كانت تتلفت يمنة ويسرة كالخائفة من شئ ما، وكان هو يرقبها باهتمام صقر بفريسته قبيل الانقضاض، كانت صبية حلوة التقاطيع ، عشرينية لكنها تبدو بتسريحة ذيل لحصان والقوام الرشيق،والعنق الدقيق والعيون الواسعة خارجة لتوها من الثالثة عشر صوب أجمل سن النساء،تلك السن التي تجمع فيها المرأة بين براءة الطفلة علي الوجه وثورة الأنثى الكامنة التي لاتخطئها عيون الرجال والنساء الخبيرات وتلحظها في استدارة لجسد وفورته. كانا هو والمكان يرقصا كل صباح كطير مذبوح في انتظار رنة الحذاء الأليفة، وكان يحمد الله في سره علي تلك الصدفة التي جعلت محطتها وكشك الجرائد اليومية تحتلا أرضا واحدة فجعل من شراء الصحيفة اليومية عذرا للتسكع في المكان وانتظارها...لم ينبس ببنت شفة ولم ينظر أكثر من المعتاد باتجاهها كما يفعل المراهقون وقليلي الخبرة. فقد كان يراهن بخبرته علي فضول الأنثى فيها ودقة ملاحظتها، كان صيادا يستمتع برحلة الصيد الطويلة ولا يستعجل النتائج أبدا. كان يعرف عنها كل شئ تقريبا ، تسريحة الشعر الأثيرة، الفنان المفضل، الهوايات والصديقات ورفاق الجامعة وجنون الانترنت واصلها وفصلها أحلامها الكبيرة وأسرتها الفقيرة واستقامتها ونقاط ضعفها القليلة: أحلام المطارات البعيدة والسيارات الجميلة والرجل الذي يحبها وتنفتح معه أبواب عديدة...كان يحفظ حتى جملتها الأثيرة (الغباء إن تتزوج من تحبه والعقل إن تتزوج من يحبك شريطة إن يكون طائرة تحلق إلي الإمام لا حجرا يشدك إلى الأسفل)،كان كل ما يلزمه إن يجعلها تظن انه الطائرة لتكتشف بعد فوات الأوان انه نعش وليس طائرة. كان يقترب علي مهل من هدفه المرسوم مدفوعا بغبينة شخصية لاتدرى عنها شيئيا، غبينة من نوع غريب ،هل تستطيع إن تتصور إن يحقد عليها رجل لاتعرفه مطلقا لمجرد انه تلقي صفعة قاسية في زمن ما من امرأة ما لايربطها بها شئ سوي الأنوثة والملامح المتشابهة ونمط الحياة والأحلام المتوهمة عنها ؟ جاءته الفرصة تسعي ذات صباح فلم يتردد واغتنمها مباشرة... كانت ندي مقبلة ذلك الصباح برفقة أخري وكان هو يمارس تسكعه اليومي في انتظار الغزال القادم نحو قافلة الصيادين المختبئة، عندما تبين من معها علت وجهه ابتسامة رضا لم يستطع إخفائها فهو يعرف رفيقة غزالته الشاردة وحانت الفرصة لكي تنام يدها الصغيرة في يده ولو لبرهة يسيرة، صفر بشفتيه في سعادة ومد يده بالنقود لبائع الصحف وعلي وجهه ابتسامة وتناول الصحف كمن تناول أسورة ذهب ولم ينتظر لأخذ باقي نقوده فقد كانت لحظة الاستدارة المصطنعة المتبوعة بعلامة دهشة للصدفة المزعومة قد حانت وليس ثمة مجال للالتفات للبائع:( رشا؟ معقولة؟ إيه الصدفة العجيبة دي؟ )
رشا ردت الدهشة بدهشة صادقة وتحية صادقة ومصافحة حارة ليد عاصم الممدودة ولكن ساعة مصافحة الغزالة لم تحن كما توهم فقد تقدمت رفيقتها خطوة ولم تقبل عليه للسلام كما توقع واكتفت بالرد علي التحية بصوت خافت لم يتبينه ولم يقو هو علي التقدم بل بقي في مكانه ينظر إليها في بلاهة المأخوذ بردة الفعل الملوكية،حتي عندما قالت رشا لها انه دكتور عاصم ونطقت باسمها معرفة إياه بها لم تنبس ندى ببنت شفة ولم تبد اهتماما أكثر من هزة رأس صغيرة موجهة بالكامل إلي رشا وكأنه غير مرئي ولا وجود له،وعندما أفاق من دهشته كانت قد أولته هو ورشا ظهرها ومضت إلي الإمام ثم توقفت في انتظار تميمتها التي كانت أكثر لهفة للحاق بها فودعته علي عجل ولحقت بها. وبقى هو في مكانه يلعق خيبته كما يلعق كلب ضامر لسانه في الهجير وهو يبحث عن ظل بعيد المنال. واشتعلت في داخله نار عظيمة،شئ من غضب ممزوج بشعور بمهانة فظيعة وغيظ كظيم طواه النسيان.صورة بعيدة شاحبة تقبع في قاع ذاكرة تود محوها ولكنها تبقي عصية علي النسيان ، صوت قوي وعينان واسعتان وحاجبان يجيدا إبراز الاستنكار والاستخفاف كأنهما خلقا له: (أنت؟؟؟؟ أنت؟؟؟ أنت؟؟؟؟) تظل كلمة( أنت) المنطوقة بعامية زادت وقعها ألما ترن في داخله كطبول حرب بعيدة وتزيدها حركة الحواجب الاستنكارية وروائح العطر الباريسي والإحساس بالأنوثة العارمة التي وضعت الكلمة بينها وبين رجولته سدا غير مرئيا ألما.. لم يقل شيئيا، انتابه شعور قوى بأنه في قاع بئر بعيدة مظلمة ليس فيها نقطة ماء وان قواه تخور تدريجيا حني بدأ في فقدان الإحساس بالأشياء.. وكان آخر ما ميزه من الأصوات صوت حذاء سلوى الغاضب مثلها وهو يبتعد عنه كما يبتعد الناس عن شخص أجرب،في الأيام التي تلت ذلك اليوم باتت الجامعة أضيق من خرم إبرة فكل ابتسامة علي وجه زميل أو زميلة باتت ذات معني وحيد له وكل من يهمس لأخر لابد انه يحكي عن تطاول ابن الريف علي قمر المدينة الغاضب وبات حضور سلوى في إي مكان سببا للانزواء والانسحاب،باتت المكتبة هي ملاذه الوحيد وبات الخروج من جنة سلوى إلي جحيم الحياة سريعا هو هدفه العاجل،وكان من لطف الله به أنها لم تكمل دراستها وتزوجت وتركت مدرجات الطب لمن يرغبها ويحتاجها مثله حينها فقط تنفس الصعداء وعاد من جديد بطموحات خجولة وأجنحة مكسورة إلي حياته الجامعية،لعنة الله عليك ياندى ها أنت تعيدين الكرة ولكنك لتدرين إنني لن ألوذ بالصمت والهزيمة ثانية ،لن استكين للحواجب المستنكرة أبدا.... أبدا.في ثورة غضبه كانت يده المضمومة قد انفتحت الآن وقبل إن يعيد ضمها اسقط البائع في يده المفتوحة باقي نقوده فنظر إليها في دهشة في البدء وحين تبين له اتساخها ألقاها في وجه البائع وهو يصرخ: (دى قروش ولا زبالة... شبل العفن دا.. )امتقع وجه البائع ولكنه تناول النقود في صمت كسير ولم يرد عليه ولم ينتظر عاصم ردا، بل توجه نحو سيارته فادار محركها وأنصرف. يومهاقرر عاصم إن تغيير الجلد والسياسة هو المهم، مأمن جبل يستعصي عليك فقط تخير الزاوية الصحيحة لتسلقه وستفعلها وتنصب ساريتك في اعلي نقطة فيه وتنظر اليه مستهزئا،سرح في البعيدوجاءه صوت غاضب(طول عمرك تعاين للي في ايد الناس،طول عمرك داير تخرب زراعة غيرك وما داير تزرع، حسبي الله ونعم الوكيل فيك، حسبي الله ونعم الوكيل).أحس بشئ كالوخزة كشكة دبوس مفاجئة وشعر بذلك الوهن الذي يجيئه من المجهول كلما تذكر غضب ابيه وكلماته حين يلبس ثوب الضحية وجد نفسه يخاطب العدم: (وماذا إذا لم يكن في يدي شئ؟ ماذا اذا كنت طول عمرك راضيا بالظل البعيدوقانعا بالعدم وناثرا للشرر في حياة من حولك؟)تخيل ردة فعل والده.. نظرة سخرية طويلة وصمتا ناطقا ..ظهرا مستقيما يستدير وخطوات مبتعدة كمن يهرب من عدوي فتاكة،رحل ابوه بعد معارك طويلة مع كل من حوله ولم يتسن له ان يري الدراهم تجري في يده الخالية كما يجري الماء في نهر ولم ير قصره الصغير وعربته الفارهة،لكن كلماته الغاضبة بقيت تطرقع في الهواء ككرباج في يد حوذي مسرع وتلك الصور لاتريد ان تخرج من قاعها هناك حيث ظل عاصم البروس طول عمره حبيسا لها،تلك الصور التي جعلته يتمني لو كانت ذاكرة الأنسان مثل ذاكرة اجهزة الكمبيوتر قابلة للتبديل ومسح بياناتها كليا أو جزئيا، لكان حينها القي بهذه الذاكرة الموجعة في أقرب سلة مهملات وأبتاع ذاكرة جديدة بكرا لاتحتشد بتلك الصور المفزعة،صرخ مفزوعا كمن يكلم أحدا :(اللعنة علي تلك الذاكرةالحارقة) ثم ركل الهواء بقدمه وتهاوي جالسا واخرج الهاتف الجوال واخذ يبحث عن رشا بين الاسماء الكثيرة المحتشدة ثم اخذ يبحث عن علامتها التي يميزها بها بين اكثر من رشا مسجلة لديه، رن الهاتف طويلا ولم يتلق ردا... اخذه في يده مترددا بين رغبة في اعادة الاتصال وبين ضرورة التزامه بقوانينه الخاصة: من لايرد لاتعاود الاتصال به... تجاهله مثلما تجاهلك وسيدفعه الفضول للعودة اليك مختلقا اعذارا عن عدم الرد وقد لايعود واذا فعل فالله الغني عنه،لم يطل تردده فقد رن الهاتف بالحاح قبل ان يحزم امره، كانت رشا تعتذرعلي الطرف الاخر، بعد التحايا وسيل من الحديث بعيدا عن الموضوع سألها عن ندي بصوت حشد فيه كل اشارات الاهتمام الخاص التي يمكن لأنثي حصيفة ان تلتقطها مباشرة وتبني عليها ما تبني ، ضحكت رشا بخبث وقالت له:( متين! العجلة من الشيطان.)ضحك وقال بصوت من يريد إخفاء نار متقدة:(مجرد سؤال يا رشا..ماتمشي بعيد..)ضحكت وقالت:(ما حامشي بعيد وانت برضو ما تمشي بعيد..ديل ناس سكتهم ما بتنفع معاك... سكة مافيها مواعيد ولامقابلات ولاتلفونات...قطر وسكتو ما بتتغير)ضحك وقال لها:(ماتمشي بعيد...خلاص سكتنا.)ثم ادار الحديث الي دفة اخري فقد كان ما فعله كافيا جدا لكتابة السطور الاولي واثارة الفضول.. الفضول الذي قتل ملايين النساء...كان يعرف بقية السيناريو جيدا... يتخيل كل التفاصيل التي ستدور بين رشا وندي وكان يعرف جيدا ان ندي ستسفه الموضوع لصديقتها وترسم قناعا جامدا وتسخر علنا ولكنها لن تستطيع اخماد حريق فضولها الذي سيشتعل ويزداد اشتعالا،وضع الهاتف بعيدا وصرخ في الغرفة الخالية علي طريقة بطله الامريكي المفضل في تلك الدراما التلفزيونية: yes) ).كان في الوقت نفسه يسأل نفسه: ماذا تريد ياعاصم؟هل تلعب بنار ستحرقك يوما؟! أم هي مراهقة متأخرة لم تحظ بها في طفولتك الممسوحة من قطار العمر البخيل؟ هل تريد أدراك ما فاتك في سنوات المراهقة والشباب الباكرة بأثر رجعي؟!أم أنك قد أشتقت الي دفء عشيرة وأسرة لم تحظ بهما أبدا؟! وما أدراك أن القادم لن يكون أسوأ مما مضي؟!
لم تكن ثمة أجابة واضحة في ذهنه، كان يعرف فقط أن سهمه قدفارق القوس ورفض الرجوع اليه، فليكن ما يكون( ليس بعد الذبح ألم يا صديقي...فليكن ما يكون ياندى...).
بعد عدة ايام بينما كانتا في طريق العودة عصرا وفي قلب الزحمة ووسط ضجيج الباعة المتجولين وجيوش العابرين في السوق العربي بالخرطوم قالت رشا لندي بصوت اجتهدت في جعله عاديا: بالمناسبة دكتور عاصم هاريني بالسؤال منك يا ندي!!
قالت ندي وحاجبها الصغير ينعقددهشة وتساؤلا: دكتور عاصم!!!!! مين دا؟؟؟
وحين ذكرتها رشا بتلك المقابلة القصيرة هزت رأسها بلا مبالاة ولاذت بالصمت وكان ذلك يعني انتهاء الحديث، فصمتت رشا وادارت دفة الحديث في اتجاهات مختلفة كأن الامر لايعنيها وهي تتحرق فضولا لمعرفةردة فعل ندي في الحقيقة. كانت ندي تحادث نفسها في تلك اللحظات: (كنت متأكدة ان اهتمامك المفاجئ وتلفوناتك المتعددة وتلميحاتك وراءها شئ ما، تلعبين دور الرسولة لهذا المتعجرف الذي يتخيل انه عمر الشريف في زمانه وان لفظة دكتور التي تسبق اسمه ومفتاح السيارة الذي يلوح به بطريقة استعراضية فجة كفيلان بفتح الابواب المغلقة امامه، وانت يارشا مازلت كما انت تتخيلين نفسك الساحر الذي يلعب بالدمي من خلف ستارويعود سالما ،كم أرثي لك وله!! )إبتسمت ندى دون ان تشعر ابتسامة غامضة فالتمع بريق امل في النجاح في عيون رشا. لكن وجه ندي عاد من جديد صارما محايدا لايشير الي شئ . وهكذا توالت الايام حتي باتت اشهرا ورشا تدور حول ندي كفراشة تدور حول وردة بلا كلل وعاصم ينتظر اشارة ما لم تأت ابدا وندي تبدو مستمتعة باللعبة اكثر من الصياد ومساعدته فقد كان اللعب مكشوفا امام عينيها وكان كل شئ غامضا ومبهما بالنسبة لرشا وعاصم..قالت له رشا بنفاد صبر: (انت العاجبك شنو في الزولة دي؟ البنات زي الهم علي القلب، مالك منشف ريقك وريقنا ومدفق مويتك في الرهاب؟)لكنها لم تك تدري انها انما تزيده عنادا وتمسكا بالانتظار.
