينفد : (ذلك يعتمد على نوع السكوت وأسبابه ، احيانا يكون السكوت من ذهب ...) ثم اوليتها ظهرى واسرعت الخطى مبتعدا قبل ان تقول شيئا اخرا وحين افضيت الى طارق بما دار بينى وبين (كاثرين)  هز رأسه بلا مبالاة وقال بحزم : (لست بتاجر عاهات ولن اتاجر بجروحى ومعاناتى كما يفعل اولئك المتسولين السذج الذين تلتقيهم حول الجامع الكبير فى وسط الخرطوم ... او اولئك المتسولين الجدد الذين يملأوون العواصم الاجنبية وهم يجأرون بالشكوى مما يدور فى بلادهم مستجيرين بالرمضاء من الهجير ، لن اشبع لها غرورها ونزعة الانسانية الزائفة فيها التى تدفعها دفعا لمسح دموع يتيم من العالم الثالث ، يجب ان تدرك ان العتمة فى وطنها اكثر من العتمة فى وطنى) ، قلت له : (انت تقسو عليها كثيرا يا طارق ، الرجل الحزين ذو الاسرار يجذب كل نساء الدنيا ... ذلك شأن انثوى بحت لا علاقة له بما تقوله ... ) ضحك طارق بمرارة وقال : (ما زال الوقت مبكرا بالنسبة لك يا عمر حتى تفهم الذى اقوله لكننى اوجز فاقول مثلما جئنا الى هذه الارض حاملين معنا اوهاما لا حدود لها عنها فان اهلها لديهم اوهامهم عنا وعن ارضنا ، اما (كاثرين) فانت لا تعرفها مثلما اعرفها . ) قلت له بنبرة السعيد باكتشافه : (ما زلت تحب الوطن ؟ ما زلت مؤمنا به برغم كل شىء يا طارق ؟؟ ) قال لى بصوت غاضب : (ومتى تركت حبه ؟ الوطن ليس قطعة اثاث نجلبها الى صالون البيت وقت نشاء ونلقيها فى القمامة او نعرضها للبيع فى سوق الاثاثات المستعملة بكل سهولة ونجلب غيرها عندما نشاء ، اتعلم شيئا يا عمر ... اكثر الناس معرفة بالوطن وقيمته هم المهاجرون ، هذا هو الشئ الوحيد الذى تكون فيه القاعدة القائلة بأن (فاقد الشىء لا يعطيه) خطأ صريحا ، فمن يفتقد الوطن هو اكثر الناس إدراكا لقيمته ، المهاجر واحد من اثنين ، إما رجل اعماه القبح الطارئ الذى صادفه عن رؤية الجمال الدائم او رجل اعماه جمال احلامه عن رؤية الجمال الذى يقبع اسفل قدميه فى ارض الواقع الصلبة ) ، قلت له :(ما الذى يمنعك من العودة اذا ؟) صمت طارق طويلا وبدأ كأنه يتحدث الى نفسه وهو داخل مغارة مظلمة فيحمل الصدى صوته : (كانت الريح تلعب بخصلات شعرها والنيل خلفها يقف فى سكون شاهدا علينا ... كنت صامتا وكانت كلماتها تحرج كالقذائف... كانت غاضبة ، لم ارها كذلك قط ، كانت يائسة ، لم ارها كذلك من قبل ، كنت اقف أمامها جامدا كجثة فى ثلاجة موتى وهى تهدر : القتل ليس هو فقط القتل الذى حدث لعثمان ، ما تفعله انت بنا هو اسوأ انواع القتل ... تتخذ القرار وحدك وتنفذه وحدك ولا تقبل المناقشة ماذا افعل بلوحاتك اللعينة اذا كنت سافقدك انت ، ماذا تريدنى ان افعل بها ... اموت مرتين ... مرة لفراقنا ومرة بالذكرى التى تأتمننى عليها ... اللعنة على الذكريات اذا كنا نحن من احال الاشياء من نهرالحياة الى رفوف الذكرى ... ماذا كنت تتوقع فى الحياة الحقيقية يا طارق ؟ اكنت تتوقع ان ترسم الدماء بالوان الماء مثلما ترسمها فى لوحاتك ؟ هل تظن ان رسوماتك وكلماتك البلهاء ستمنع موت الشهداء القادمين ؟ هل تتوقع ان تبنى الدموع وطنا ؟ ماذا ستفعل لعثمان فى امريكا ؟ هل سترسمه وتوزعه على صدور شبان مفتولى العضلات ناعسى العيون من الحشيش والماريجونا ليخرجوا فى مظاهرة لا يراها من خرجت ضده  ولا تهز عرش باعوضة ؟ ... ) ، قلت لها فى ضراعة المأخوذ بردة فعلها القوية : (لا تظلمينى انت ايضا يا نازك ، انت حصنى الاخير فى عالم يتهدم ... انت ...) قالت بحدة وهى تقاطعنى : (طول عمرك تهرب من المواجهة الى اللوحات والكلمات الكبيرة والقصائد الجميلة دون ان تدرى ان القصائد والشتائم هى اضعف الايمان وهى اردأ انواع المقاومة ... سئمت دور الشهيد الساخط هذا سئمته وسئمتك وسئمتكم جميعا ...) ... قالت كل ما لديها دفعة واحدة ... تركت لوحاتى يتيمة فى مكانها الذى وضعتها فيه وغادرتنى دون ان تمنحنى حق الرد وكان ذلك اخر عهدى بها ، لم نلتق بعدها ابدا ، حتى اننى لم اقو على إرسال رسالة وداع ... ادركت بحسى الداخلى الذى لا يخطئ انها إتخذت قرارا لا رجعة فيه واسقطتنى من حساباتها الى الابد ، وان حبنا المسكوب فى الطرقات لم تعد هناك قوة فى الارض قادرة على إعادة إحيائه او تجميعه ... زادنى ذلك عزما على الرحيل فقد كنت خاويا من الامل فبت خاويا من الامل ومن الحب ومن احترامى لذاتى ، كانت خطبتها النارية فى وجهى اقوى صفعة تلقيتها فى حياتى ... صفعة أمتدت كاخدود صنعه بركان ثائر قبل الاف السنين وامتد ليغطى ما مضى وما هو آت من عمرى ... لم يعد لدى ما اقوله لها وما كانت لتسمعنى ولكنها جردتنى من كل قوتى الداخلية التى كنت ادخرها لمواجهة اخرى اخيرة تنتظرنى قبل الرحيل وهى المواجهة مع ابى ... كان جالسا فى الدار الصغيرة التى اصبح يتهدد وجوده فيها شبح الرحيل القسرى وكأنه شخصية من شخصيات لوحاتى المزروعة فى الارض كالمكبل بالسلاسل ... النظرة فى عينيه كانت اقوى من مرافعة (نازك) واشد فتكا من كل الام الغربة التى  قاسيتها وحيدا هنا ... لم يقل شيئا ... اكتفى بالتحديق خلف ظهرى حتى إنتابنى شك فى ان هناك من يقف بجانبى او خلفى وحين التفت لم اجد شيئا سوى بضع كلمات مكتوبة بالطباشير على السبورة السوداء المصنوعة قسرا فوق جدار الحوش الصغير من الداخل وكان اخوتى الصغارقد اعتادوا الكتابة عليها كنوع من الاستذكار والتقليد لما يحدث فى المدرسة ... بضع كلمات لا معنى لها كانت على السبورة فى تلك اللحظة حين تابعت مسار نظرات ابى ... لكن المغزى كان كبيرا وواضحا وغنيا عن التصريح به ، قلت له كالمعتذر : (لم يعد بمقدورى العيش هنا يا ابى ... لعل الهجرة تفتح ابوابا مغلقة امامى ... لعلى استعيد شيئا مما اضعته هنا ...)