قرر عاصم بينه وبين نفسه أن طريق رشا طريق مسدود وان غيرتها الظاهرة من ندي ومعرفتها كل شئ عنه سلاح ذو حدين ففضل التظاهر بالتراجع والبحث عن مداخل اخري فقال لرشا بغضب مفتعل :(الظاهر الزولة شايفا ليها شوفة ولا انت قدمتي الملف مقلوب.... عموما خلاص انسي .. سيبك ).. لم تفت النبرة المفتعلة علي رشا فهي تعرفه جيدا ، ضحكت بخبث وقالت: (ما عوايدك يعني، عارفاك يا اخوي نفسك طويل وحبالك طويلة..ما علي انا... شوف غيرا.)
ضحك برغمه مستسلما وقال بصوت بارد وحازم: (ما ولدوها لسه البتغلب عاصم وبكرة تقولي عاصم قال.( هزت رشا كتفيها بلا مبالاة ومطت شفتيها وهي تقول:( نشوف.. )فتحت باب السيارة وقبل ان تترجل منها قالت كمن تذكر شئيا فجأة:( انا ما نسيت...نادي القصة .. دوواين الشعر...رطانة المثقفين العجيبة....قعداتم بالساعات تحت الشدر....)
نظر اليها عاصم مشدوها كمن ينظر الي شخص خرج لتوه من مصحة عقلية و لم يقل شئيا واسترسلت هي ضاحكة وشرعت تغني: (الهون ضرب التلفون... والعسكر واقف طابور... عمي عاصم داير المفتاح والمفتاح عند النجار...) وقهقهت بكل قوة لديها وعاصم مازال مشدوها صامتا، واخيرا استجمع اطرافه وقال لها: (رشا.. الحاصل شنو؟ مالك؟)
ضحكت وقالت:( وبرضو مافهمت؟ عامل لي فيها ابو الفهم وبرضو ما فهمت؟! هز رأسه في صمت مشيرا الي انه لم يفهم شيئا..) اقتربت منه رشا وهمست في اذنه فتوهجت العيون ببريق الفهم والفرح ووجد نفسه يقول لرشا بلا ادني قدر من اللباقة:(والله صحي كيدكن عظيم يا بنات حواء... ويا نادي القصة جاك بلا....)ضحكت رشا واخرجت نفسها من السيارة وتأنت في اصلاح ثوبها حتي لاتفوتها متعة متابعة ما ارتسم علي وجه عاصم من فرحة وافكار. في الايام التاليةنفض عاصم الغبار عن مكتبته وعن أهتماماته القديمةوأستدعي من الذاكرة أسماء كل الاصدقاء المهتمين بالأدب والشعر وقرر -علي حد تعبيره- دخول دورة تنشيطية من أجل عيون ندى، كان يدندن سعيدا في الحمام بشفتيه وهو يغني بخبث أغنية قديمة للكاشف يتوعد المحبوب فيها بانه سيراه أينما ذهب(انا ياطير محل ماتطير بشوفك) ، وجد نفسه يترنم بالاغنية كاملة بحماس تلميذ يشدو بالنشيد الوطني في طابور الصباح وعلا صوته اكثر وهو يتخيل ان ندى تستمع اليه ونظرة التحدي في عينيها تتضاءل مع تقدمه في الغناء... قال لنفسه مبتسما( الكاشف دا الظاهر كان خطير) ضحك لغرابة الفكرة ثم قال لنفسه:( الخطير الشاعر.... أتاريهم جدودنا زمان ما وصونا علي الوطن بس... أدونا مع الوصية حبة شقاوة.) كان قد قرر ان تكون الدورة التنشيطية بعيدا عن الملعب الرئيسي: نادي القصة. فهو بذلك يصطاد دستة عصافير في وقت واحد، ينعش الذاكرة ويتعلم لغة اولاد الكار ويعتاد عليها استعدادا للملعب الأصلي وفي نفس الوقت يصنع لنفسه سيرة ذاتية وصيتا ووجودا في المحيط الذي تسبح فيه سمكته حتي لاتنفر منه عندما تواجهه هنا وتحسبا لقيامها باجراء بحوث عنه .كان مستمتعا بكل التفاصيل التي دارت في ذهنه وكل الخطوات العملية التي باشرها فمنذ نعومة اظافره كان التحدي هو ما يستنفر قواه ويحرك شيطانه بصورة كانت تخيفه احيانا خوفا يرده الي أول جريمة ارتكبها في حياته: تلك الساعةّ!
ساعة جميلة جلبها والد احد زملائه التلامذة لابنه عند عودته من رحلة الحج، كانت الساعة تحديا لايستطيع عاصم مهما فعل ان يرد عليه إلا بفعل وحيد: أخذها خلسة من صاحبها وهشمها وألقاها في فناء المدرسة حيث الطابور اللعين. وظلت دموع زميله مثل وخزة الدبوس تشكه كلما تذكر الواقعة بتفاصيلها الموجعة حتي أحساسه العالي باليتم في مواجهة هدايا الحجاج التي ليس له منها نصيب إلا حسرة وموجدة غامضة.
تنهد عاصم وهو يحاول عبثا إيقاف بندول الزمن الذي يدق في ذاكرته بالحاح ولم يجد سبيلا لاسكاته إلا بالخروج حيث الهواء الطلق والضجيج ومشاوير جديدة في عالم الأدب تنتظره. أنخرط عاصم في الايام التي تلت ذلك في مجتمع الخرطوم الثقافي بكل ثقله متنقلا من ندوة الي محاضرة الي مناقشة رواية الي قراءات شعرية ، حريصا علي تكرار الحضور في اكثر من منبر والمشاركة بشكل أو اخر في النشاط بشكل يفي بحاجته لاكتساب صفة مثقف مهتم بالادب وللغرابة وجد نفسه ينخرط ويكتسب ذلك اللقب الساحر بسهولةويسر بل وجد من هم أقل منه معرفة واكثر مداومة وضجيجا فزاده ذلك ثقة بنفسه وبدت المسألة تروقه واقتنع تماما انه لم يكن يعرف قدر نفسه وامكانياته وتحولت اللعبة الي اكتشاف للذات جعله يتمادي ويحاول كتابة بعض النصوص الشعرية التي اعتزم ان يغزو بها قلب ندي وأخذ يرسم في خياله الكيفية التي سيقدمها لها بها ويرسم التوقيت الذي سيعترف فيه بصوت خجول انها ملهمته وصاحبة الاشعار وأخذ يتخيل ردة فعلها وكيف ستشعر بأنها اميرة وحيدة في قلبه وكيف تتغير نظرتها المتعالية ونبرتها الجافة الي أهتمام خاص وهمس حنون، عندما وصل بتفكيره الي هذه النقطة أنفرجت أساريره كاشفة عن أسنان بيضاء منتظمة تميزها كثيرا وسرعان ما علت الوجه تقطيبة وزم شفتيه وهو يتساءل: وماذا بعد ذلك؟ ماذا تريد منها وشعورك نحوها الي الكراهية أقرب منه الي الحب؟لماذا تتجشم كل هذا العناء وتندفع نحوها كطلقة هاربة من جوف مدفع؟! هل أحببتها ياتري دون ان تشعر يا عصوم؟! هكذا قال له خالد صديقه عندما حدثه عن ندي ونفورها واقسم ايمانا غليظة انه سيروضها كما يروض مدرب الاسود أسوده.لم يجب علي خالد وقتها سوي بابتسامة سخرية غامضة ولم يجب الان علي تساؤلاته هو فقد كان يدرك فقط ان ثمة نيران تشتعل في صدره وتدفعه دفعا في طريقها وتدفعها هي في طريقه كما يدفع شلال قاربا صغيرا نحو صخور تنتظر تمزقه أربا عند حافتها. داوم عاصم علي التجمعات الثقافية بانتظام حسده عليه روادها وخص نادي القصة بجل وقته واهتمامه فقد كان هو مورد ماء يمامته التي واظبت علي الحضور بشكل اقل انتظاما منه لكنه متواتر ومتصل، تعمد ان يمكنها من ملاحظته وتجنب الاحتكاك المباشر او اللقاء المباشر حتي يعطي انطباع الصدفة غير المدبرة مجاله وحتي تستوي طبخته علي نار هادئة قائلا لنفسه :(الصياد الماهر حقا هو الصبور غير المتعجل والعصفور لايلج القفص الا حين يطمئن .. تظل الاجنحة مشرعة للطيران ولكنه لا يستطيع مغالبة فضوله فيقترب دائما بما يكفي..... ) ابتسم بلا تعبير علي وجهه وهو ينظر الي ندى بضفيرتها الطويلة الملقاة علي ظهرها بتسريحة ذيل الحصان التي تميزها عن غيرها، كانت تأتي وحيدة الا في حالات نادرة تحضر معها صديقة لها تدعي نوال الكاشف ، كانت نوال نقيضا لندى في كل شئ، جرئية ذات شخصية مقتحمة وصوت عال رغم انوثتها البادية وكانت ترتدي الثوب السوداني بطريقة تجعل أشد مناصريه يخرج في مظاهرة تطالب بمنعه فورا، أما عطرها فكان يحتل المكان حتي موعد الليلة الثقافية القادمة وكانت حين تقرأ نصا من نصوصها القصصية القصيرة تنشر في المكان روحا غريبة تجعل كل رجل يشعر ان النص وانفاسها المتصاعدة مع الكلمات كأبخرة تتصاعد من فنجان شاي في الشتاء هو شأن خاص به وحده... كان حضور نوال طاغيا الي حد ان نفسه نازعته وقالت له : (دعك من ندى فهي في حضور نوال كالظل لصاحبه ينظر الناس الي الاصل ولايهتمون بالظل، تلك أمرأة تجلب البريق والضجيج وأشياء أخر أينما حلت وهي تهتم لأمرك وتقدرك حق قدرك وتجذبك اليها بخيوط غير مرئية، فلماذا تلهث خلف شمس وشيكة الغروب كثيرة النفور والاحتجاب؟)
بلا مقدمات وجد عاصم اهتمامه بندى يخبوء ويتناقص وفي المقابل وجد نفسه منجذبا الي عوالم نوال الكاشف باحثا عن موطئ قدم وسط اللاهثين خلف عطرها وصوتها وحضورها العنكبوتي في سطوته وقدرته علي الانتشار، تري هل بات الصياد الفريسة يا عاصم؟كتب عاصم ذلك في مفكرته بحروف كبيرة بارزة،وقضي ليال طوال يبحث عن الاجابة بلاجدوي، كل ما عرفه أنه بات منجذبا الي نوال الكاشف بجنون ولهفة لم يستطع اخفائها أو مغالبتها حتي حين تمد يدها للمصافحة ، كان الدفء الساكن في الكف الصغيرة البضة يدوخه، يجعله في حالة خدر يدفعه للأمساك بها بقوة ليستبقيها أطول وقت يستطيعه والحمى تفتك به فيرتعش كعصفور صغير.كانت نوال كائنا من كون آخر، كانت تعرف، كانت تشعر بأضطرابه وجنونه والحمي التي تفتك به، كانت تنظر مباشرة عبر عينيه الي داخله، وكان واثقا انها ترآه وتري ذلك الشريط الملتهب بالرغبة والانجذاب والجنون الذي ينطلق منه تجاهها كصواريخ منطلقة من منصة أطلاقها، كانت عيونها تشجعه بصمت وتعده ببحار ومحيطات وحدائق جميلة، فوجد نفسه مندفعا نحوها بجنون وجوع لامثيل لهما في الضراوة. قالت نوال الكاشف لندى وهي تقود السيارة الصغيرة علي مهل عابرة جسر امدرمان الجديد بعد ليلة ثقافية صاخبة بنادي القصة: (ندي .. هذا الرجل لايري غيرك حتي عندما تكوني غير موجودة..كيف لاترين كل هذا؟!) هزت ندي رأسها بلا اهتمام وقالت:( لايعجبني يانوال (He is not my type…)
ساد صمت قصير تخلله صوت مزعج لبوق سيارة عابرة من الاتجاه المعاكس ومن خلال حركة ماسح الزجاج فيها أدركت ندى ان ثمة مطر يهطل بالخارج فقالت بفرح: (المطر يانوال.. المطر....) ضحكت نوال ومدت يدها اليسري عبر النافذة الصغيرة واعادتها مبللة وهي تردد: (يامطيرة صبي لينا في ايدينا،يا مطيرة صبي لينا في ايدينا...) ارتفع صوت ندى معها بذات الحماس مرددة ذات النشيد: (يامطيرة صبي لينا في ايدينا)...عادتا بالذاكرة الي ايام جميلة مع المطر والعاب الطفولة واناشيدها المرتجلة... مضت السيارة تشق الشوارع المغسولة بالمطر وندى ونوال يغتسلن بالذكريات الجميلة من عسف الحاضر. سرحت نوال مع نفسها :
) انه ليس نوعك فعلا يا ندي...شاب رياضي وسيم يقود سيارة تساوي قيمتها عشرات الملايين وتبدو آثار النعمة الموروثة في أصابعه الرشيقة وهو طبيب وعازب ومحب للشعروالقصة...أي نوع تفضلين ايتها المغرورة؟! ابن الحطاب وعيشة العذاب وابني عشك يا قماري؟!) نظرت الي ندى في المرآة كأنها تخشي ان تكون قد سمعت افكارها وكلماتها مع نفسها عنها ولكنها وجدتها غارقة في تفكير عميق ولاهية عنها تماما. فعادت من جديد الي افكارها وتذكرت وجه عاصم وابتسامته ونظراته التي تكاد تخترقها عندما استدارت بدلال متعمد مودعة الجميع بطريقة تجعل كل سامع يظن التحية خاصة به.