 لم يقل شيئا ... كان يحدق أمامه كأنه لا يرانى ولا يسمعنى وكأننى لست موجودا وحين امسكت بيده الهامدة فوق المقبض الجلدى للكرسى المتحرك وجدتها باردة فى يدى ... اهتز رمشاه اهتزازا قصيرا ثم عاد يحدق فى المجهول دون ان يقول شيئا ... وعلى هذا الصمت الناطق تركت ابى ، لم يتحدث معى ... لم يقل شيئا .. إكتفى بالتحديق فى المجهول وكانت تلك هى طريقته المفضلة للاحتجاج على شئ ما ... كنت اعرفها وكان يعرف اننى اعرفها فلم ينبس ببنت شفة الا فى يوم الوداع ... تحركت شفتاه المذمومتان ببطء فهالتنى الدمعة الخجولة التى لمحتها فى العينين الصغيرتين ... قال لى بصوت مخنوق لكنه حاسم وآمر فى الوقت نفسه : (مهما يكن يا طارق لا تتخل عن اخوتك ... ليس لديهم غيرك ... ما عافى منك لو خليتهم بلا رأس خيط ...) ، قبلت رأسه وقلت له بحماس اننى لن اتخلى عنه ولا عن إخوتى مهما يحدث ومهما يكن ... لم يقل شيئا اخرا ... وحين استطال الصمت خرجت مسرعا من الغرفة الصغيرة كالهارب من العتمة الى الضوء ، بطريقة ما استطعت ان اصون عهدى مع ابى برعاية اخوتى وعدم التخلى عنهم ... بقدر ما حققت من نجاحات وما حصلت عليه من عائد يسير فى البدء فى هذه البلاد اعنتهم على الحياة هناك حتى صارت لديهم دار تأويهم بعد ان اجبروا بعد رحيل ابى عن الدنيا على إخلاء المنزل الصغير فى اشلاق البوليس ... رأيتهم فى خيالى وهم يحملون اثاثنا العتيق وسراير الحديد القديمة على ظهورهم ويخرجونها فى الفسحة الصغيرة امام الدار واولاد الفريق كالنحل يتناوبون معهم فى حمل الاشياء التى احتلت هذه الدار الصغيرة منذ ان تفتحت عيوننا على الحياة فيها ... رأيت بعينى فى الخيال كرسى ابى المتحرك قابعا وحيدا فى ركن قصى بالدار الخاوية كأنه ينتظر مجئ صاحبه ليمتطيه كجواد ويطير به عاليا فوق الجدران الصغيرة ليلحق بأهل الدار فى اطراف المدينة البعيدة حيث استقر بهم المقام هناك ... رأيت الكرسى يأخذ وجه الحصان والعجلات السوداء تنطبق تلقائيا كطائرة لحظة الاقلاع ... نهضت من حلم اليقظة ويممت صوب المرسم وشرعت فى الرسم ... رسمت كما لم ارسم من قبل ... رسمت بكل ما يعتمل فى جوانحى من حب ومن احساس بالذنب تجاه ابى ... رسمت دموعى التى سالت يوم جاءنى نعيه كالصاعقة رسمتها فى كل مكان من اللوحة ولكننى اخفيتها بمهارة حتى لا يراها احد سوانا انا وهو ... رسمت قلبه وهو ينفجر ويتشظى شظايا بعد رحيلى بوقت قصير ... ادركت وانا ارسم ودموعى منهمرة فى تلك الليلة الباردة من ليالى الشتاء فى قلب هذه البلاد الغارقة فى الضؤ اننى تخليت عن ابى حتى قبل ان اعده بعدم التخلى عنه ... فقد تخليت عنه يوم تركته مسمرا على كرسى متحرك يواجه اقداره الصاخبة واخترت الرحيل والهروب طريقا وخيارا دون ان اتوقف عند دلالة صمته ومغزى كلماته الاخيرة ...           
       


الفصل الرابع

اوجاع الذاكرة المثقوبة


كنت اكيدا ان عجلات الطائرة وهى تفتح قبل إصطدامها بارض الوطن كانت سعيدةمثلى وكانت تصفق كأجنحة طائر عائد الى العش بعد رهق طويل ... عشرة اعوام وثلاثة اشهر وعشر ايام واربع ساعات كان هو عمر غيابى بحساب السنين والايام وبندول الساعات لكنه بحساب الجراح والسهاد الطويل والخوف الغامض من رحيل مباغت قبل ان يرقد الوطن ثانية بين رموش العين ولو مرة واحدة اخيرة كان غيابا عصيا على كل الالات الحاسبة والمقاييس تحديده ، مجروحا وقانطا وغاضبا خرجت من ذات البوابة ومنكسرا وظامئا وجائعا الى الحنان وخائفا من عدم التمكن من العودة اليه ... عدت ... يأتينى صوتك يا عمر شجيا كالحزن عميقا كالفجيعة (لماذا لا ندرك قيمة ما نملك الا بعد ان نفقده الى الابد ؟) لم يكن لدينا سوى الصمت أجابة ، وها هو الصمت يرتسم الان عنوانا فى المدرج الكبير الذى يضج بالطائرات الرائحة والقادمة ، وكأن السماء فى وطني كانت تتهيأ هى الاخرى لما ينتظرنى هنا وتهيئنى له فقد استقبلنى الوطن بامطاره الغزيرة ذات الرياح القوية التى تزمجر كأسود جائعة فى الغابات . من نافذة الطائرة الصغيرة ظللت حبيسا ارقب ابواب السماء وقد انفتحت على مصراعيها فى تلك الظهيرة ... حبات المطر ترتطم بالزجاج وهيكل الطائرة الضخمة كأنها زائر ملحاح يطرق باب دار مهجورة ولا يريد ان يصدق انها كذلك ، جاء صوت المضيفة هادئا ومحايدا برغم كل محاولاتها لبث الطمأنينة وهى تتحدث عن درجة الحرارة فى مدينة الخرطوم وتهنئ بسلامة الوصول وتعتذر عن سؤ الاحوال الجوية التى قد تضطرنا للبقاء فى مقاعدنا الى حين ... استمرت المضيفة فى تكرار ندائها بعدة لغات اخرى واخذت اتصفح الوجوه حولى ... الخوف فى بعض العيون كان باديا ، الامتعاض فوق وجوه اخرى كان اكبر من الخوف ... الدهشة والارهاق والفضول كان السمة الغالبة فى وجوه اخرى ، معظمها لاجانب يبدو على بعضهم انها رحلته الاولى الى هنا ، البعض الاخر تبدو عليه سمات الخبرة والاعتياد على اجواء مماثلة من طول الترحال ، وحدى كنت حزينا كطفل حرمه ابوه عنوة من لعبته  الاثيرة وحال بينه وبينها رغم انها امام ناظريه وعلى مرمى حجر من يده لكنه لا يقوي على تحدى إرادة ابيه ، فبقى فى مكانه ممزقا بين الرغبة والرهبة ، كنت اتوق الى الخروج من الطائرة والركض تحت المطر والاغتسال بمائه الطهور ، كنت اشتاق الشوارع الاليفة ورائحة العرق الافريقى النفاذة التى لم اشمها منذ غادرت الوطن الا فى المرات القلائل التى كنت اهرع فيها الى تجمعات الافارقة والاهل هناك مدفوعا بالحنين الى رائحة الوطن ، كنت اتعمد الولوج فى الزحام والبقاء فيه اكبر وقت ممكن وتارة كنت اغمض عينى واترك لخيالى العنان مع الرائحة فيقودنى من قلب البلاد التى لا قلب لها الى قلب شوارع وازقة واسواق شعبية اعرفها كرائحة يدى واشتهيها كما تشتهى ارض عطشى مشققة خرير المياه ورذاذ المطر ... تذكرت فى هذه اللحظة بالذات اننى لم ارسم قط طفولتى البعيدة المسكونة بذكريات المطر فى ازقة ود مدنى الى تستحم فى كل عام علنا تحت المطر وتتسع الشقوق فى ارضها الطينية الزلقة وفى جدر بيوتها الصغيرة التى ترهق ساكنيها بحاجتها المتجددة للصيانة ولادوار التراب التى ترفعها الايدى النحيلة فوق سقوف تخلع جلدها كل عام كعروس تتهيأ لليلة العمر النفيسة . طافت بخاطرى خيالات رفاق الطفولة الغامضين واحذيتهم المصنوعة من البلاستيك والشنط 
الصغيرة المصنوعة من قماش الدمورية معلقة على اكتافهم النحيلة وهم يخوضون فى وحل الخريف فى سعادة من ملك الدنيا وما فيها وهم فى الطريق الى المدرسة المحاصرة بالمياه فى يوم مطير مثل يومى هذا ، رأيت نفسى وسطهم اضحك ملء فمى ثم انقلب الضحك بكاء حين ثقبت قدمى الصغيرة الحافية قطعة زجاج صغيرة كانت كامنة فى الطين والوحل فأدمتها واحالت سعادتى القصيرة الى دموع منهمرة ، وتذكرت فجأة خوفا من نوع اخر اعترانا حين سمعنا ان السلك الشائك الذى يطوق مدرسة النيل الازرق العليا المجاورة لمدرستنا قد تمت كهربته بواسطة جند الحكومة حتى لا يستطيع الطلاب الغاضبين الخروج بمظاهرتهم خارج اسوار المدرسة ، كانت عربات الشرطة العتيقة ممتلئة بالجنود وهى تحيط بالمدرسة إحاطة السوار بالمعصم وضجيج الطلبة من داخل المدرسة يعلو كالرعد ، لم ندر شيئا حينها سوى الخوف من شئ مجهول قد يلحق بنا الاذى ، لم نفهم شيئا ولا اتذكر شيئا من الهتاف الغاضب لاولئك الطلبة المحاصرين بعربات الشرطة والسلك الشائك ، لكن الذى اذكره ان تلك الايام انقضت سريعا لكن الخوف من السلك الشائك الذى ربما  كان حاملا للكهرباء الفتاكة ظل هو الاثر الباقى فى دواخلنا حتى حين مرت سنوات عديدة وصرنا طلابا بالمدرسة ذاتها ظل ذلك الخوف الغامض من السلك الشائك باقيا فى اعماقنا السحيقة رافضا الرحيل . فى هذه الظهيرة وانا حبيس داخل طائرة فى مدرج المطار الذى تغمره المياه والمطر يتساقط دونما انقطاع ، قفز من الذاكرة وجه استاذ عبده الوسيم ورن فى اذنى صوته القوى وهو ينشد فى طابور الصباح ونحن نردد خلفه بحماس واندفاع : (علم السودان فداك دمى وفداؤك روحى وحياتى) كان استاذ عبده استاذا للحساب فى الاصل ولكنه كان يجمع الى جانب ذلك كونه استاذا للرسم والموسيقى ، زرع فى كل ركن من طفولتنا حبهما وحب الشعر ، اتذكر الان كل الاناشيد والالحان التى امتلأت بها صدورنا الصغيرة معه كمنطاد جميل ملون يحلق فى الفضاء كيفما شاء ، واتذكر الان وجهه الشاحب وعيونه الحزينة حين ادركه معاش مبكر لم ندرك له سببا فتحول من استاذ للرسم والموسيقى الى بائع سجائر خجول بجوارالسينما الوطنية فى وقت راجت فيه تجارة السجائر فى مدينتنا حتى صارت مهنة مضمونة اكثر من الاغتراب وبريقه ، لم يعرفنا استاذ (عبده) او لعله تظاهر بذلك حين كنا نتعمد الحضور للشراء منه على سبيل الوفاء لرجل امتلك الصدارة فى احلام طفولتنا وايامها البهية الاولى غير القابلة للتكرار ، حرصنا على الا نذكره بشئ من تلك الايام خشية ان يجرح ذلك كبريائه ، ظللنا نتهامس حوله كلما جمعت الظروف مجموعة منا ، ثم غاب مثلما ظهر فجأة فى تلك الزاوية من الدكاكين المجاورة للسينما الوطنية ، لم ندر عنه شيئا وبقى التساؤل غصة فى الحلق :   (اى جنون هذا الذى استوطن الوطن فجعل      من معلم وقور محب لمهنته بائعا للسجائر وهو يخطو بثبات نحو الستين فقيرا الا من جراحه الكثيرة التى لا يدرى عنها احد شيئا ؟ ترى اين انت الان يا استاذ عبده ؟   فوق التراب ام تحته ؟   تحت رمال الجحود ام انك غيرت جلدك لتستطيع العيش كما فعل الكثيرون ؟     وهل تغفر لى يا استاذى وملهمى واول من وضع اقدامى على طريق الرسم ؟ ياترى اننى رسمتك فى صورتك الاخيرة بائعا للسجائر فى شارع مزدحم وانت تحاول اخفاء وجهك بيد ويدك الاخرى ممتدة نحو النقود ؟ اتدرى اننى غالبت نفسى بضراوة حتى لا ارسم مكان السيجارة فى فم المشترى طباشيرة بيضاء ؟ ) .