وتذكرت اللقاء الثاني وعاصم واضطرابه الواضح ويدها الممتدة للتحية ويده المتوترة التي ترفض اطلاق سراح كفها.. همست لنفسها بصوت ظنته خافتا: (حكاية!!!!.) وحين جاءها صوت ندى متسائلا: (حكاية شنو؟ ) اضطربت قليلا ثم ضحكت وقالت: (حكاية المطيرة الصبت لينا في ايدينا!!!!) كان المطر لايزال يتساقط لكن بشكل أقل حين ترجلت ندى من السيارة ورفعت يدها مودعة نوال التي أخرجت رأسها من نافذة السيارة ضاحكة وهي تقول: (يا مطيرة صيى لينا.) فضحكت ندي وهي تمد يدها للمطر المتساقط ووقفت ترقب العربة الصغيرة حتي غابت عن بصرها ثم استدارت علي مهل في طريقها الي البيت وصوت نوال يرن في أذنيها: (هذا الرجل لايري غيرك.. كيف لاترين ذلك؟)، عبست حين تذكرت الجملة وابتسمت وهي تقول لنفسها: (اللعنة عليك يا نوال لايفوتك شئ حتي لو غاص بباطن الارض (وضحكت وهي تتذكر قولا أضحكها حتي أبكاها قالته رشا عن نوال الكاشف وهي تصف قدرتها العجيبة على معرفة الاسرار) :دي تلقى عندها خبر العقرب والدبيب( وأغرورقت عيناها بالدمع اكثر حين سألت رشا عن معني المثل فهزت الأخيرةرأسها ببرود وهي تقول لها: (العرفني بيهو شنو .. سمعتو كدة وعارفا استعمالوا هنا....غايتو للمبالغة (كانت ندى قد وصلت باب المنزل الصغير الغارق في الظلام فدفعت الباب ودخلت. كان صوت المطر علي سقف البرندة الصغيرة المصنوع من الزنكي عاليا بخلاف صوته الناعم الخفيف بالخارج. وكانت أختها سلوي المصابة بفوبيا الاماكن المغلقة نائمة في البرندة وحدها كعادتها وهي ملتفة ببطانية سميكة . تجاوزتها ندى بخطوات حرصت علي ان تكون بلا ضجيج بقدر الإمكان متجهة الي غرفتها الصغيرة في آخر البرندة.وقبل أن تبلغها جاءها صوت أمها متبوعا بخطواتها وهي تتساءل تساوءلها المعتاد أن كانت قد عادت فتوقفت ندى حتي اطلت أمها براسها من داخل الغرفة فحيتها بمودة معتذرة عن تأخرها ومتسائلة ان كان المطر قد احدث ضررا فردت عليها أمها بابتسامة واسعة محببة نافية حدوث ضرر وحامدة شاكرة وهي تسأل ندى بلهفة ان كانت ترغب في عشاء فضحكت ندي وهي تقول) : (الفول حبيب الشعب يحلو تحت المطر...نوال قامت باللازم ياحاجة..)وهرولت راكضة نحو غرفتها مغلقة باب الأسئلة التي لن تنتهي.و ضعت ندى حقيبتها الصغيرة علي المنضدة الصغيرة وأستلقت علي سريرها بملابسها كاملة بعد ان خلعت حذائها الصغير بحرص باد ووضعته في مكان مخصص له، وضعت كفيها مشبوكين خلف عنقها كأنهن وسادة وثنت ركبتها اليسري ومددت ساقها الاخري في وضع مستقيم ، كانت تلك وضعيتها المفضلة عندما تكون سعيدة وراغبة في التفكير بعمق في شأن ما، كانت تستعرض شجرة صداقتها مع نوال الكاشف وتتذكرها فتاة نحيلةطويلة القامة يميزها شعر طويل ناعم مصفف بطريقة مختلفة ومتميزة جعلت منها نفسها شخصية مختلفة برغم ان ملامح وجهها الذي لايخلو من نمش وبعض حب الشباب كانت أكثر من عادية ولكن تسريحة شعرها وطوله ونعومته وشئيا فيها ربما يكون مشيتها أو صوتها أو طريقتها في الحديث أو سرا غامضا مودعا فيها، شيئا ما كان يعطيها شخصية طاغية تجذب اليها الآخرين كما يجذب المغنطيس المعادن،كن في نهاية دراستهن الاساسية ميممات صوب المرحلة الثانوية حين توطدت صداقتهن برغم الفوارق الكثيرة التي منعت نشوء تلك الصداقة فيما سبق من سنين الدراسة ، كانت نوال بطبيعتها من ذلك النوع من الأناث الذي لاتحبه النساء ويشعرن نحوه بمزيج من المشاعر المسبقة المتفاوتة بين عدم القبول والنفور والغيرة غير المبررة لاسباب تبقي مجهولة في أغلب الاحوال ولكنها تبقي في الاعماق ، وفي ذات الوقت تجد الواحدة منهن من يدرن حولها كما يدور فراش حول زهرة وكما يتحلق جوعي حول مائدة عامرة، كانت ندى لاتحب الضجيج بطبعها فقد كانت منذ خطواتها الأولي ميالة الي الهدوء وتمقت الصخب والضجيج ، لذلك ظلت بعيدة عن نوال الكاشف وشلتها الصغيرة بعد غزال عن أعين الصيادين، وكان يمكن ان تنهيا دراستهما الاساسية وتفترقا دون ان تمثل كل منهما شيئا للاخري، كانت ندى تنحدر من أسرة فقيرة وأب مكافح وتقيم في حي شعبي صغير في أطراف المدينة بينما كانت نوال الكاشف تنحدر من أسرة ثرية معروفة بامدرمان وأبوها صاحب محلات تجارية ترتفع حواجب النساء ويشهقن حين يرد اسمها في الحوار ويتباهين بانهن من روادها. كانت نوال تأتي للمدرسة وتعود منها بعربة وسائق، بينما تأتي ندى ورفيقاتها ويعدن سيرا علي الاقدام. لكن الشعر كان قادرا علي أذابة الفوارق بينهن ومسح الانطباعات والهواجس.
كانت القصائد والخواطر المكتوبة سرا والمحفوظة بعيداعن أعين الاهل هي بوابة ندى الي عالم نوال الكاشف وجواز مرور نوال الي عالم ندى وهكذا ألقيت البذرة في الأرض ورويت شعرا وخواطرا وأحاديث هامسة في بيت فخم في قلب الملازمين وبيت آخر صغير بحي الهاشماب حتي طوين الثانوية وولجن الجامعة وباتت نوال تقود سيارتها بنفسها في شوارع أمدرمان .
كانت العلاقة بين نوال وندي علاقة معقدة جدا، علاقة المتناقضات المتجاورة، فقد كان مايفرق بينهن اكثرمما يقرب بينهن، كانت ندي تجد في نوال امتدادا يمثل بالنسبة اليها كل ماكانت تفتقر اليه من صفات ومقدرات وبخاصة تلك القدرة علي التحكم بالاخرين بسهولة ويسر كمن يملك جهازا خاصا للتحكم في الاخرين عن بعد، فقد كانت نوال الكاشف صاحبة حضور قوي ومؤثر في أي مكان وزمان تحل فيهما. كان من حولها يتضاءلون رويدا رويدا حتي لايعود الناس يرونهم في حضورها، شئ ما في روحها ومشيتها وضحكتها وطريقتها في الكلام واختيار الملابس ، كان قادرا علي إحداث هذا الأثر الخاص، شئ بمقدورك ان تحسه ولكن يصعب عليك وصفه. اما ندي فقد كانت كالظلال لايتبينها الناس للوهلة الاولي ولاتترك الاثر نفسه ، بل أنها لاتحب ان تكون محور الاهتمام أو مركزه وأن كانت تتمني ذلك كأي انثي في أعماقها ولكنها كانت تدرك أنها لاتحتمل ذلك وتفضل دائما أن تجد الاهتمام ولكن بلا ضجيج ولا أضواء كاشفة تجعل منها مادة لألسنة الآخرين الحادة. كانت نوال الكاشف وحيدة والديها وكانت دائما تري في ندي ما حرمتها منه الحياة وتحسدها علي ذلك، ابتداء من التفاصيل الصغيرة مثل مشاوير الصباح والظهيرة من والي المدرسة مع رفيقات الدراسة سيرا علي الاقدام في شوارع امدرمان،الشراء من الباعة المتجولين والاستماع إلي كلمات الاعجاب الساذجة من الصبية وحتي نيل النصيب من نظرات خاصة من رجال كبار لايحول الزي المدرسي او فارق العمر بينهم وبينهن، كانت نوال أسيرة السيارة والسائق ولم يكن لها من تلك المشاوير نصيب الا همسات وحكايات زميلاتها التي تؤجج الفضول وتشعرها بقيمة ما تفتقد، وتسرح نوال مع الحكايات فتري نفسها بعين الخيال وسطهن تتثني وتستمتع بعبارات الاعجاب والتسكع في رحلة الصباح والظهيرة وتري فارسا يقود دراجة صغيرة بيده ويتمشي معها والبنات ينظرن اليها بغضب لايخلو من الحسد.ولكنها تفيق من الخيال لتعود إلي واقعها المسكون بالصمت والوحدة في القصر الخالي كما كتبت في مفكرة خاصة صغيرة خبأتها بين دفاترها المدرسية ولم تشرك أحدا في قراءتها الا ندى فقط. كان أبيها مشغولا دائما بتجارته ودكانه نهارا وعصرا وقسما من المساء وفيما عدا ايام الجمع والعطلات والاعياد لم يكن القصر الصامت يعرف المائدة التي تجتمع حولها الاسرة، وكانت أمها مشغولة هي الاخري بالتسوق والزيارات والمجاملات التي لاتنتهي وتنفق وقتا طويلا في التأنق والتزين والنظر إلي قوامها الممشوق في المرآة والثرثرة مع الحنانة التي باتت عضوا بالاسرة وكان دخان سيجارتها قد بات شئيا عاديا مثل حضورها الدائم إلي امها.كانت امرأة( متبرية ) من لسانها كما تصفها أمها فهي تخوض في كل حديث تقوله النسوة سرا باعلي صوت وبأي مفردة تخطر علي بالها يساعدها في جهرها بالقول صوت أجش يشبه أصوات الرجال لكنه يصبح رخيما مطواعا حين تغني أغنية ما وهي تنقر بأصابع مدربة علي دلوكة أو اي شئ يقوم مقامها ،كانت علوية الحنانة هي الضجيج الفرح الوحيد الذي يلج القصر الصامت فيحوله إلي خلية عامرة بالحياة وقهقهات النسوة اللائي يخترعن الأسباب للحضور إلي مجلس علوية الذي كن يسمينه (هنا امدرمان) فعلوية التي تدخل كل البيوت متي شاءت وتجهز العروسات الصغيرات والنسوة الشابات والمتصابيات جميعهن للافراح لاتخفي عليها خافية ولاتعجز عن تفسير أي حدث وواقعة حتي عن أناس لم تصافح يدها يدهم ولا تعرفهم ولكنها تعرف سيرتهم السرية بالتفصيل الممل. عدا جلسات علوية الصاخبة تلك كان القصر صامتا صمت القبور. وكانت روح نوال تحن دائما إلي ذلك المنزل الصغير المسكون بالضجيج والدفء الذي تتحلق فيه اسرة ندي باكملها حول مائدة صغيرة تذوقت فيها نوال أجمل طعم لاجمل ملاح شرموط بالقراصة وتحررت هنالك من أسر الشوكة والسكينة المفروضتين عليها. وفي ذلك البيت الصغير بهرتها جلسة حاجة آمنة والدة ندي أرضا للمشاط مسلمة شعرها لجارة لها جلست علي العنقريب بينما جلست حاجة آمنة أرضا مستندة بظهرها علي العنقريب وهي تغني بصوت خفيض وفي يدها فنجان جبنة صغير فقد كانت الجلسة للجبنة والمشاط معا.في ذلك اليوم طلبت نوال بالحاح مشاطا مماثلا ولم تخرج الا وهي ممشطة مشاطا أشعرها بزهو كبير لم تشعر به من قبل .
كانت علوية الحنانة صاحبة الحضور الاكبر في حياة نوال الكاشف،أكثر من حضور أمها المشغولة بذاتها واستعادة ما مضي، كانت نوال معجبة بقدرة علوية في التحكم بالنسوة و شدهن اليها بخيوط غير مرئية، كن جميعا يخضعن لها وكانت تتعامل معهن كأنها السيدة وهن الوصيفات وكانت حريصة في مظهرها الا تقل عنهن في شئ ، كن يفرطن في الزينة وتعمد تحريك الايادي البضة حتي يسمعن الحاضرات شئيا من رنين الذهب، وكانت علوية تبدو بزينتها وانأقتها المفرطة وأساورها الذهبية التي تغطي معصميها كأنها واحدة منهن وكانت تحرص علي المغالاة في اسعار خدماتها وعطورها المحلية التي تصنعها بنفسها بل تتباهي بذلك حتي جعلت من نفسها علامة تجارية مميزة لنسوة مجتمع امدرمان المخملي يكتمل بها الاكسسوار مثل العربة وموضة الثوب ودقة الذهب وعياره ونوع الحذاء وبلده المصنع له.كانت تقول باعلي صوت: (الما قادر يشوف القدرو، والماعندو ما بنحوم بي عندو، لاصرمانة لاجيعانة احمد ربي غنيانة وعيني مليانة....) . وكانت النسوة يتحاشين الاصطدام بها أو مساومتها خشية ان يصبحن لبانة يلوكها لسلنها السليط في المجالس المخملية فكن يخترن اختراع الأعذار وشغلها بشئ آخر أو الخضوع لما قررته دون جدال. وكانت تعرف ذلك وتجيد استخدامه في استخلاص حقوقها من المماطلات بتعمد احراجهن بالسؤال المباشر او بالتلميح في المجالس فيسارعن إلي تغيير دفة الحديث وسرعان ما تعود نقودها اليها اتقاء لشرها.
وكانت النسوة يحرصن علي ان يغادرن المجلس بعدها حتي لايصرن عناوينا للنشرة التالية من (استديوهات علوية). نوال كانت مدينة لعلوية باشياء كثيرة ، فقد كانت أول من استطاع ان يجيب لها عن الاسئلة المسكوت عنها لفتاة في سن حرجة مرعوبة من تغيرات طبيعية حلت بها فجاة بلا مقدمات ولم تجد من يجيبها عنها. لم تكن تملك أختا ولم تكن أمها متاحة لها.وحدها علوية كانت تملك الاسئلة والاجوبة والقدرة علي قراءة الافكار الصامتة التي تفتك بنوال ،شعرت نوال ان الكهوف لم تعد كهوفا والظلام لم يعد ظلاما وفهمت الكثير من الاسرار ووجدت تفسيرا حتي لاشياء جرت في ماضي ايام حياتها واشياء جارية، فهمت كل شئ بأثر رجعي وفارقها الخجل والاحساس بذنب لم تقترفه كان ملازما لها ولربما كان لازمها حياتها كلها لولا علوية التي علمتها الفرق بين الحنان وادعائه . وحين بكت وباحت لها باسرار صغيرة عانقتها علوية بلطف ومسحت علي شعرها الطويل وقالت لها كلاما كثيرا خلاصته انها أمرأة وليس في ذلك ما يخجلها أبدا وانها يتعين عليها ان تعرف كيف تتعامل مع الاخرين. شعرت بطمأنينة ودفء لم تشعر بهما من قبل في ايام الكوابيس المتكررة والاحساس بالعاربلا سبب. كان السائق حامد هو اول من دفع ثمن فهم نوال باثر رجعي فقد شنت عليه حربا لاهوادة فيها بدأتها بالاهانات العلنية امام الاخرين والتعالي الشديد والاتهام المتكرر بالتقصير بسبب او بلا سبب ومضت في حربها حتي باتت تشكك باستمرار في امانته حتي اضطر والدها في خاتمة المطاف إلي طرده نهائيا، فتنفست نوال الصعداء فقد كان الانتقام من حامد هو أول ثمار المعرفة لما جري وكانت تلك اول معركة للقطة التي بانت مخالبها، معركة خاضتها بلا شكوي ولكن بهدف معلوم بلغته في الختام، فاكتسبت ثقة اكبر بالنفس وباتت الوردة تعرف كيف تحمي نفسها من القطف.
ظل عاصم يلاحق نوال الكاشف بأصرار والحاح بالاتصالات التلفونية المتلاحقة والصدف المفتعلة والتقرب الي اصدقائها المقربين وسقطت ندى من ذاكرته تماما ولم تعد تشكل شئيا بالنسبة اليه الا وصيفة من وصيفات أميرته الكثيرات، كانت نوال الكاشف زلزالا هز عرش عاصم وبدد سكينته فلم يعد ذلك الفارس الممسك بكل الخيوط في ثقة والمدرك لكل خطوة يخطوها، بل وجد نفسه لاول مرة في حياته منجذبا بخيوط غير مرئية الي تلك المرأة التي توزع ضحكتها وابتساماتها وكلماتها ونظراتها واهتمامها علي جيوش مصطفة علي جانبي الشوارع بالعدل كأميرة من اميرات الاساطير، وبات هو فردا من العامة يزاحم في الصفوف لكي ينال نظرة من أميرته في موكبها الملوكي المثير، لم يحدث له ذلك من قبل الا في الجامعة مع تلك المتغطرسة التي داست علي مشاعره كما يدوس فيل علي نملة دون ان يراها حتي ومن يومها اقسم وهو يمسح جراحه انه لن يكون نملة مرة أخري أبدا ولن يستمع لدقات قلبه الذي جعل منه موضعا للسخرية والشفقة بل سيكون فيلا يبحث عمدا عن نملة مختالة ويدوسها ويمضي، استهوته اللعبة الجديدة التي أعادت اليه ذكريات قديمة عديدة في طفولته الباكرة وصباه كانت تأتيه غامضة مشوهة ومعها صوت أبيه غاضبا، كانت اكثر الصور بشاعة بين الصور التي تتلاحق في شاشة ذاكرته هي صورة ذلك القط الصغير مشنوقا علي شجرة وعيونه جاحظة جحوظ الموت، صوت يهدر( من فعل هذا شيطان رجيم.... من فعل هذا شيطان..... ) كان عاصم في العاشرة حينها لكنه كان يفهم معني النظرة في عيني والده ويتذكر اطراقته وصمته الناطق واضطرابه وعبثا يحاول طردها من الذاكرة. يداهمه ضعف ووهن ولكن وجه امه وهي تتوسل وتتضرع الي ابيه بصوت هامس يأتي من مكان ما فيطرد الوهن ويملأه بقوة غريبة مسيطرة غاضبة لاتعرف الوهن.يتصبب عرقه غزيرا حين يتذكر ذلك الصوت المسكون بالقنوط وذلك الوجه الصغير الباكي وتلك الاحضان الدافئة التي انتزع منها بقوة حتي آلمه ذراعه... كان أصغر من ان يستطيع فهم ما جرى علي امتداد طفولته وبعض صباه ولكن ما يعرفه أن تلك المشاهد واللحظات كانت خطا فاصلا بين حياتين وان ذلك الحضن الدافئ لم يعد يضمه ثانية وانه لم ير وجهها منذ زمان بعيد.
جائعا الي حنان حرم منه باكرا دون ان يفهم السبب، غاضبا بشدة دون ان يعرف لغضبه سببا واضحا ودون ان يتبين اتجاه غضبه، شب عاصم وحيدا (بروس) كما يقول لنفسه مشبها نفسه بالنخل البروس الذي يشب وحيدا دون رعاية مجرد نواة سقطت من فم أحدهم وتلقفتها تربة صالحة حتي اثمرت ورقة وحيدة كبرت وكبرت حتي باتت شجرة بعضهن يكن مثمرات بفضل جينات كامنة فيهن وبعضهن يكن عديمات النفع وبعضهن يصلحن فقط لتلقيح النخلات، وفي كل الاحوال يظل اللقب (البروس) ملتصقا بهن كالسبة أو الصفة الذميمة. كانت علاقته بابيه متوترة دائما ومختصرة عنده في ذلك المشهد الوحيد الذي تختزنه ذاكرته لوجه أمه الشاحب وهي تتوسل ويد ابيه وهي تنتزعه منها بقوة... كان يشعر في قرارة نفسه طوال سني طفولته الاولي ان ابيه مسؤول بشكل ما عن غيابها الطويل وعن تعاسته وغضبه.
لكنه لم يكن قادرا علي السير بالفكرة الي نهايتها أو مواجهة ابيه بأي وجه، بل احتمي مثل ابو القنفد بشوكه في مواجهة الاخرين فنشأ شرسا حاد الطباع عدوانيا الي ابعد الحدود مهابا من الصغار والكبار لما عرف به من شراسة وعدوانية و(مضرة) كما يقول الكبار والنسوة الغاضبات عليه بسبب ما فعله باولادهن. لكن الشئ الذي كان محيرا للجميع حتي ابيه كان هو جمعه بين تلك الطباع الحادة والنبوغ والتفوق في الدراسة، وحده كان يعلم السر فقد كان مهووسا بالتفوق وادراك الغايات، كان ثمة طاقة جبارة بداخله وأرادة لاتلين وعزم لايفتر. كان يشعر دائما ان اقرانه يتفوقون عليه بشئ ليس في مقدوره ادراكه بأثر رجعي،شئ لايوجد ضمن المقررات المدرسية ولا الالعاب التي يبددون بها اوقات الفراغ، شئ ذهب مع ذلك الحضن الدافئ حين ذهب مرة واحدة والي الابد. ، وحده كان مضطرا دوما للبحث عن الضجيج عند الاخرين ووحده كان يبقي في أمكنة اللهو الي أي وقت شاء دون ان تلاحقه أم ملهوفة أو شقيقة ملحاحة لتطلب منه العودة، كانوا يذهبون جميعا احيانا ويبقي البروس وحيدا حتي يدركه النعاس فوق شجرة تسلقها ثم ادركه تعب فغفا حتي حل الظلام وحين يصحو مفزوعا يتدلى هابطا الي الأسفل مرعوبا ويركض بلا توقف حتي الدار.
قرأت نوال بصوت مسموع من مذكرته الخاصة دون ان ترفع عينيها: (ما أقسي الوعي الاشياء، ظللت ألهث عمري كله باحثا عن الحقيقة في الظلام ، كنت أحسب لجهلي انها ستحررني من ذلك العبء الذ ي حملته عمري كله راضيا ومتلهفا لإزاحته ولكن) امتدت يدها اليه بالدفتر الذي كانت تتصفحه وعيناه متعلقتان بها في انتظار تعليق ما، لكنها لم تعلق وعوضا عن ذلك همست نوال:( نمشي) وهي تنظر إلي النيل الذي ارتمي تحت اقدام الواقفين علي ضفته غير بعيد من مجلسها هي وعاصم محمود او (عاصم الحزين) كما كانت تسميه في مذكراتها الخاصة، قال عاصم بلهفة وأصرار (الوكت مر وسرقنا.. نقعد شوية يا نوال .....) ضحكت نوال ضحكة صافية يحبها كثيرا ويتصنع الاحداث كي يراها تعتلي صفح وجهها وقالت: (ما تبقي طماع ... كفاية ... خلي شوية لي بكرة... بالطريقة دي يوم يومين حنتونس في الطقس والسياسة بس) . عبثا حاول استبقائها وباءت كل محاولات التحايل عليها بالفشل فنوال كانت مثل القادة العسكريين عندما تقرر شئيا ، لاتلتفت الى الوراء أبدا ولاتقبل الرجاءات. لذلك كان عاصم يشعر معها دائما بانه من المستحيل ان يتخذ أي قرار من أي نوع. لكنه كان سعيدا بذلك ، شئ ما كان يجذبه إلي نوال الكاشف بقوة ساحرة وغريبة، كان يلهث خلفها كما يلهث أطفال في ظهيرة حارقة خلف كرة صغيرة تلسعهم الشمس ويخترق الحصي أرجلهم الصغيرة الحافية ويتصببوا عرقا ولايكفون عن الركض خلف الكرة بسعادة من ملك الدنيا وما فيها، مثلهم بات عاصم الذي جاء الي عالم القصة والشعر غازيا فطوي رايته وأكتفي بالركض خلف نوال الكاشف ركضا في سباق غير متكافئ بين مهرة ممتلئة بالحياة وحصان عجوز تكاد أنفاسه تتقطع في أول السباق.كان يمسي طفلا في حضورها ، يشعر حيالها بشعور غريب لم يألفه ولم يعرفه أبدا، يشعر برغبة عارمة في أن يدفن رأسه في صدرها ويبكي كل دموع سنينه الماضية التي استعصت عليه، يشعر بالدموع دانية قريبة ويشعر ان نوال الكاشف أنثي يعرفها منذ الأزل، أنثي تعرف كيف تمسح شعره وتجعله مطمئنا وتمكنه من النوم بلا كوابيس، هذه المرأة من أين جاءت؟ من أين أتت بكل هذه السطوة عليه؟ لم يشعر بالرغبة في الافضاء اليها بكل شئ، كل شئ ، حتي التفاصيل التافهة في حياته، حتي أفعاله القبيحة التي لا يعرفها أحد، حتي مشاعره التي لايعرف لها تفسيرا، كوابيسه ونزقه وجنونه وامنياته الشريرة واكاذيبه ودموع النساء اللائي سحقهن الفيل فيه كنملة لايستطيع رؤيتها ولايسمع عظامها وهي تتكسر تحت وطأة اقدامه .
نوال الكاشف كانت دنيا مختلفة ، كانت بروسا من نوع آخر، بروسا لايشكو اليتم أو الفقر، كانت تشكو قلة الحنان في بيتها ، كان أبوها مشغولا بتجارته وتنميتها عنها،كانت تجارته تزدهر فتزداد ساعات غيبته عن الدار، ينمو رصيده في البنك وتقل لمساته الحانية لبنته الوحيدة، يزداد لباقة في التعامل مع الزبائن واهتماما بمظهره ويزداد غلظة مع أهل بيته، كلما بكت نوال لتستبقيه اشتري لها دمية او أسورة أو فستانا جديدا ،أما نعمات أمها فقد انصرفت عنها إلي عالم من صنعها، عالم من النسوة المتباهيات بثيابهن وعدد الأساور الذهبية في معاصمهن ونقش الحنة في أيديهن وإقدامهن وكانت أحاديثهن تدور حول هذا العالم الصغير وتوابعه من جلسات دخان ومشاوير تصفيف شعر وجلسات نميمة طويلة تبدأ بالغائبة عن المجلس منهن ولاتنتهي أبدا، كانت نوال هناك علي هامش ذلك كله كما مهملا حين تكون الجلسات خارج القصر الخالي وتكون كما مهملا حينما تكون الجلسة بالقصر فتبدو أمها مشغولة بكل شئ وكل شخص إلا نوال. وحدها علوية الحنانة كانت تلعب دور الأم الحاضرة الغائبة، وحدها علوية كانت تري فيها أنسانا له حق الاستماع إليه ومحاورته والإجابة علي أسئلته. والغريب ان نوال لم تحقد علي أمها أبدا، لم تلمها أبدا، فقد كانت تعرف بطريقة ما أنها كانت مثيرة للشفقة والتعاطف أكثر من أي شعور آخر، كانت(نعومة) كما تسميها صديقاتها تعيسة ووحيدة طوال حياتها ربما اكثر وحدة من نوال نفسها، لم تكن متعلمة ولم تكن تملك فرصة أكثر من ذلك العالم الذي دارت فيه كثور في ساقية، كانت جميلة وكانت تدرك ذلك وكانت طول عمرها تقاوم الجفاف والتصحر كما يفعل النخيل في الشمال، وكلما ازداد اهتمام احمد الكاشف بتجارته زاد خوفها من غروب شمسها الوشيك وزاد شعورها بالوحدة والاهمال فازدادت مجهوداتها في الاهتمام بمظهرها، كانت ست الودع الخبيثة تغازل مخاوف نعومة في جلسات الأنس بقصص عن( الوحييد الذي تحاول البيضاء الطويلة ان تأخذه) وتحدثها عن اشياء كثيرة تلهب خيالا جامحا وتشعل مخاوف نائمة . وكانت نوال غير بعيد تراقب وتستمع ولاتفوتها نظرات النسوة الخبيثة المتبادلة خلف ظهر أمها. بل انها في مناسبات عديدة سمعتهن يتحدثن هازئات عن أمها في لحظات غيابها القصيرة عن مجلسهن. كانت تتمني في أحيان عديدة لو انها صاحبة الدار حتي تتولي طردهن شر طردة بعد ان تهجم عليهن وتدمي أوجههن بأظافر طويلة تشبه المخالب تعدها لذلك اليوم حتي تسيل دماءهن، كان ثمة نار مشتعلة بداخلها ضدهن وهي تراهن ينفقن الساعات الطوال مع أمها يتصنعن المحبة والصداقة ويجملن القبيح وينهشن الغائبات ويقضين سحابات النهار معها والموائد والمشروبات تروح وتجئ وهن كالأميرات وما أن تعطيهن ظهرها حتي ينهشنها كنسور تجمعت في خلاء حول جيفة. كانت نوال تحب نعومة وتشفق عليها من نفسها الطيبة التي لاتري في الناس الا ما يريدونها ان تري منهم ،وكانت نوال تظن انها تكره نعومة لضعفها امام ابيها وامام الناس أجمعين، ولكنها حين كبرت أدركت انها تكره الضعف وليس أمها ، وأدركت ان تلك الطفولة القاسية هي التي صنعت منها نوال الكاشف التي لاتهزها ريح.
أحزان نعومة الكبيرة كانت تلك التي اعقبت ذلك ،فقد عاشت عمرها كله مع احمد الكاشف مستكينة قانعة بالظل والمناطق المظلمة وما يجود به عليها من وقت واهتمام حتي فقدت قدرة الانثي علي السيطرة ووضع الحدود ،احمد الكاشف كان طول عمره أنيقا مهتما بمظهره الذي يجسد هيبة موروثة لاسرة تتميز بالوسامة والحيوية الدافقة واضاف احمد الي ذلك الغني والصيت والعلاقات الواسعة والثقافة العميقة التي لاتقول ابدا ان صاحبها توقف قطار تعليمه دون الجامعة، وكانت طبيعة تجارته تحتم عليه التعامل مع نجوم المجتمع كواحد متميز منهم ،لذلك كله لم تلق نعومة بالا لتغيرات مهمة حدثت في حياة زوجها واعتبرت ذلك جزءا مهما من واجبات تجارته ولم يدر بخلدها أبدا ان احمد بات هدفا للطامعات ولم تتصور يوما انه سيفكر في غيرها أو ان تفكيره سيصل حد جلب ضرة لها، كانت تضحك حين تلمح الوداعية الي ذلك وينتهي الامر بالنسبة اليها كمزحة عابرة لاتتوقف عندها ،علوية الحنانة لاحظت وأدركت ولمحت وحذرت ولكن نعومة كانت لاتقبل شئيا من ذلك، حتي نوال أيقنت ان ثمة شئ ما يجري ، لم تكن صغيرة حين حدث ذلك الزلزال، كانت تلك أول سنة لها بالجامعة وكانت الجامعة تعج بقصص البنات الصغيرات اللائي يصطدن الرجال بحثا عن الامان وهروبا من مشاعر التلامذة التي تنتهي بالمشاوير الخائبة التي تنتهي بانتهاء الدراسة او ظهور المغترب أو (الخوة فرتك) بلا سبب. ولكن نوال لم تكن تتخيل ابدا انها ونعومة سيكن ضحية لاحداهن أو لشعور متأخر بالاهمال اجتاح احمد الكاشف ولكن ذلك حدث ، افقن سويا ذات صباح ليعرفن أن هناك أنثي ثالثة باتت شريكة لهن في ساعات احمد الكاشف القليلة . تباينت ردود افعالهن: نوال قررت ان هدفها القادم هو طرد الدخيلة طال الزمن أو قل، اما نعومة فقد تورمت عيناها من البكاء وظلت تحادث نفسها وتنظر الي وجهها في المرآة بلا انقطاع كأنها تبحث عن السبب فيما حدث في تقاطيع وجهها.