خرجنا الان من الطائرة ، لا يزال المطر يتساقط فى الخارج لكن الجو كان صحوا نوعا ما ، ركضنا صوب الباص الرابض فوق المدرج الخالى ، اندفعت بداخل الباص وتعلقت كعادتى فى كل رحلاتى بالسيور الجلدية المتدلية من الاعلى كأنها حبال متدلية  من اعواد مشانق ، وحين لاحت الفكرة برأسى على هذا النحو وجدتنى افلت السيور الجلدية دون ان اشعر او اقصد ذلك ثم ابتسمت بمرارة وعاودت الامساك بالسيور المتدلية وانا اجول ببصرى فى الركاب الاخرين متسائلا ان كانت الفكرة التى طافت برأسى قد طافت برأس ايا منهم ام لا ، لكن الوجوه الواجمة المرهقة التى يرتسم عليها شئ من القلق والشرود جعلتنى اوقن بأننى الوحيد بينهم الذى تدق الافكار العجيبة فوق رأسه كناقوس ، لكننى ظللت واقفا فى مكانى بالرغم من وجود اماكن شاغرة للجلوس فقد كنت متلهفا لرؤية المشهد الخارجى وان لا افوت منه شيئا مهما كان تافها ويسيرا ، قلت لنفسى بحزم (ساذهب من المطار رأسا الى الهاشماب حيث المنزل الذى تزينه اعلى نخلة موجودة بامدرمان.. سوف ابوح لهم بكل شئ ، سوف احكى لفاطمة وعمى ود البشرى كل حكاية (عمر) من الالف الى الياء ، بل سأحكى لهم حكايتى انا ، ساقول لهم ان عمرا كان يحبهم وانه ضاق ذرعا بتلك البلاد وبسارا لكنه كان يخشى ان يفقد ياسمين الصغيرة ، لهذا السبب وحده بقى آملا فى حل يهبط من السماء وينهى معاناته ولكنه لم يأت كما يشتهى ، سأقول لهم اننى قلت فى التحقيق ان عمرا مات مقتولا باياد معلومة وليست مجهولة وان احدا لم يستمع الى ، ساقول لهم ان موظف دائرة الهجرة قال لى ببرود (مستر طارق يجب ان تبتعد بنفسك عن المتاعب ، انت تدرك ان وضعك لا يزال قيد الدراسة !!) ، سأقول لهم اننى تصببت عرقا فى الشتاء ، واننى حادثت نفسى طوال ليال كثيرة ، هأنذا يا ابى هنا تحل بى اخيرا لعنتك ، هانذا الهارب من القتل ومن طاطأة الروؤس هناك اجد نفسى ملاحقا هنا بالقتل وبطاطأة الروؤس مجددا ، هأنذا خاوى الوفاض منك يا ابى ومن (نازك)  ومن (عثمان) و (طه) واخيرا (عمر) واخرا من ذاتى !! هأنذا الهارب من هناك انحنى هنا اخيرا للعاصفة واتعلم الطاطأة واشترى بالصمت المتواطئ وثيقة خضراء تجعل منى مواطنا ذي مواصفات خاصة ). يتوقف الباص امام مدخل الصالة بوابتى الاخيرة الى احضان الوطن الدافئة ، افلت السيور الجلدية واتحرر من المطارق التى تنهال فوق رأسى بلا رحمة ، اوسع الخطى الى الداخل ، انظر الى الصفوف الواقفة امام ضباط الجوازات ، اسأل عن صف الاجانب ، يهمس من سألته فى اذنى باستغراب (ولماذا تسأل عن صف الاجانب ، مكانك هناك ...) يشير بيديه فاشيح بوجهى عنه فقد كنت اعرف ما يعنيه ولا املك الاجابة لتساؤله الجارح كمدية فى قلب قتيل ، اتقدم بخطوات بذلت جهدا كبيرا لاجعلها تبدو واثقة وهادئة ولكن ضربات قلبى كانت تأتينى كصوت الطبول عبر مكبر صوت فتعصف بسكينتى المصطنعة ، وقفت أمام ضابط جوازات طويل القامة نحيل الوجه له عيون فاحصة ونظرات يهتز أمامها اعتى الجبابرة ، مددت له جوازى الامريكى فتفحصه فى برود وامتعاض وخيبة امل لم يستطع مداراة ايا منها وقال لى وهو يرمقنى بنظرات ذات معنى قبل ان يضع ختمه على الجواز بقوة خلفت صوتا عاليا جعلنى اجفل :- (انت سودانى ...) قلت له باحساس المتهم فى قفص الاتهام امام قاض اصدر قراره سلفا وانا اخرج جوازى السودانى من شنطة اليد الصغيرة السوداء التى كنت احملها فى اليد الاخرى :- (نعم هذاجوازى السودانى ، انا مقيم هناك انا قادم فى اجازة قصيرة فقط ، لذلك ...) شعرت بالاضطراب وشئ من الخجل وانا اقول كلمة (هناك) ، رد الضابط الى دون ان يرفع رأسه عنه وهو يقول بذات النبرة المتحدية :- (مفهوم ... مفهوم تحتاج بعض الاحترام الذى لا يوفره لك جوازك الاصلى تقريبا ... اليس كذلك ...) ... لم اقل شيئا ... اخذت اوراقى فى صمت وشعور بالمهانة والغضب يملؤنى الى حد اننى شعرت بالرغبة فى ان اقف فى منتصف الصالة واصرخ فى وجه هذا الضابط الصغير المتعجرف قائلا :- (انا سودانى اكثر منك ايها المتعجرف.. انا ابن الصول بشير عثمان الذى خدم الشرطة بعدد سنوات عمرك الثلاثين حافيا وماشيا وراكبا على ظهر حصان عجوز فى منتصف الليل وانتهى به المطاف قعيدا على كرسى متحرك ومطرودا من دار صغيرة متهدمة فى اشلاق شرطة لا تحتوى على اكثر من غرفتين من الطوب الاحمر وراكوبة من صنع يديه ... انا ... ) ... لكننى لم اقل شيئا ... لم افعل شيئا بل انكفأت للداخل كعادتى دائما كما كانت (نازك) تقول عنى ، وخرجت من ساحة المعركة .... ادرت ظهرى ومضيت فى صمت كسيف وانا ارى فى خيالى الضابط وهو يومئ نحوى ويهمس فى اذن زميله همسا له معنى وهما ينظران نحوى باحتقار وهو يقلب