أما أحمد فلم يخالجه اي شعور بالذنب او بالحاجة الي تقديم تفسير ، كل ما فعله كان ان قام بتسجيل القصر الصامت باسم نعومة ونوال كتعويض وسلوي ومضي فخورا بنفسه كولي صالح قدم نفسه قربانا. قالت نوال لنفسها في تلك الليلة حين استعادت المشهد بكل تفاصيله : وجه أمها الشاحب ودموعها ووجه أبيها الجامد وهو يبلغها بتعويضه لها عن حياة كاملة(... الرجال يتصرفون دائما كالآلهة...يعتبرون أنفسهم كذلك وهم في الحقيقةمحض أشرار يا نوال....). في تلك الليلة عاهدت نوال نفسها بان تنتقم لنعومة وانها لن تسمح يوما لرجل مهما كان أن يطعنها في الظهر كما فعل أبوها بنعومة.
لم تعد نعومة كما كانت أبدا، كانت الصدمة كبيرة عليها أكثر مما تصور أي شخص، لاذت بالصمت وأكثرت من الدموع حين تكون وحيدة أو تظن انها كذلك في البدء، ثم أخذت في الانسحاب من حياة كانت محور أهتمامها كله، أعتكفت بالدار وقل خروجها وقل أهتمامها باستقبال زائراتها والتواصل معهن ، الي حد انها باتت تفضل البقاء بغرفتها وترسل من يعتذر عن حضورها ولم تفلح محاولات نوال في اقناعها بوجوب استئناف حياتها كأن شئيا لم يحدث حتي لاتتيح مجالا للنسوة الشامتات، كانت قبل ذلك سهلة القياد ميالة الي الأخذ بأراء نوال في كل صغيرة وكبيرة ابتداء من اختيار الثياب وانتهاء باخطر القرارات، لكنها بعد ماحدث باتت علي النقيض تماما عنيدة متحفزة وعدوانية ومعتدة برأيها وكأنها أدركت انها انما دفعت ثمن التسامح باهظا، شحب وجهها النضير سريعا وصارت الحنة الأنيقة في الأقدام الصغيرة محض آثار باهتة لاتدركها الا عين فاحصة وخبيرة. ثمة شئ ما أنكسر في داخلها فباتت تبدو أكبر سنا مماهي حقا وباتت زاهدة في أشياء كثيرة كانت تتعلق بها وتشكل محور حياتها وازداد اهتمامها بجوانب أخري من حياتها ، أزدادت نزعتها الروحية أكثر من ذي قبل وأصبحت الصلاة عندها صلوات مستمرة متقاربة حتي ظنتها نوال تصلي صلاة مستمرة بلا توقف فكلما دخلت عليها لتحادثها وجدتها مستغرقة في صلاة أو دعاء،كانت علوية الحنانة هي الوحيدة القادرة علي استعادة نعومة التي كانت حين تجئ فقد كانت نعومة تحبها محبة خاصة وكانت علوية تعرف كيف تخرجها من دائرة صمتها الي دائرة الحوار والممازحة، حينها فقط كانت نوال تشعر بان نعومة مازالت كما هي أصلا شاحبا لكنه مطابق للصورة.
القي عاصم بكل ثقله باتجاه الظفر بنوال الكاشف، وضع كل خبراته السابقة وكل حياته قبلها جانبا وعاد مراهقا صغيرا يفعل المستحيل من أجل الحصول علي كلمة أهتمام صغيرة أو ايماءة أو ابتسامة، كان منجذبا الي عالمها كمجذوب في حلقة ذكر، وجد نفسه رويدا رويدا يصبح شخصا آخر جديدا عليه كل الجدة، ودودا ولطيفا وساعيا الي خطب ود الجميع كأنه مرشح يسعي لكسب أصوات الناخبين في زمن وجيز، كانت دائرته هي عالم نوال وكل من وما تهتم به، طول عمره كان يفخر بأنه هو قائد سفينة عشقه الذي يقرر متي شاء تركها في عرض البحر والقفز منها الي زورق من زوارقه الصغيرة ولكنه في هذه المرة خالف كل تقاليده وبات السفينة التي تقاد ولاتقود، والغريب انه كان راضيا بالتحول في موقفه ومدركا له، كان يجتاحه شعور غريب بان نوال الكاشف هي السفينة الاخيرة التي بمقدورها ان تقوده الي ضفة آمنة وأنها تمثل فرصته الاخيرة للعودة الي دائرة الناس العاديين التي خرج منها منذ زمان بعيد، كانت مشاعره نحو نوال شئيا غريبا ككل شئ في حياته، كانت بشكل ما تمثل له الأمومة المفقودة في حياته، كان في يقظته ومنامه يشعر بأنه في حاجة الي تلك الأمومة الكامنة فيها: ضحكتها، تلقائيتها، اهتمامها عندما يتكلم الاخرون وقدرتها علي سحر البابهم عندما تتكلم، كانت أمرأة مهرجان، عاصفة لطيفة في كل مكان حلت به وسكون متآمل وممتلئ بصورتها وحضورها الطاغي حين تغادر، كانت قادرة علي جعل الكل يتعلق بها ويشعر بها بصورة خاصة ويتملك كل حاضر أحساس غريب بأنها تخاطبه وحده بلغة خاصة غير مرئية للاخرين، كان أكيدا أنها تحتل الصدارة في احلام الرجال والصدارة في همس النسوة .مع مرور الزمن اكتشف عاصم انها وسط مئات المعارف المحيطين لها صديقة أثيرة واحدة هي ندى. لهذا السبب بات عاصم شخصا مختلفا مع ندى فقد كان يدرك ان نصف الطريق الي قلب نوال يمر عبر انطباعات ندى عنه وكان يعرف بطريقة ما ان ندى لا تطيقه وان من الصعب عليه تغيير ذلك الانطباع ولكنه كان لايزال يملك بقية من ثقته القديمة بقدرته علي صنع انطباع معين يرغب في صنعه متي أراد ذلك.
لم تكن مسألة اكتساب ثقة ندى هي العقبة الوحيدة في طريق عاصم، فقد كان ثمة عقبة أكثر صعوبة،كان ثمة منافس لايقل بريقا وشهرة وضجيجا عن نوال الكاشف،رجل اجتمعت عنده الوسامة والأصل العريق والمال والموهبة الشخصية والشهرة والسن التي تخطف ابصار النساء الصغيرات كنوال الكاشف،كان محمود المغربي سليل أسرة امدرمانية معروفة وكاتبا صحفيا لامعا تنقل في عدة صحف صحفيا ورئيسا للتحرير وكان الي ذلك صاحب نشاط واسع في كل تجمعات العاصمة الثقافية والادبية وضيفا دائما للبرامج الثقافية في الاذاعات والمحطات التلفزيونية وجمع الي ذلك نشاطا اكاديميا في جامعة كبيرة، لذلك كان أسمه علامة تجارية ليست بحاجة للتعريف بها ، أشتهر الرجل بسمعة فوق الشبهات وحلاوة المعشر وكونه نصيرا للكتاب الشباب ومشجعا لهم وقريبا منهم وكان محط أحلام صغيرات كثيرات كن يجاهرن بأعجابهن به وغيرتهن من تلك التي أدخلته القفص باكرا مكتفيا بها عنهن، لم تكن زوجته معروفة في الأوساط الادبية مثله ولكن مجالس النميمة بين مرتادي النوادي الادبية كانت تتحدث عن حب قوي يربط بين الزوجين برغم انقضاء سنين عديدة بلا ذرية لاحت في الأفق، كان ذلك الهمس يعطي الرجل بعدا سحريا آخرا ويجعله هدفا مثاليا لبعض المشفقات اللائي يظن أنهن يملكن مسح دموع اليتيم الكبير، لم يكن كل هذا يهم عاصم في شئ لولا تلك العلاقة المتميزة لنوال الكاشف بمحمود المغربي، كانت علاقة عادية جدا مثل أي علاقة تربط بين شخصين تضمهما اهتمامات مشتركة ومدينة واحدة وصلة قرابة بعيدة ولكن عاصم كان قادرا علي ان يري ويشعر في عيني نوال أكثر من تلك الاشياء العادية....كان يري تحت الرماد وميض نار!!
كان أحساس عاصم تجاه محمود المغربي في محله بطريقة ما فقد كان محمود المغربي بالنسبة الي نوال شجرة ظليلة في هجير لافح ، كان الرجل الذي طالما حلمت به وانجذبت نحوه وشعرت بضعفها كأنثي تجاهه في حضوره وغيابه، كان قادرا دوما علي ان يحتويها ويشعرها بالامان والدفء، كان حين يكلمها لاتستمع الا لصوته ويغيب كل من عداه عن ناظريها وحين تكلمه يتمرد لسانها علي كل محاذير عقلها وتتحول بقدرة قادر الي نهر متدفق بكل الاسرار وتمسي طفلة ثرثارة راغبة دوما في أثارة الانتباه وكان قادرا علي الأصغاء بقلبه وأذنه ومشاركتها في كل التفاصيل ..كانت نوال في حضرة محمود مثل من عاد الي البيت بعد غياب طويل وأهوال جسام جائعا الي الطمأنينة والحضن الدفئ...وكانت حين تتذكر أول مرة وجدت نفسها في ذلك الحضن الدفئ تعتقل اللحظة الهاربة وتود ايقاف الزمن عندها الي الأبد... كانت تتدفق بالحكايات وهو يستمع مندهشا ومنفعلا معها حتي وجدت نفسها بغتة تجهش بالبكاء وتغلي كالمرجل وهي تتذكر ذلك الذي انتهك براءتها وهي لما تزال بعد طفلة، أخذث ترتجف وتسارعت أنفاسها وسالت دموعها من مكان ما كنهر صاخب وهائج في الدميرة ولم تفق الا وهي بين ذراعي محمود ويده تمسح علي شعرها برقة أب لم تتذوقها أبدا... استكانت في صدره وهي ترتعش في الدواخل وأحاسيس متناقضة تجتاحها : شعور بالغضب... شعور بالهلع.... شعور بالخجل وشعور بالتحدي... وشعور يشبه شعور المريض عند الاحساس بخروج الحمي من الجسد... لم يقل محمود شئيا ... فقط ضمها اليه أكثر وأخذ يمسح شعرها برفق ويدنيه الي أنفه ويتشممه بلطف ويدعوها للبكاء حتي يخرج الحزن أثقاله فلم تتوان عن البكاء كمطر أواسط الخريف والمكان ساكن الا من صوت نحيبها وضربات قلب لايسمعها سواها ولكنها تسمعها كصوت طبول.. وبغتة هدر صوت محمود في ذات اللحظة التي شعرت فيها بدموعه ساخنة تسيل علي يديها فرفعت رأسها اليه مندهشة فوجدت وجها صغيرا باكيا وسمعت صوته وهو يحكي لها أنه تعرض لذات الألم صغيرا... كان طفلا غريرا حين تركوه في ضفة النهر مع ذلك الوحش الذي كان يمت اليه بصلة قرابة لم تردعه عن جعل الصغير موضوعا لشهوة مريضة...حكي لها وهو يستدعي الألم عن منظر الدم وكل ذلك الألم وذلك الشعور الفظيع بالمهانة واشياء اخري غامضة... ثم انهار الرجل الجبل باكيا وقال لها من بين دموعه انه عاد مرعوبا وخائفا ولم يخبر أحدا... ولكنه لم يعد قادرا علي فعل يستدعي ذاكرة الألم ،اجهش بالبكاء وهو يصرخ في وجوه اشخاص غير مرئين : لم تركتموني وحيدا بين يدي الذئب؟!!
هكذا كان قدر محمود المغربي ونوال الكاشف ....
غريبين في زحام البشر، جريحين وغاضبين ويملؤهما شعور مجنون بالرغبة في الانتقام لبراءة سليبة ولكنهما بلا سلاح سوي الغضب ، لهذا السبب هفت نفسها الي محمود المغربي وشعرت انها المسؤولة الاولي عن مسح دموعه ومواساته وربما الثأر له بطريقة ما، وشعر محمودالمغربي بان دموعه ودموعها نبعا مثل النيل من ذات المنبع وشقا ذات الصحاري في طريقهما الي المصب واجتاحه شعور ما بانها طفلته الضائعة في تلك الظهيرة عند ضفة النهر... كان منجذبا اليها بمزيج مشاعر غريبة لم يعرفها قلبه من قبل... ان تشعرك أمرأة بانك مكتمل الرجولة ليس أمرا مثيرا للدهشة ولكن الدهشة سببها ان ذات الانثي تشعره بأبوة لم يتذوق لها طعما وتشعره بطفولة عمل عمره كله علي محوها من الذاكرة....والدهشة تسقط أسيرة للدهشة حين تجده مندفعا في البوح بكل أسراره التي أخفاها عمرا، كان مدفوعا برغبة غريبة في التجمل بالحقيقة لم يعرفها الا مع نوال الكاشف.... وكانت هي الأخري تمارس لعبة التجمل بالحقيقة في حضرة رجل وسيم حزين تقضي نصف نساء المدينة وقتهن حائرات في سبب حزنه راغبات في كفكفة دموعه وتزيين حياتهن به .
بين نوال الكاشف ومحود المغربي وجد عاصم نفسه نملة تحت اقدام فيل، فلم يكن يملك من المميزات ما يؤهله لمنافسة محمود علي قلب نوال التي كانت منجذبة نحوه بقوة جعلتها تمارس فظاظة ظاهرة مع عاصم في مناسبات متعددة ولم يكن عاصما راغبا في دخول مواجهة مماثلة يعرف نتيجتها سلفا فقد كان يعرف جيدا ان المرأة حين تحب مثل ( المكتولة لاتسمع الصيحة) وكان واثقا تماما انها تحب محمود المغربي ولن تحول بينها وبينه زوجة ولا عاشق يطاردها بمعسول كلام...فقط لم تك تدري ان العاشق مثلها في عشقه وعناده ولن يحول بينها وبينه محمود أو غيره.وكان يدرك ان الطريق لابعاد محمود عن طريق نوال يمر بمحمود نفسه ولايمكن ان يمر بغيره، كان يعرف ان أي محاولة لاقناع نوال بعدم جدوي حبها لمحمود ستزيدها عنادا وتصلبا الا اذا جاءت من محمود نفسه وان خير وسيلة للضغط علي محمود هي زوجته وان اقرب طريق للوصول للزوجة هو النساء وثرثرتهن التي لاتخلو من كيد واختلاق واضافات ..مستعينا بدفتر عشيقاته السابقات وشبكة علاقاته النسائية الواسعة بدأ عاصم في احكام انشوطته علي محمود المغربي دون أن يظهر في الصورة مطلقا،ففي الوقت الذي حافظ فيه عاصم علي علاقته مع نوال متظاهرا بمودة كاذبة واحترام وحب زائفين لمحمود المغربي كان يحيك خيوط حملته السوداء ضده بصبر وحرص حتي باتت مجالس المدينة لاتعرف سيرة تلوكها سوي سيرة محمود ونوال والزوجة المسكينة التي لاتدري شئيا والتي وجدت في لحظة ما من تبرع بنقل الاخبار اليها..توترت أوضاع محمود في محيطه العائلي وتوترت علاقته مع نوال ولم يفت علي نوال التغيير الذي طرأ عليه وتلك الرغبة الدائمة في تحاشيها التي لم تفهم لها سببا في البدء ثم جاءتها علوية الحنانة بخبر يقين عما يدور في مجالس المدينة ويقال همسا ورمزا. حينئذ تذكرت نوال حال نعومة حين كانت النسوة يلمحن لها وهي تتجاهلهن وتذكرت شريط الاحزان العائلية الخاصة بها وسألت نفسها: هل تغيرت المواقع فبت يا نوال الجلاد بعد ان كنت الضحية يوما؟ تملكها غضب جامح حين رأت نفسها تبدو الجلاد في أعين النسوة فهي لم تسع يوما للزواج بمحمود ولم تفكر يوما في انتزاعه من بيته، كانت تعرف بداخلها انها متورطة عاطفيا معه بشكل ما ولكنها لم تفكر ولم تصرح له او لغيره يوما برغبتها في العيش معه او اتخاذه زوجا فقد كانت تعرف ان ذات الألم الذي وحدهما وقرب بينهما سينتصب في وجه سعادة مشتركة يمكن عيشها، كانت تريد رجلا ينسيها جرحها لا رجلا تتقاسم معه جرحا، كانت تعرف ان من تعيش معه حياتها لن تسمح له ابدا بتسلق اسوارها الداخلية وان من يتسلق تلك الاسوار لن يصلح شريكا لحياتها. فهمت نوال بغريزة الأنثي فيها أن الهمس مثل النار لابد له من مشعل ومحرض عليه وأن من اشعل تلك النار أما انه زوجة محمود نفسها أو انه شخص له غرض وثأر مع نوال نفسها وفي الحالين فان من يلعب بالنار مع نوال لابد من انها ستحرقه.... قالت نوال لندي بصوت غاضب وهي تحكي لها محنتها: أيا كان من أطلق هذه الدعاية السوداء فسوف يدفع الثمن غاليا...