شفتيه متعجبا مستنكرا ، اضطربت خطواتى وتعثرت فاسرعت مهرولا الى الامام وشعور دافق بأن ثمة بصقة كبيرة قد حطت على ظهرى وانا امضى الى الامام بصعوبة كالسائر الى الخلف ، ولا ادرى لماذا تذكرت نازك هذه اللحظة بالذات وكلماتها الغاضبة الاخيرة وهى تولينى ظهرها وتمضى قبل سنوات بعيدة ، شعرت بالرغبة فى البكاء ، استندت على احد الكراسى الملونة المنتشرة بالصالة وهويت جالسا وانهمرت الدموع برغمى ، لم يعد فى الوطن مكان لك يا نازك الان سوى بقعة صغيرة من الارض والصمت والذكريات فى ذاكرة مثقوبة ... لم تعد (نازك) تمشى الان بين الاحياء والريح تعبث بخصلاتها الطويلة ، ايها الوطن حقل الديناميت الذى يقتلنا حزنا ولا يعدنا فى حالة الاقتراب منه سوى بالموت والعاهات المستديمة ، ماذا فعلت بحمامتك الجميلة ؟؟ كيف طارت وحلقت بعيدا ذات نهار قائظ وهى تكافح من اجل الحياة لها ولجنين اثر الرحيل الباكر معها على الحياة بدونها ، دخلت (نازك) غرفة ولادة ارادت ان تستودعها حلما من احلام طفولتها لكنها لم تغادرها ابدا ولم ير حلمها النور ، ذهبت بضفائرها الطويلة وابتسامتها الجميلة مرة واحدة والى الابد وبقيت نبؤتها تلاحقنى أنا الليل واطراف النهار كجيوش من الدائنين تلاحق مدينا ينحدر نحو هاوية الافلاس بجنون (سئمتكم جميعا ، ما تفعله انت بنا هو اسوأ انواع القتل !! ما تفعله بنا هو اسوأ انواع القتل!!) ويأتى صوتها من كل مكبرات الصوت فى صالة المطار (هل تظن ان رسوماتك وكلماتك البلهاء ستمنع موت الشهداء القادمين ؟ هل تبنى الدموع وطنا ؟) . بكيت كما لم ابك من قبل ... لم ادرك ما فعلته الا حينما وجدت يدا لطيفة تهزنى بأدب وهى ممتدة بمنديل من الورق وكوب من الماء ، رفعت وجهى فوجدت (الضابط) ذى الوجه المتجهم يكتسى بوجه باسم لطيف وهو يواسينى بكلمات ودودة دون ان يدرى من فقدته ، تناولت المنديل شاكرا وشربت كوب الماء دفعة واحدة وغبت فى هوة الصمت من جديد ... استأذن الضابط بأدب جم ومضى بخطوات مرتبكة وحين بلغ البوابة استدار ونظر نحوى نظرة سريعة ثم مضى فى حال سبيله ... خلت اننى سأنعم بقليل من الهدؤ ، لكن هيهات ، ارتسمت صورة وجه اليف فى خاطرى ، سمعت صوت دكتور (عاصم) قويا هادرا حاسما وهو يرفض البقاء هناك بعد ان انجز رسالته العلمية التى جاء من اجلها وحصل على درجته العلمية المنشودة ، بهرهم بعلمه الغزير وانجليزيته الفريدة وروح الباحث المتأصلة فيه ، لكنه رفض البقاء ، قلت له حينها (اتعود الى بلاد يصبح فيها المعلم بائعا للسجائر وتهشم فيها الروؤس او تنحنى؟) ، ابتسم ابتسامته الصافية كلون السماء وقال :- (فى الدميرة تتعكر المياه لكن النهر سرعان ما يعود صافيا ، الدميرة ليست هى كل الفصول يا طارق هى مثل كل شئ تأخذ وقتها وتذهب ويعود النهر صافيا ... انا ابن الرجل الذى مارس فى المدينة العمل الوحيد الذى كان يعرفه عندما جاءها وافدا (الزراعة) انا ابن الجناينى الذى قضى عمره يحرث الارض ويزرعها ويقص الاشجار حتى تصبح جميلة ، فلماذا اترك ذلك الرجل وتلك الارض يا طارق) ... كان سعيدا كطفل وهو يوضب اغراضه الصغيرة وينطلق عائدا الى الوطن والى مدرجات الجامعة حيث تعلم ... وحيث اخذ مقعد الاستاذية فيما بعد ،  زرع ابوه الارض وزرع هو العقول المتعطشة الى المعرفة بكل الحب الذى تضطرب به جوانح رجل يفتخر بأبيه الذى حرث الارض وانجب رجالا حرثوا العقول ، واتذكر حين جاء نعيه كالصاعقة بعد ذلك بسنوات قليلة ...تساؤلي :- ( السرطان ؟ من اين يأتى مثلك السرطان ؟ يا ابن فاطمة ساتى التى لم تجيد العربية رغم سنواتها الطويلة فى المدينة ظلت محتفظة برطانة الدناقلة لا تحيد عنها الا من اجل خاطر عيون الاحفاد الذين لا يفقهون شيئا من رطانة الاجداد !) قلت لنفسى بعد مقتل (عمر) من اين تسلل السرطان الخبيث الى جسد د . عاصم النحيل يا ترى ؟ من هنا حيث قتل طارق ام من هناك حيث جذبت (عاصم) الاشواق الى بلد والده ود محمود الجناينى العجوز وامه فاطمة التى لا تجيد العربية الا بمقدار ؟ هل دفعت انت الاخر ثمن رفضك يا دكتور عاصم ؟ لكنك لم تكن تملك شهادة تأمين على الحياة مثل عمر ولم تكن تملك فتاة صغيرة تعتبر املاكا محرمة لا يجوز مغادرة البلاد بصحبتها دون اذن امها- مثله-   اولادك وزوجتك تركتهم هناك حيث النخلة فى الحوش الكبير فى مدنى وحيث احضان اخوالهم الدافئة فى بحرى ، لم تكتمل فرحته بالعودة الى تلك الاجواء التى الفها وركل باقدامه فى سبيلها كل الاغراءات التى قدمت اليه من اجل البقاء ، كانت البدايات إجهادا دائما لا يعرف له سببا ، استخدم كل ما يعرفه من عقاقير مسكنة وطوى قلبه على الالم ، لم يطرق ابواب الاطباء ولم يخطر ببال اى منهم وهم رفاق دراسة وزملاء مهنة ان (عاصم) الضاحك المشع الذى يزرع البهجة والمرح اينما حل يمكن ان يستحيل الى المريض رقم (1) فى حياتهم جميعا فى يوم من الايام ، لكن الحقيقة القاسية المرة اخرجت لسانها للجميع ذات يوم ، فاجأته الالام المبرحة وسط المدرج وهو يلقى محاضرته وحين اصر الاطباء على التحقق من صحته كان يضحك وهو يروى نكتة تتحدث عن ان كل انسان يرى الحياة من زاوية مهنته ، ماسح الاحذية لا تستوقفه فى الناس الا احذيتهم متسائلا ان كانت تحتاج الرتق او التلميع ، والحلاق لا ينظر الا الى الروؤس وحجم الشعر الذى يكسوها ، اما الاطباء فيبحثون وراء كل اجهاد او شكوى عن مرض كامن ، ضحكوا جميعا ولكنهم لم يضحكوا حين جاءت النتيجة ... الجدية فى ملامح صديق العمر والاخصائى الشهير والصمت فى المكان كان ناطقا ... الوجوم كان ثرثارا اكثر من اتفاق الصمت ورجاءات الخطأ فى التشخيص ، لكن كل شئ سار فى مسار وحيد ، ظل (عاصم) يزوى كشمعة صغيرة فى ليل طويل بخيل النجوم لا قمر فيه ، حين جاوؤا به الى (هنا) بعد ذلك باشهر قليلة كان الخبر الصاعقة يسبق قدومه ... كنت فى انتظاره فى المطار مع مجموعة من الاصدقاء الذين زين ايامهم الموحشة بوجوده القصير الدافئ ايام دراسته ، لم تنجح كل محاولات التجلد والسناريوهات المسبقة التى اعددناها فى ايقاف انهار الدموع التى سالت حين رأيناه يخرج من الطائرة فى سمته الشاحب النحيل ، وحدها عيناه كانت هى التى لا تزال كما هى ملتمعة بالحياة والدفء والطمأنينة ،، وبدأت رحلة الفحوصات وانتظار قرارات الاطباء من جديد ، كانت الاجابة وحيدة ، صمت وطأطأة روؤس وهمس خافت بين اصحاب المعاطف البيضاء ، يهرب الامل سريعا كما جاء ، ويبقى الصمت ، ثم بدأت جلسات العلاج القاسية التى لا تثمر شيئا سوى التأجيل والتخفيف للالام اللعينة و كعادته كان (عاصم) هو الذى اتخذ قرار العودة ، ودعناه كما نودع شعاعا اخيرا من الضؤ ساعة الغروب عند ضفة النهر ، كان قويا اكثر منا وهو ينادينى قبل السفر بسويعات ويحدثنى عن محنته وهو مبتسم كأنه يتحدث عن شخص اخر حدثنى عن اولاده الذين لم ارهم واخرج صورا ضاحكة لهم من اسفل المخدة وحدثنى عن السنوات الجميلة التى انفقها بعد عودته ما بين الجامعة وافراح الاهل واحزانهم وانه لو عاش تلك الايام فقط لكفته ، قال لى بصوت دافئ وقور : (ليتك رأيت ذلك الحب الذى يلتمع فى عيون طلابى وليتك قرأت ما كتبوه عنى يا طارق ، ليتك رأيت النور الذى يشع من عيونهم الصعيرة وهم يأتون لزيارتى باصرار كما يأتى الاهالى لزيارة ضريح احد الاولياء لم اكن اعلم اننى املك كل هذا الحب ، اتعلم حتى لو كان ذلك بسبب ما عانيته فهو شئ رائع) كان وجهه مضيئا وباسما وهو يتحدث وكنت اهوى نحو السكون ... كان يضحك كما كنا نضحك فى الايام الخوالى ونحن نعبر البروكلين والفورتى سكن زارعين المكان ضجيجا كصبية عائدين اخر الليل من الاحتفال بالمولد فى ميدان بانت فى مدنى ، قاطعته وذكرته باحتفالات المولد فى مدنى وسألته: (هل تذكر عرائس المولد واحصنة السوارى الحقيقية واحصنة المولد الملونة المصنوعة من الحلوي والمراجيح التى نخرج منها وقد اصابنا الدوار هل تذكر النوبة وحلقات الذكر والدراوييش ذوي الجلابيب الخضر الذين يتمايلون مع ايقاعات حماسية، البنات الجميلات الجائلات مع أسرهن ، رغبتنا فى البقاء حتى النهاية والخوف من الاباء ؟ هل تذكر ذلك ياعاصم ؟ )ضحك كطفل صغير وهو يقول :- (هل تذكر حين امسك رجال الشرطة بك ونحن فى طريق العودة حين شتمت صاحب السيارة التى عبرت لانها اجبرتنا على الخروج من منتصف الشارع حيث كنا نسير غير عابئين بشئ ؟ هل تذكر كيف بكيت واخذت تصرخ انك لن تفعلها ثانية وانك ابن الصول بشير (الصول بشير ... الا تعرفون الصول بشير ؟) اتذكر كيف ضحكوا عليك وتركوك فجئت لاهثا) ضحكنا واخذنا نستعيد ذكريات الطفولة كأننا لم نبرح محطتها وكأن المكان هو المكان والزمان هو الزمان ، ثم ساد الصمت ، امست المفردات عصية وشحيحة ، وقفت الدموع عند حافة العيون ولم اعد اقوى على المقاومة فانفجرت باكيا ، لاذ (عاصم) بالصمت ، انتظر حتى انتهت نوبة البكاء وخفت صوت نحيبى قليلا وقال بهدؤ :- (مهما يكن ومهما يحدث يا طارق يجب ان تعود ... الوطن ليس ارضا وحدودا جغرافية ، الوطن موجود دواخلنا ومهما حاولنا الهروب سيظل باقيا يلاحقنا اينما ذهبنا ، اتعرف لو تصور كل واحد فينا كم مرة بصق على وجه الوطن الحزين فى حياته وسامحه الوطن على ذلك وتقبل كل الاهانات بصدر رحب لما فكر احد فينا فى محاسبة الوطن ، الوطن يملك ان يحاسب ولا يفعل ونحن لا نملك ان نحاسبه ولكننا نفعل ، هل تدرك ما اريد ان اقول ... ) .