صمتت ندي طويلا وهي تستمع الي كلمات نوال الغاضبة وسرحت في البعيد، تذكرت تلك الايام التي كان عاصم يلاحقها فيها باصرار صياد يلهث خلف فريسة يعلم ان قواها ستخور حتما في النهاية وستسقط في براثنه بعد ان ينهكها الركض المستمر، تذكرت كل السيناريوهات التي لجأ اليها عاصم للوصول اليها بما في ذلك الدور الذي لعبته رشا
التي توهمت ان بمقدورها ان تلعب دور الملاك وهي في الحقيقة شيطان ناعم يسعي لتقديم فريسته علي طبق من ذهب لرفيقه، لم يفتها شئ من ذلك ولم يفتها ملاحقة عاصم لها عند مشارف نادي القصة والمنتديات الادبية، كانت تدرك ذلك وتتظاهر بعدم الملاحظة وعدم الانتباه ، وحتي حين وقع صيادها فريسة لاعجابه بنوال الكاشف لم يفت ندي ملاحظة ذلك ، كانت في اعماقها سعيدة كأنثي بملاحقته لها برغم اقتناعها بأنه ليس ممن يروقون لها وايمانها التام باستحالة دخولها معه في اي علاقة من أي نوع، لكن ملاحقته كانت ترضي غرورها كأنثي ويسعدها ان يلاحظها الاخرون ويدركوا كم هي زاهدة فيه،ولكنها لم تستطع ان تغالب ضيقا حل بها حين لاحظت تحول اهتمامه تماما الي نوال الكاشف، كان ذلك يرجع بصورة أساسية لكون نوال ظلت دائما هي التي تجذب الاضواء وتسحبها ممن حولها ارادت ذلك ام ترده وكانت ندي طول عمرها ترفض لعب دور الوصيفة ونبات الزينة،كانت تعلم بحدسها كأمرأة وبتجربتها مع ملاحقة عاصم انه هو دون سواه وراء الحملة السوداء ضد نوال ومحمود ولكنها لاتستطيع ابدا ان تقول لنوال تصريحا او تلميحا ذلك ولهذا لاذت بالصمت. كانت نوال تعرفها كراحة يدها فلم تفتها ملاحظة ان في صمت ندي ارتباك ظاهر، فقالت لندي بصوت حازم: )ندي....ان كنت تخبئين عني شئيا تعرفينه فلن اسامحك أبدا ...مهما تكن أسبابك..)
قالت ندي بصوت حاولت بكل قوة في داخلها جعله طبيعيا: ( ولماذا اخبئ عنك يانوال؟ ومن أين لي ان اعرف؟ أذا كان السبب صمتي وتفكيري فذلك سببه اشياء اخري بعيدة عن هذا الموضوع... بلا مناسبة تذكرت عاصم واصراره الغريب علي ملاحقتي وفتور ذلك الاهتمام فجاة حد التلاشي.... دنيا. ) ضحكت نوال وقالت لها: (ما بك؟ هل أعدت التفكير بعد ما طار العصفور؟ ) ضحكت ندي وقالت : )عصفور؟ قولي النسر....قولي أي شئ الا العصفور.. (
ضحكتا حتي اغرورقت عينا نوال بدموع ضاحكة....همست ندي لنفسها: ليتك تذكرين وتربطي بين شكواك وتذكيري بعاصم بلا سبب...ليتك تفهمين يا نوال.
نوال الكاشف لم تكن غافلة عن عاصم كما ظنت ندي، فنوال لم يكن من بين عيوبها الغباء أبدا، منذ الوهلة أدركت في اعماقها أن عاصم يشتعل بغيرة شديدة منذ برز محمود في المسرح أمامه، ولم يفتها أبدا ملاحظة مظاهر تلك الغيرة ولم يفتها الجهد الذي يبذله عاصم لاخفائها، في البدء سعدت كأي أنثي بتلك النار تحت الرماد وعملت علي استغلالها لاقصي حد في بسط سيطرتها علي عاصم، كان ثمة شئ غامض في داخلها جعلها ميالة الي معاملة من يتودد لها من الرجال بغطرسة كانت تدرك أنها تجعل بعض الرجال أكثر تذللا اليها بحيث تسهل قيادتهم من(أضانهم) حيث تشاء حسب تعبير معلمتها الأثيرة (علوية الحنانة) وكانت تدرك ان قول علوية ليس هو مصدر تلك الرغبة في داخلها بل الحقيقة انه صادف هوي في نفسها لانه وافق عقيدة مستقرة هنالك منذ أول تجربة ترويض خاضتها مع حامد السائق، كان كل الرجال عندها حامدا بهئيته المزرية وقوته التي لم يستخدمها الا في الخفاء في مواجهة طفلة لم تك تدري شئيا سوي أحساس بالألم وبالقرف من تلك اللمسات السياط التي لم تملك لها ردا، كم كانت تشعر بالاحتقار لذاتها وكم كانت تنزوي في ركن بعيد تنفق الساعات بعيدا عن العيون خجلة من شئ لاتدرك كنهه. ذلك أحساس ظنت انه سيفارقها فور انتصارها الكامل علي حامد ونجاحها في طرده شر طردة من محيطها، لكنه ظل يسكن دواخلها ويبرز لها في الظلمة والصحو بين الفينة والأخري مستدعيا معه ذات الشريط القاسي .ومابين حامد وعاصم كان ثمة تجارب صغيرة متباعدة في حياة نوال الحافلة بالضجيج، كانت تفضل دائما ان تكون هي الفارس الذي يمسك بمقود المهر لا المهرة التي يتم ترويضها، وكان معظم من اعترضوا سبيلها يهربون من الأنثي التي تريد مشاطرتهم القيادة هروب السليم من عدوي فتاكة، ولم يكن هربهم يزعج نوال فقد كانت دائما هي من يدفع الامور الي نقطة اللاعودة تلك عن سابق تصميم وباصرار قصاب يتفحص شاة قبل الذبح. كانوا كلهم عندها سواء، فهم اما حامد الذي لايسمع له صوت في حضرة سادته ويمسي وحشا له انياب علي طفلة لاحول لها، أو مثل ابيها يذبحون ضحيتهم ويدفعون ثمن الدم أساورا أو قصرا خاليا. اما هي فقد أقسمت لنفسها انها لن تكون الطفلة التي كانت ولن تكون نعومة التي دهست وسار مدعوو حفل الزفاف علي عظامها المتكسرة دون شعور بالذنب، نوال لن تكون هذه ولا تلك، ولهذا السبب كانت نوال تري ذلك الوحش الكامن داخل عاصم حتي قبل ان يخرج في أي صورة من الصور، كانت تدرك بحدسها. ان هذا الرجل يحمل مجموعة من الاحزمة الناسفة بداخله وفي كل شبر من جسده وكانت تدرك انها أذا لم تنجح في السيطرة عليه وتوجيه متفجراته في الوجهة التي تريد فستكون أول ضحاياه.
كانت تدرك بطريقة ما ان اهتمامه المرضي بندي في البدء وتلك الملاحقات المملة لها وذلك القناع علي وجهه، كل هذا هو في الحقيقة كرة من النار تشتعل وتبحث عن مكان صالح للانفجار فيه، وكانت تدرك أن كرة النار وجدت فيها مسرحا أكثر خصبا لانفجارها المرتقب ، فكف صاحبها عن ملاحقة ندي وبات متيما بها فجأة بلا مقدمات، كانت تدرك انها تواجه جبلا من المتفجرات وأن حياتها باتت علي المحك. ولهذا كله كانت تشك في أن عاصم هو من يقف وراء الحملة السوداء ضدها وضد محمود المغربي فهو الوحيد الذي يستفيد من الشائعة. وزادها رد فعل ندي علي اختبارها الصغير ايمانا بدقة اختبارها.
كانت نوال تعرف عن عاصم كل شئ، تفاصيل وحكايات يشيب لها الولدان، تفاصيل لم تخطر علي بال ندي حين رفضته مطلقا، تفاصيل يظن صاحبها انها في حرز أمين وان الناس لايعرفون عنه الا ما يسمح هو بمعرفته ولايرون من صورته الا الجانب الذي يريدهم ان يروه، لكن الخرطوم مدينة لاتعرف الاسرار وعلوية الحنانة لم تعد تكتفي ب(هنا امدرمان) بل أمتدت شبكتها الاخبارية لتشمل المدن الثلاث بالتزامن مع اتساع نشاطها بتنقل زبوناتها بين المدن الثلاث، سألتها نوال عن الطبيب الوسيم العازب وسر امتناعه عن الزواج ومصادر ثروته، ردت علوية بثقة انها لاتعرف عنه شيئا ولكنها سوف(تجيب خبرو). ولم تمض سوي ايام قليلة وكان الملف الاسود لعاصم بين يدي نوال كاملا .كانت علوية تروي الحكاية بتلذذ لايخلو من دهشة وهي تقول لنوال:(دا شيطان ما راجل يانوال) تقول الروايات في المدينة أنه كان لايزال طالبا بكلية الطب حين مارس الاجهاض بمقابل لأول مرة، كان مطلوبا منه انقاذ صديق في ورطة مع بنت من علية القوم لايحتمل اهلها دوي فضيحة، كانت البنت تبكي والصديق يرتجف ، لكن عاصم كان يبتسم ويحدد ما يطلب ببرود طبيب يمارس عملا مشروعا في عيادة أنيقة. انتهت القصة بسلام وخرج عاصم منهابشهرة خاصة في أوساط ارستقراطية تتداول اسمه همسا كما تتداول الممنوعات.
خرج المارد من قمقمه وبات غولا لايشبع وحين أكمل دراسته كانت معالم حياته واضحة بالنسبة له، اختار تخصصا مارسه سرا قبل الاكمال حتي يمتلك غطاء مشروعا وتزايد الرصيد في البنك وتبدلت السيارات وتبدلت العشيقات معهن وغوله لايشبع وأكثر ما يستهويه هو الباب المغلق او المستعصي...كان يري في كل باب مغلق مشروع سلوي أخري تتحفز لاهانته علنا فيستنفر كل قواه للقضاء عليها ودك حصونها. قالت علوية لنوال وهي تختم شريطها الاخباري: (الما بخاف الله خافي منو يا نوال....الزول دا سلط عليك بنات حواء في موضوع محمود من بعيد لي بعيد...وكان دايرا نصيحتي الزول دا ما تجيهو بي وشك..خلي وشك طبيعي وولعي فيهو النار من بعيد زي ما عمل..العين بي حسين.. (.
كانت شمس عاصم علي وشك المغيب، فنوال الكاشف لاتترك موضوعا معلقا أبدا فقد اعتادت منذ الصغر الا تترك خلفها عملا لم ينجز، كانت تقول دوما(انا الحاجة ولاالزول البختو في رأسي الله قال بي قولو). كان حامد هو مهمتها الاولي التي أكملتها بنجاح ولو بعد حين. ومن الغريب أن نوال ظلت دوما ترفض المبادرة وتكتفي برد الفعل علي فعل سابق ومبادرة مؤذية تجعل من أقدم عليها هدفا مشروعا. كانت بطبيعتها مسالمة لأبعد الحدود ولكن تلك الطبيعة تخفي تحتها براكين ثائرة تنتظر ساعة صفر لكي تبدأ بقذف الحمم. لم تكن تستمتع ببركانها الكامن أبدا، بل كانت تكره أضطرارها الي اللجوء اليه بين الفينة والأخري. كان يوقظ فيها نوال الأخري التي لاتحبها ولاتعرفها ولاتود أبدا ان تكونها لكنها مضطرة للتعامل معها والافساح لها. كانت تتوق دوما الي حياة كان من الممكن ان تكون حياتها، حياة لاتضطر فيها الي تبديل الاقنعة والثياب في كل صباح بل عشرات المرات في اليوم، حياة ليس فيها حامد ولانعوم الشاحبة في صمت والعاجزة عن الدفاع عن بيتها وحياتها، حياة ليس فيها النسوة آكلات لحوم البشر المحيطات بنعومة أحاطة أصلة بفريستها تظل تلتف حولها والضحية غافلة حتي تتمكن الأصلة من تكسير عظامها وتهشيمها. كانت حياة لا تملكها هي حياتها، حياة قائمة علي توفير كل شئ لها مقابل حرمانها من كل شئ. كان كرم أبوها مع نعومة هو ذاته كرمه معها: المال مقابل غياب العاطفة الطبيعية، الصمت والنقود بديلا للضحكات الطليقة والحياة الدافئة. كان كل شئ في حياة أبيها صفقة أو قابلا للتعامل معه كصفقة ولم يدر أبدا انه كان الخاسر الأكبر دوما وان كل خبراته في عالم المال لم ولن تسعفه لترميم ماهدمه في حياته.
نوال كانت هي من دفع الثمن طوال حياتها لأعتقاد ابيها ان كل شئ يدار مثلما يدار دكان في سوق أمدرمان بأبتسامة مصنوعة ولطف زائف هدفه الوصول الي نقود الزبون وتحقيق الربح وأزدحام الرفوف ببضاعة جديدة،كان أبا تتمني أبوته كل بنات أمدرمان إلا هي بنته الوحيدة من صلبه وفتاته المدللة التي لايبخل عليها بشئ ولو طلبت لبن الطير لأحضره لها بين إغماض رمش وفتحه، وحدها كانت ترفض أبوة لم تجد منها إلا القشور: الصيت والجاه والحياة المرفهة والطلبات المجابة ، ولكن الأبوة نفسها كانت غائبة في ذلك المكان الأثير لديه وتلك الاقنعة الموزعة بالتساوي علي حياة ظلت هي ونعومة علي هامشها وجزءا من قطع الاثاث فيها مهما بدا غير ذلك. كانت نوال متنازعة بين عواطف شتي بشان أبيها، فهي لاتستطيع أبدا ان تنكر حنانه ومحبته لها وتلك اللحظات النادرة التي يغدو فيها طفلا معها ويلاعبها بلا انقطاع، لكنها سرعان ما تتذكر لحظات أخر تركت فيها وحيدة تعيسة يتحكم بمصيرها فيها أناس أمثال حامد لايتورعون عن الايذاء، ولحظات أخر رأت فيها دموع نعومة تختلط بالمياه المندفعة من حنفية البيت وتندفع نحو الشارع، كانت حين تهبط من السيارة تنظر الي المياه المتدفقة الي الشارع وتتساءل ببراءة كم يبلغ نصيب نعومة من الدموع فيها؟! لم تكن تملك أجابة سوي ان تركض مسرعة الي احضان نعومة الحبيسة وحدها في القصر الصامت الكئيب.