لفنا صمت طويل هذه المرة ... قطعه عاصم بنبرات واثقة قائلا : (سانتظرك بقدر ما استطيع الانتظار ، لكن صدقنى دائما هنك بداية جديدة ، ضؤ خافت فى اخر النفق المظلم ، شئ افضل مما كان ، فقط ومهما يكن لا تنسونى من دعواتكم فهى كل ما احتاجه ...) .
عانقته بكل ما املك من قوة وبكينا حتى فضت الممرضة الحائرة ذات الوجه المحايد اشتباكنا بلطف وطلبت منى الخروج حتى تستطيع ان تهيئه لرحلته الطويلة الى الخرطوم ، رأيته بعد ذلك فى الاحلام كل ليلة يأتى مرتديا بذلة بيضاء متأنقا باسما وهو يعقد اجتماعا تحضيريا لحفل زواجه ، سمعته ينادينى ويقول :- (ليس مهما ما تنفقوه ، المهم ان يكون الحفل جميلا مثلها ) قلت له:( من هى ؟ اين صورتها ؟ )ضحك بغموض وقال : (كيف لا تعرفها يا طارق ، لو نظرت جيدا الى الداخل تجدها هناك بملامح مألوفة ، حتى انها تشبهك ... بل انك تشبهها ...) قلت له :- (انا لم افهم شيئا) ضحك ... اختفى ... لم يبق معى سوى الصمت والجدران الصلبة القاسية فى غرفة موحشة فى بلاد بعيدة ... افقت من تأملاتى الموجعة ، امسكت رأسى بكلتا يدى وقررت ان اغلق هذه الذاكرة الموجعة بالضبة والمفتاح ، لن اسمح لها بأن تشنقنى هكذا فى كل ساعة وكل ليلة ويوم من حياتى ، نظرت حولى فوقعت عينى على الجواز ورأيت اسم ابى بالانجليزية هناك فى قلبه ، فاضاءت الذاكرة من جديد ، رأيته يجاهد للخروج من أسر الحروف الاجنبية والجواز الاجنبى و الكرسى المتحرك الذى قضى فيه بقية عمره ، نظرت عبر البوابة فرأيت الضابط لا يزال ينظر نحوى لكن باشفاق باد ، اشحت بوجهى نحو الناحية الاخرى فوقعت عيناى ثانية على الجواز ... افلته من يدى فسقط ارضا بصوت مسموع بدا لى كدوى القنبلة ، احسست بعيون الناس كلها تنظر باتجاهى ، ابتلعت ريقى بصعوبة ، مددت يدى صوب الجواز ورفعته عن الارض ، ودون ان ادرى لماذا شرعت فى تمزيقه بكل ما املك من قوة ، صفحة صفحة ثم ورقة ورقة ثم جزءا جزءا مزقته والقيت القطع الصغيرة فى سلة المهملات المكتظة بعلب البيبسى والكولا الفارغة ... لم انتظر وصول امتعتى ، اتجهت صوب البوابة واندفعت خارجا ، كان الشارع مغسولا بالمطر الذى ما زال يتساقط ، هرول صاحب التاكسى القريب باتجاهى فهززت رأسى علامة الرفض واوسعت الخطى نحو الشارع ، خلعت الجاكت والقيته على جانب الشارع ثم خلعت ربطة العنق والقيتها هى الاخرى واخذت اسير على مهل تحت المطر ، كانت اضواء الخرطوم الشاحبة تبدو على مبعدة ، الاشجار الخضراء على جانبى الطريق الطويل الى بوابة المطار الرئيسية تبدو كأنها خارجة من النهر او من حوض سباحة للتو وحبات المطر تتسلقط وانا اتقافز كطفل فى الطريق الى المدرسة كما فى الايام الخوالى ، ورأيت فى خيالى (عاصم) يفتح ذراعيه بامتداد الشارع المغسول بالمطر وهو ينادينى بأعلى صوته فركضت الى الامام بأقصى ما استطيع ولم اتوقف ابدا عن الركض كمتسابق فى الثوانى الاخيرة للسباق .              


























نحيت الاوراق جانبا ووضعت القلم وانا الهث ... حسبن اننى افقت تماما من ذلك الدوار الذى عصف بى فى كل ليلة من ليالى المخاض العسير .... حسبت اننى تحررت منهم جميعا وعدت من جديد انسانا حرا من الاصوات والهواجس والشخوص التى تمسك بتلابيبى وتوقظنى متى شاءت وتقتادنى الى فضاءات الحرية التى تشتهيها قسرا ...لكن هيهات ... مثلى لم يخلق للسكون اوالراحة ... سمعت صوتا خافتا فى البدء يأتى من البعيد موحيا وغامضا وشجيا كملامحهم المرهقة ... ثم تتابعت الاصوات واعقبتها الصور متلاحقة سريعة كشاشة عرض الكترونية عملاقة مصممة خصيصا بشكل يمنع التوقف ، جاء صوت ود البشرى قويا آمرا من جوف النهر ... ثم جاءت صورة جبال كسلا لبرهة يسيرة ثم عاد النهر متدفقا بلا انقطاع وصوت التوأم ينادى ود البشرى وينادينى من جوفه ، ثم تأتى الكٌبتة بغتة تحيل الدنيا ظلاما قاسيا ، الالوف من الحجارة الصغيرة تصفع جبينى وخدى وفمى فاركض كيفما اتفق والريح تقهقه كمردة من الجن احاطت بمسافر وحيد فى صحراء جرداء لا مغيث فيها ، ثم جاء صوت بت الحاج الوقور كصوت امام تليد فى مسجد عريق واحتلت ملامحها الجميلة التى تشبه النخلة وشجرة الدوم وشجيرات الصور الصغيرة والحجر الضخم عند مشرع النهر والقمارى الساكنات بأعلى النخلة فى الحمود ... بدت لى تشبه كل شئ يشبهها ، حين جاءت صورة النهر ثانية زالت دهشتى ووجدت الاجابة على سؤالى الذى لم انطق به ، ثم جاء صوت ثغاء الاغنام الاليف فى الصباح وعند المغيب لحظة الاطعام والحلب فى ابو هشيم ... رأيت اثداء الاغنام منتفخة الاوداج كأنها ضاقت بلبنها الكثير الذى لم يحلب ، رأيت اللبن يتساقط منهن صوب الارض ثم يتجمع ويركض صوب النهر كما يفعل خور امور بمياهه فى كل عام ، سمعت صوت عجلات القطار حين تبلغ خور أمور ، ثم سمعت صوت امونة الخجول الباكى المستغيث