كانت تستطيع ان تغفر اشياء كثيرة لكن دموع أمها كانت شئيا لايغتفر. كانت وهي طفلة تسأل المعلمة همسا وهي تركض خلفها بعد انتهاء حصة التربية الاسلامية: (هل تدخل البنت التي تكره أبيها النار ااستاذة؟) ضمتها المدرسة اليها ومسحت علي شعرها بحنان وقالت لها بلطف: (الاطفال لايذهبون النار يا نوال.( فتقول هي بأصرار: (هل يقبل الله ان يكره الطفل ابيه؟) تقول لها الاستاذةباسمة: )الله لايحب الكراهية ولكن الاطفال يغضبون ولايكرهون...لاتشغلي بالك يانوال...الغضب لايدوم طويلا.. الغضب ضيف عابر).
..) لكن الغضب لم يكن ضيفا عابرا ابدا كما ظنت استاذة سعاد، والغضب صار كراهية يا استاذة والطفلة لم تعد طفلة والسؤال يبقي قائما دون حوجة للاجابة، لم يعد السؤال هل يقبل الله كراهية الاباء؟ بل بات السؤال هل من حق المذبوح ان يكره السكين ام لا ؟) .
سالت دمعة علي الخد وعادت نوال من كهفها الي اللحظة الراهنة، كان عاصم سكينا أخري حادة تريد ان تنال منها وتلحق بها الأذي ولكن لسوء حظه وجد الحمامة قد أمست نسرا يعرف كيف يهاجم عدوه ويسمل عينيه قبل ان تدركه حافة سكينه، نعم لم تعد الحمامة قابلة للذبح من جديد ولم تعد غريرة تسلم نفسها لقاتلها راضية كما كانت تفعل في السابق.(جاء دورك لتصبح الحمامة ياعاصم).
لم تخلف نوال الكاشف وعدها، وأطلت كل الصحف في الخرطوم ذات صباح حاملة خبرا واحدا عن أكبر عملية مداهمة تمت لعيادة طبيب مشهور احترف عمليات الاجهاض غير الشرعي ونتائج المداهمة المذهلة، كان الباعة الصغار يصرخون في مواقف الحافلات بالنبأ بلهجات مختلفات ومضمون واحد والايدي تتخاطف الصحف الناشرة رغبة في التهام السطور واشباع الفضول. وفي مكان آخر كان عاصم جالسا في سكون يرقب الزلزال الذي لم يكن في حساباته يوما انه سيحدث، كانت معاونته وكاتمة أسراره شادية جادين منهارة تماما وهي تتبرع بالاسرار في كرم يفوق كرم الطائي في زمانه والمحققون لايكتمون سعادتهم بسقوط صيدهم الثمين بل يبدون شماتة واحتقارا يكشفان غلا قديما في الصدور ، غلا لم يجد له سببا في البدء ولكنه فيما بعد في ليالي السجن الطويلة والونسات مع السجناء أدرك أن الناس بطبعهم يسعدهم سقوط الكبار ويشعرهم بالراحة والتفوق والرضا عن حياتهم البائسة. هو لم يشعر ابدا بالعار أو بالندم ، كان رد فعله مدهشا وغريبا وهو ينظر ببرود الي الجنود وهم يبحثون في أدراجه ودواليب عيادته ودورة المياه فيها عن أدلة وبراهين تؤيد فعلا لاينكره ولاينكر قيامه به، بل يري فيه فعلا نبيلا قدمه راضيا لفتيات تاعسات يدفعن ثمن قصور اجتماعي ومفاهيم مغلوطة سائدة، كان يري نفسه بطلا يمارس عملا مقدسا في زمن انتهي فيه المنقذون والمشفقون والابطال، صحيح انه كان يأخذ أجرا لكنه كان ضرورة لاغني عنها ليتمكن من تقديم خدماته لمن لايملكن الثمن خصما علي من يملكن الثمن ، ضحك المحقق بسخرية وقال له: تظن نفسك ارسين لوبين تأخذ من الاغنياء للفقراء..هل تظنني طفلا لاصدق هذا الهراء؟! رد عليه ببرود: أنا لم أسرق من أحد شئيا حتي تصفني بارسين لوبين، أنا كنت أقدم خدمة طبية بمقابل لمن يستطيع دفعه وبلا مقابل لمن لايستطيع.
عبس المحقق وقال وهو يشير الي اللابتوب الصغير الذي بات ضمن أدلة الاتهام: وبماذا تفسر الافلام الموجودة هنا؟ هل هي خدمة طبية لشادية جادين والأخريات؟!. كان يملك اجابة لكنه فضل الصمت فلم ينبس ببنت شفة. طول عمره كان يسكنه شعور بالتفوق علي الاخرين وانه يملك عقلا حادا كالمدية لايستطيعون فهمه ومجاراته وفي هذه اللحظات التي شعر فيها الاخرون بالتفوق عليه أزداد شعوره بالتفوق عليهم في داخله وتعزز أكثر. ظل يراقبهم صامتا وهم ينقبون في خصوصياته وكل اركان مملكته الصغيرة، حتي السراميك خلعوه بحثا عن أجنة متوهمة وأطفال مؤودين. أنتابه ذات الشعور الذي ينتابه وهو ينحني علي مريضة من مريضاته ليخلصها من عذابين في وقت واحد : عذاب الجسد الذي يحمل وثيقة ادانته وعذاب الروح الخائفة من الاسلاك الشائكة وردود فعل المجتمع، كان شعوره بانه ملاك الرحمة المرسل لغسل عذابات البشر يتمدد ويتضخم في مثل تلك اللحظات فيجد نفسه يهمس بصوت خافت ( لاتخافي يا صغيرة... دقائق قليلة وتعودين كما كنت نقية من كل الأوساخ.... دقائق قليلة ويزول كل شئ....) كان صوته خافتا ، لكن ناره الكامنة كانت تزداد ضراوة في تلك اللحظات، يتصبب عرقا في الشتاء...تلتمع صورة أمه من مكان ما... باكية حزينة... صوت أبيه كالكرباج يهبط علي ظهرها العاري.... يصرخ صوت في داخله: (ياللنساء الغبيات، الحمل العذاب، التعب، العار، العذاب) تزداد حركة أياديه سرعة وهو يسابق دورة الحياة حاكما عليها بموت رحيم يراه أفضل من جحيم يعرف جيدا كيف يكون. كان يصرخ لنفسه حين تراوده الكوابيس وصوت أبيه:
(لست مثلكم فلاتطلبوا مني أن أكون مثلكم...لا أتكلم اللغة التي تتكلمون ولا أعرف ما تعرفون....لن تفهموا أبدا أيها الاغبياء).
كانت رحلة قصيرة بحساب الزمن هي الفاصلة ما بين الحرية ومجتمع علية القوم والبريق ومجتمع السجن والفضيحة أم جلاجل كما سماها البعض، بالنسبة لعاصم كان الأمر أشبه بانتقاء بلكونة خاصة في مسرح البولشوي في قلب موسكو ومتابعة عرض من عروض الأوبرا التي يحبها، تلك الاصوات الغليظة وأنهار الموسيقي المصاحبة وحركات الممثلين الراقصة، غائبا عما حوله، محاولا عبثا متابعة الموسيقي والكلمات ، هكذا كان يراقب المشاهد التي توالت بعد المداهمة :الاسئلة الكثيرة للمحققين، كاميرات الصحافيين، نظرات التشفي في وجوه كثيرة، دموع صادقة في وجوه يعرف أصحابها ووجوه أخري بالكاد يتذكر أنها مرت عليه من قبل، كان التوتر والانفعال سيد الموقف عند الجميع الا عنده هو: كان هادئا ومستمتعا بالضجيج كمن يشاهد عرضا مسرحيا شاهده مرات عديدة حتي باتت ضحكته تسبق المشهد والعبارة، كانت الجوقة كلها لاتعنيه في شئ، كان قد هيأ نفسه منذ زمن بعيد لتلك اللحظة ، لذلك كانت ردة فعله ردة فعل من لايعنيه ماحدث ولايخشي عواقبه الي درجة أن المحقق المتحمس الغليظ العبارة راودته مخاوف وشكوك قوية وقال لنفسه (الرجل كالجبل ، إما انه مسنود بقوة كبيرة أو انه مختل تماما برغم صيته الكبير....) وتغيرت معاملته لعاصم ، صار ينتقي عباراته معه بدقة ويرسم ملامح محايدة وهو يفور كبركان في دواخله. لم يفت علي عاصم ملاحظة ذلك فازداد استمتاعه بالمشهد،كان معتادا علي مراقبة سلوك الناس اثناء الازمات بلذة خاصة، أنفعالهم الشديد ومحاولات التماسك الفاشلة، دموعهم التي يخفيها البعض بالاستدارة واعطاء الظهر أو مغادرة الغرفة الي الهواء الطلق أو علو الصوت، خوفهم البادي في تسارع ضربات القلوب حتي تكاد تحاكي بندول الساعة، قنوطهم الذي يخالطه رجاء،، أستعدادهم لدفع كل شئ في لحظة ما ، ثم عودة العقل بعد الاطمئنان علي من يحبون واستعادتهم شهوة المساومة وعقد الصفقات الناجحة، وكان هناك دوما آخرين مختلفين في كل شئ: صوت هامس ورجاءات غير منطوق بها ، استغاثة صامتة وضراعة في عيون تقول انها لاتملك ثمنا لمجهوده سوي الضراعة وكلمات طيبات ونظرة أمتنان نادرة المثال. كان هو لايختلف عمن يقابلهم: كان بداخله مزيج منهم جميعا، جشعا وفظا مع الفظ ، عنيدا لايتنازل عن مليم احمر ، ومع آخرين كان ملاكا هبط من السماء، كان شخصا نادرا تروي عنه قصص أقرب الي الخيال، دموعهم تسيل لها دموعه، آلامهن آلامه، تبديد مخاوفهن هو هدفه العاجل الذي يعرف الطرق المؤدية اليه كما يعرف كيف يصل الي بيته في الظلام معصوب العينين. لم يكن يعرف لذلك سببا. كان يتصرف من وحي الحين واللحظة مدفوعا بعاطفة وعزيمة لايعرف لها سببا ولامصدرا ولاتوقيتا ولكنه ينساق خلفها كما تدفع الامواج قاربا صغيرا بلا قائد حيث تريد وتشتهي. لم يكن يهتم حتي بمعرفة أشخاص من تتملكه تلك العاطفة الطاغية تجاههم، كان يكتفي بقيادة مراكبهم الموشكة علي الغرق الي ضفاف آمنة بلا مقابل وبلا طلب أحيانا. كان يعرف بحكم عمله وخبراته الحياتية أن الناس ميالون دوما لاختلاق وتحريف قصص حياتهم الخاصة بما يجمل ويحسن صورتهم ولكنه مع ذلك كانت تبكيه قصص من قصدنه وجلات خائفات مرعوبات باحثات عن قشة يتعلقن بها قبل السقوط في الجب، كن يعرفن انهن إن هززن جذع النخلة فلن تساقط عليهن رطبا جنيا بل ان أبواب الجحيم ستفتح لهن، وكن يعرفن انه قشتهن الاخيرة والوحيدة، وكان يعرف ان الخوف في حضرة من يحسبنه المنقذ يطلق الالسنة من عقالها ويخرج الاسرار من داخل أسوارها، لذلك كان يصدقهن وتنهال دموعه أحيانا حتي في حضرتهن. لم يكن يستطع منعها فهي دموع قديمة متجددة، دموع يختلط فيها صوت أمه الكامن داخله بصوت صبية تقاتل من أجل حياة تقف علي حد سيف لايرحم، تماما كحياة أمه التي لم تجد من يمد لها يدا فغابت الي الأبد. لم يكن قادرا علي فعل شئ لها فليفعل شئيا لهن. كان أحساسه بكونه منقذا منتظرا يتزايد يوما بعد يوم ولكن أحساسه بالغربة يتزايد أكثر وصوت والده يأتيه من مكان ما هازئا به بعبارات تطرق ذاكرته كناقوس كنيسة عتيقة. كان صوت والده يشعره دوما بالضآلة الأبدية التي ليس له فكاك منها. كان الصوت يجبره علي رؤية اشياء كامنة في اعماق سحيقة كالكوابيس لايريد ان يراها ابدا، لكن الصوت يتحول مرآة تجبره علي رؤية مالا يريد ولايرغب في رؤيته. طوال الطريق من العيادة الي قسم الشرطة الي النيابة الي السجن كان الصوت يطارد العربة في الشوارع والمنحنيات ويطارده مثل كرباج ينهال علي ظهر عار.