بالعدم ، ضفيرتها الطويلة ممتدة من اعلى النخلة الى الارض ، رأيت الاطفال يركضون فوق بساط مصنوع من شعرها يلتقطون حبات البلح التى تأتى من اعلى النخلة وتستقر فوق بساط الشعر ، رأيت وجهها يضئ كقمر فوق الرمال الساكنة فتمسى وهجا ذهبيا يخطف الابصار والقلوب ، رأيت استاذ الطيب ود محمود يخرج من فصل دراسى متشقق يوسع الخطى ما بين النهر وبين الصحراء حتى يبلغ اعلى عمارة مشيدة عند منحنى النيل فى المقرن يحط فوق رأسها كنسر قادم من العصور القديمة ويلقى درسه البليغ لتلاميذة غير مرئيين الا فى خياله هو ، يعلو صوت بوابير المياه وهى تتكتك على ضفتى النهر كبندول ساعة ، ينفتح الصمت على ضجيج الورش فى عطبرة وضجيج الباعة المتجولين فى السوق العربى الغارق فى مياه الصرف الصحى واكوام الاكياس المصنوعة من النايلون والصناديق الفارغة المكتوب عليها بلغات اجنبية والتى كانت مكتظة بالبضائع عديمة النفع القادمة من كل انحاء العالم الى السوق الوحيد الذى يقبل كمعدة الماعز كل شئ حتى ما يمزق الاحشاء وحتى رسائل الموت البطئ المدفوع الثمن مقدما من مال الضحايا ، تتوالى الصور حية حقيقية متدفقة امام ناظرى وليست  مجرد كلمات ميتة تروى او تكتب ، المح الخال (احمد الامين) يخرج من بقعة الارض الصغيرة فى كسلا حاملا جريدة من جريد النخلة الحارسة لقبره من وهج الشمسالحارقة والظمأ الطويل والوحشة ، اراه يتجه نحوى مباشرة وعلى وجهه ابتسامة لا تنطفئ ابدا ، امد يدى صوبه ، يأتينى وجه طارق ود الصول بشير بكتفه المتهدل وطوله الفارع وعيونه الحزينة وهو يحمل لوحة لنازك الحمامة صاحبة الوجه الانثوى ... انظر الى اللوحة مليا ، فاذا باللوحة ليست بلوحة ، اكاد المس الدم الجارى فى عروق نازك بيدى ، اكاد استنشق النفس الطالع من صدرها المتوثب الممتلئ بالاسرار ... المح (عثمان) يقف الى جانبهما وقد استعاد جمجمته المهشمة وقد اخذ ينشد فى مرح وهو ينثر اللبن والحلوى على رأس العروسين ، المح (عمر) وهو يغنى ويعزف على جيتاره المميز الحانا لا يعزفها غيره ... المح (طه) ينسل من بين الجموع باسما وارى اثرا صغيرا للطلقة التى نحرته ايام الطفولة جوار كلية المعلمات ندبة صغيرة فقط ... الابتسامة ذادت اتساعا ، يقبل نحوى ... اقراء له كل القصائد التىكتبها الاصدقاء عنه ... يضحك ... اضحك كالمجنون ... اتقدم نحوه لمصافحته ... لا ارى شيئا سوى حمامة بيضاء تطير عاليا نحو السماء ... يعود (عمر) حاملا جيتاره ثانية وهو يغنى للطابية المقابلة النيل وجسارة عبد الفضيل والنخلة الساكنة فى قلبه ، المحه وهو يخلع الخاتم الطوق عن يده كما يتحرر سجين من قيده ... اراد وهو يلقيه ارضا فتشهق القمارى فى ابو هشيم طربا .... اراه يحمل ياسمين الصغيرة الضائعة بين يديه وهو يغنى لها اغنية مألوفة نتحدث عن (دومتين مرٌات بالبحر ماشات ) وعن (الفات الفات فى ايدينو سبعة لفات) ... تطلق امونة شعرها الطويل للريح فيمسى بساطا اخضرا يغطى كل المساحات ، المح (سارا) مذعورة وهى تطلق ساقيها للريح حتى تغيب عن البصر ، المح امى واسمع صوتها وهى تنشد بلا انقطاع فى حب الرسول وارى الجموع المتشحة بالابيض دون الالوان تنتشر عن يمينها وعن يسارها وهى متجهة الى الامام والشمس الغاربة تنسل بين الجبال، الزحف الابيض يندفع نحو الجبل المقدس دون توقف ... اراهم جميعا يتدافعون نحوى وهم يصرخون بى جميعا بصوت واحد :- (ايها السجان اطلقنا للريح التى جئنا منها اليك ... اصواتنا بحت فى حضرة اقلامكالشحيحة وقواميسك الفقيرة وذاكرتك المحدودة وخيالك الاسير ... حكاياتنا اكبر من حروفك وكلماتك ومساحات البياض فى صفحاتك ... اطلقنا للريح والا ...) ، قلت لهم (صبرا ...) ... تدافعوا جميعا ... قالوا (صبرنا) ... تدافعوا جميعا نحو ابواب الذاكرة ... طرقوا عليها بكل ما اوتوا من قوة وعزم ... قلت بصوت خفيض :- (صبرا ...) لم يسمعنى احد ... سقطت البوابة ارضا ... داسوا جميعا عليها وعلى وعلى الاوراق والاقلام واندفعوا مع الريح ... ثم كنست الريح اوراقى واقلامى ... لم اعد اسمع شيئا سوى الصمت وصوت انفاسى ... لم يعد لدى ما اقوله يا فاطمة ...  لم يعودوا بحاجة الى ... لم يعد ثمة من يرغب فى ان يقول لى شيئا ... انفتحت بوابة الذاكرة المثقوبة بفعل فاعل على الشارع الان ... قفزوا  جميعا كما يقفز التلاميذ من حافلة مدرسية بعد يوم دراسى طويل وغيبوا فى الزحام وفى بحر الحياة احرارا من كل قيد الا الصهيل ورغبة البوح التى لا يحدها كاتب لعين مثلى ... وضعت قلمى الذى تبقى معى ... دست عليه حتى سمعت صوت عظامه النحيلة وهى تطقطق وركضت خلفهم لاهث الانفاس بلا طائل ولا امل فى اللحاق بهم ... لكننى ظللت اركض خلف الأيقاع والخطوات المبتعدة بلا كلل .


                                   تمت

                      بورتسودان/  فبراير/ 2008