باستثناء الصحافة التي نقب كتابها في كل اركان حياته وبعض الاقارب والاصدقاء لم يزر أحد عاصم في السجن، كان ينتظر بشوق ولهفة زيارة نوال الكاشف لكنها لم تأت أبدا،خيبت ظنه ولم تبعث له حتي رسالة، وعندما أخبره مأمور السجن يوما أن ندى في انتظاره تهللت أساريره وانتعشت أماله في وصول رسالة من نوال، لكن سرعان ما خاب فاله، كانت ندى شاحبة مرتبكة لاتعرف ما تريد قوله طوال دقائق الزيارة القصيرة وعندما تجرأ وسألها عن نوال أجابت بارتباك انها بخير ولم تزد علي ذلك، ساد صمت قصير ثم نهضت ندى وهي تقول له بصوت مخنوق خافت (شدة وتزول...) ثم أنفلتت خارجة ومنديلها الورقي باق في مكانه شاهدا علي كل دمعة أستدارت واخفتها فيه. خرجت ندى مسرعة من غرفة المأمور الي باحة السجن الفسيحة وظلت تهرول حتي بلغت البوابة التي فتحت لخروجها، خرجت الي الشارع وهي مشيحة بوجهها حتي لايراها أحد خارجة من حيث خرجت وأسرعت عامدة الذوبان في أرتال العابرين وهي تحمد ربها ان بوابة السجن وطريقه قريبان الي الشارع العام. كانت تتساءل طوال طريق القدوم والعودة عن سبب رغبتها في الذهاب الي عاصم، فلم تجد سببا سوي أحساس خانق بالذنب إجتاحها وهي تري صورته تتصدر الصحف وأخبار القبض عليه تتصدر المجالس، لم يخطر ببالها أبدا وهي ترسل الاشارات ضده ان نوال وانتقامها يمكن ان يبلغا هذا الحد، ولم تك تدرك ان هذا الرجل يهمها أمره الي هذا الحد الذي جعلها تغضب كل هذا الغضب لاجله وتثور كل تلك الثورة في وجه صديقة عمرها، كانت وكأنها تعيد اكتشاف ذاتها علي وقع الكارثة التي ألمت بعاصم تري تحت جلدها ندى أخري لاتعرفها ولم ترها من قبل،ندى تحب عاصم بجنون سرا وتنكر تلك العاطفة علنا، ندى تتصنع اللا مبالاة وهي تذوب شوقا، ندى تظن انها ترغب في ايذائه وهي ترغب في الاحتجاج لا أكثر، كانت تنتظر منه أكثر من مجرد أرسال رشا لتتحسس له الطريق، كانت تتمني لو انه امتلك الشجاعة فخاطبها بنفسه وقدم نفسه بدون وسيط، كانت ترسم في خيالها سيناريوهات عديدة للقائهما وللمجري الذي سيأخذه الحوار وكيف انها ستضع بصمتها علي اتجاهاته ومفرداته حتي يبلغ الضفة التي تريده ان يبلغها في التوقيت الذي تريده، لكنه لم يأت ، ظل يكتفي بمرسال الشوق الذي ليس له ذوق(رشا) وظلت رشا بسماجتها وطريقتها الفجة في طرح الاشياء تعطيها احساسا بانها عاهرة تجري مفاوضتها حول الثمن وظل هذا الشعور يشعل نيران غضبها علي عاصم ويخصم من رصيده الكثير لديها. وظل النفور سيد الموقف بينهما. كان الاحساس بانها فريسة مطاردة وانه طفل مدلل اعتاد الحصول علي ما يريد يجعلها صادقة في حوارها مع نوال حين تقول لها بغضب انه ليس النوع الذي تفضله وانه خارج حساباتها، ولم يكن بمقدورها ابدا ان تعترف لها بانه لو أحسن الدخول الي حياتها من الباب لما وجد عقبة تعترض سبيله الي قلبها أبدا. بكت ندى وهي تقرأ السطور وتطالع صورته في الصحف كما لم تبك من قبل، ولم تدر هل بكته هو ومصيره المفجع ودورها الخفي في ذلك؟ أم انها بكت نفسها وهي تري صورتها ومشاعرها الحقيقية لأول مرة وتدرك انها أضاعت الرجل الوحيد الذي احبته يوما ما؟ تري هل بكت لأنها بمكابرتها وانكارها مشاعرها نحوه واغلاقها الابواب بينهما وتشجيعها لنوال علي دخول عالمه بزعمها انه لايهمها قد فتحت عليه ابواب الجحيم الذي بات فيه ؟
لم تكن تملك أجابة سوي الدموع والغضب من نوال وفعلتها والشفقة عليه والرغبة في رؤيته والاعتذار له والبوح علنا والاعتراف بما أجتاحها، ولكنها عندما باتت أمامه وجها لوجه ولمست ذلك الاهتمام بنوال الكاشف في رنة صوته ونظرات عينيه ماتت كل الكلمات علي شفتيها واجتاحها شعورها القديم بالغربة المنتصبة بينهما، فلاذت بالصمت وأسرعت بالهروب من مكتب بات في لحظة زنزانة خانقة. عاد عاصم من زيارة ندى حزينا مطاطئ الرأس غارقا في تأملات كثيرة، كان قد نهض متلهفا حين قال له الحارس ان أنثي جاءت لزيارته، كان متهلفا لزيارة نوال الكاشف له، كان يعتبر مجئيها شئيا حتميا مثل كل ماجري
له، كان يستمد بعضا من قوته في مواجهة ما جري من ذلك الاحساس بانها ستأتي حتما، لم يتطرق الشك اليه أبدا في قدومها، ظل يسهر الليالي حتي الصباح يرسم في تفاصيل اللقاء ويتشمم بخياله رائحة عطرها التي ستخترق أنوف السجناء والضباط والعساكر والمارة كغيمة منومة، كان يتخيل ملامح وجوههم الممتلئة دهشة ويراهم بعين الخيال يصطفون علي جانبي الطريق وهو يرتدي بدلة بيضاء ويأخذ بيدها الرقيقة تحت ابطه منحنيا في عظمة لتقبيل كفها الصغير ثم يشقان الطريق المفروشة ورودا ملونة وبساطا احمرا نظيفا والضباط يبتسمون وهم يؤدون التحية بأدب جم والجنود متهللة أساريرهم والبنات الصغيرات يلهثن خلف العروس الباسمة ليمنعن أطراف ثوبها من بلوغ الأرض،يمضي هو كالطاؤوس الي الأمام
وعنقها الصغير ينحني بين الفينة والأخري علي كتفه كعصفور صغير يبحث عن عشه، ثمة سيارة صغيرة مكشوفة حمراء مزينة بورود كبيرة تنتظر في نهاية الممشي العريض، يخرج منها سائق ممشوق القوام يرتدي زيا مثل الذي يرتديه أفراد الموسيقي العسكرية، يفتح الباب وينحني حتي يكاد يلامس بذقنه الأرض، يرفع عروسه بين ذراعيه ويضعها برفق داخل السيارة وهي مستسلمة سعيدة تنظر في عينيه بوجه ضاحك وأسنان بيضاء كالحليب مصفوفة كعقد علي جيد حسناء، يرفع رأسه الي السماء يجد الشمس قد توارت خجلا خلف غمامة وثمة نتف بيضاء كقطع قطن تتبسم ، ثمة حمائم بيضاء مطمئنة تحلق وتعود كسرب طائرات في عرض عسكري للطيران..... وحين هم برفع قدمه للدخول الي جانب عروسه سمع صوت صرير مزلاج عتيق وصوت باب ينصفق، فأفاق علي مرآي جدران زنزانته الصماء.... وساد صمت رهيب.
كانت ندى تكاد تمور وتنفجر من الغضب ، غضب لم تعرف مثله قط في حياتها فقد كانت مسالمة مسامحة بطبعها تنأي بنفسها عن كل صدام وانفعال ومواقف حادة، لكن ماحدث كان شئيا يفوق تصورها وخبراتها الحياتية، كانت ممتلئة بانفعالات متناقضة، فقد شعرت بعد رؤيتها دكتور عاصم في محبسه بتأنيب ضمير فظيع وشعرت أنها مسؤولة بشكل أو آخر عما صار فيه، وشعرت في الوقت نفسه بغضب هائل يعتريها تجاه نوال صديقة العمر التي أنقلبت وحشا كاسرا بين عشية وضحاها وقذفت بالرجل الوحيد الذي احبته في الجحيم مرة واحدة، كانت تقول لنفسها: أنت السبب، انت من أشعل النار وأوغر الصدر عليه، أنت من سلم نوال السكين الصدئة وناداها لتذبحه، قبل ان تلوميها يجب أن تلومي نفسك، قبل ان تلوميها يجب ان تلومي غرورك الأبله الذي دفعه دفعا تحت عجلات سيارة نوال الكاشف التي لاترحم....
نعم لومي نفسك ايتها الغبية ولاتلومي سواك أبدا. كان يلهث خلفك بأصرار وأنت تتصنعين عدم الأهتمام وتقابلي الود بالجفاء والأقبال بالأدبار .
سالت دمعة علي الخد غصبا عنها فمسحتها بالمنديل الصغير وأسرعت الخطي وسط زحام العابرين وأصوات الباعة الجائلين تطرق أذنها فتعيدها الي السوق العربي وزحامه الفظيع وانهار البشر الاحرار الا من هموم صغيرة وكبيرة ومسابقة الزمن لادراك الحافلات المنتشرات في كل الاتجاهات كرهط غادروا للتو دار عرس عائدين الي الديار،وحده عاصم لم يعد بمقدوره ان يكون جزء من هذا النهر الحر وهذه الارتال الطليقة، وحده يقبع هناك ينتظر قدوم نوال في بلاهة دون ان يعرف ان يدها البضة الصغيرة وثغرها الباسم هن من ألقي به هناك وهن من حررن شهادة موته كطبيب ونجم من نجوم مجتمع الخرطوم وامدرمان وجعلنه مادة خصبة لصحف بائرات يتاجرن بالفضائح وأخبار الجريمة والجثث المتفحمات. ليته يعلم ان نوال سراب كاذب وانها من أورده موارد الهلاك.
وأنها من أدار الماكينة التي سحقته وجعلت من عالمه المضئ أثرا بعد عين في لحظات، ليته يدري كل ذلك عساه يشفي منها. لكن ندى كانت تدرك ان الحقيقة يمكن ان تقتله، خير له أن يبقي في ظلام الزنزانة وظلام الحقيقة ، لأن الأمل نور يستضاء به، وعشمه في نوال هو الأمل الذي تبقي له. اللعنة عليك يانوال... اللعنة عليك يا نوال. هكذا كانت الافكار تتهاطل كالمطارق علي ندي والحافلة تعتلي صهوة كوبري الحرية في طريق العودة الي الديار.
ما لم تعرفه ندي أن نوال الكاشف كانت تعايش ماجري لدكتور عاصم بذهول ودهشة وألم يفوق ما شعرت به ندى عشرات المرات، لم يدر بخلدها قط وهي تحرك الاشياء ضد عاصم ان تؤؤول الأمور الي ما آلت اليه أبدا، كان قصاري ما تريده هو أستعراضا للقوة يردع عاصم ومن معه ويوقف الحملة السوداء ضد احمد المغربى في حدها، قرصة أضان صغيرة فقط وليس كل هذا الزلزال المدمر، لكن ابن خالتها الذي يشغل موقعا رفيعا لم يعتد التعامل بنظام قرصة الأضان المحدود، كان غولا علمته السياسة والحياة انه ان لم يأكل خصومه فسيمضغون قلبه ويرمون جثته للكلاب، ولسوء حظ عاصم كان عاصم أصلا ضمن قائمة ياسر النضيف السوداء قبل ان تؤكد نوال وجوده ضمن المهام الأكثر اولوية عند ياسر النضيف أب شغلا نضيف كما يسميه أصحابه في دنيا المال والسياسة، أطلقت نوال الكلاب الجائعة من محبسها أرادت ذلك أم لم ترد وكانت الحصيلة ذلك الزلزال المدفوع القيمة والمعد بعناية قصاب يتخير شاة للذبح. حدث الزلزال وقلب حياة عاصم رأسا علي عقب وجعله مادة اعلامية ثابتة حتي في بيوت العزاء وحينها فقط أدركت نوال فداحة ما فعلت وحينها فقط قتلت صحوة الضمير وهج الغضب الذي حركها في البدء وأدركها الندم متأخرا بعد وقوع الفاس في الرأس.
وجدت نوال نفسها وحيدة داخل غرفتها والصحف المكتظة صفحاتها بصور عاصم تحيط بها أحاطة الشرطة بمجرم يلتمس الفرار عبثا، ألقت بحقيبتها الصغيرة كيفما اتفق والقت بنفسها علي السرير نفسه الذي أتخذت فوقه قرار أشعال النار في عاصم ونفذته بمكالمة طويلة مع ياسر النضيف، طفقت تبكي بحرقة وهي تلوم نفسها علي تهورها وحماقتها
ووجدت نفسها تمزق الصحف تمزيقا كأنها تحارب فيها عدوا منتصبا أمامها، كانت صورته حتي بعد تمزق الصحف أربا تتجمع وتملأ فضاء الغرفة الصغيرة وتخنقها بنظرة واثقة تبدو ملئية بالسخرية والتهكم والوعيد، ولم تكن تملك شئيا سوي البكاء...كانت الصور تتقاطع في ذهنها مع الدموع، ذلك الاهتمام...تلك النظرات التي تتسول الحنان....تلك الابتسامة الغامضة نوعا ما.... صوته وهو يلقي شعرا يجتهد في جعله يبدو شعرا عند ضفة النيل في امدرمان وذلك المركب الصغير الذي يمخر عباب النيل من خلفه بذلك الساري الابيض الصغير.... حكاياته عن طفولته وأمه التي أختفت بغتة....نومه في أعلي الاشجار حتي حلول الظلام دون أن يفتقده أحد ... خوفه حد التبول علي نفسه وهو يركض في الظلام عائدا الي ديار لم يكلف من فيها نفسهم بالبحث عن عاصم البروس...بكت نوال أكثر....أدركت في هذه اللحظة الفارقة فقط أنها أحبته وأحبت دموعه وجوعه الي الحنان وصدقه الجارح معها وأنها رأت في حرمانه الطويل شبها من حرمانها وفي أهماله شبها بأهمالها وفي بقائه في ركن مظلم وحيدا صورة من طفولتها في القصر الصامت... أدركت نوال بعد أن أحرقت المعبد وهدته علي رأس عاصم أنه ربما يكون الرجل الوحيد الذي احبته وأحبها وأن ثورتها عليه في الحقيقة لم تكن ثورة من أجل سمعتها كما ظنت بل كانت ثورة أنثي استفزها كون من تحبه يظن أنها تحب غيره ويصدق ذلك. صرخت نوال بجنون وهي تضرب بيديها علي الوسادة الصغيرة بعنف: اللعنة عليك يا ياسر... اللعنة عليك لم تصدق ان الفرصة جاءتك لتمزقه أربا.....اللعنة عليك يا نوال....كنت أعرف ان ياسر يعتبر نوال منطقة محظورة لغيره... كنت اعرف غيرته العمياء من عاصم منذ التقانا صدفة في أحدي جلساتنا الخاصة في الريفيرا، من يومها وياسر يسأل بالحاح مطرقة علي الخشب عن عاصم وعلاقتي به وأنا أدعي البراءة بطريقتي وأشعل النار في جوف ياسر، أشعلتها وتركتها كامنة ثم دلقت عليها بنزينا وشعلة من لهب....اللعنة عليك يانوال....اللعنة عليك يا نوال...
كانت نوال الكاشف ترتعش كصغير تفتك به حمي مجهولة وهي تستنزل اللعنات علي نفسها ودموعها تجري انهارا غير عابئة بما رسمته الدموع علي وجهها من أخاديد ، كانت المروحة الوحيدة في مكتب المأمور تدور ، عاصم ساكنا كجثة، قبعة المأمور منتصبة حيث تركها قبل خروجه مفسحا المجال لندي ونوال وعاصم ، كانت ندى تبكي بدموع لاتري وتتنقل ببصرها بين نوال الكاشف التي لم ترها قط بذلك الضعف وذلك الانفعال وعاصم الذي يبدو في بدلة السجن كأنه يستقبل ضيفا في بيته عصر يوم حافل، مرهقا شاحبا،قالت له نوال كل شئ، ماتعرفه وما تظنه وما أخفته من قبل فيما عدا مشاعرها نحوه، لم يقل عاصم شئيا في البدء، ساد صمت قصير بدا دهرا، حتي أن الجندي الواقف أمام باب الغرفة لم يستطع مغالبة فضوله فادار وجهه الي داخل الغرفة كأنه يريد التأكد من كون الغرفة لاتزال مأهولة بالبشر ، ثم أشاح بوجهه بسرعة عنهم. مسحت نوال وجهها بمنديل صغير دون ان ترفع رأسها و أبتلعت ريقها بصعوبة ولاذت بالصمت . وفجأة هدر صوت عاصم قويا علي غير المتوقع وعلي غير المألوف:
(طول عمري كنت غارقا في الجب، وحدي أصرخ بأعلي صوتي، ولا أحد يسمعني،كنت طفلا في الخامسة حين شاهدتها عارية ...مكبلة...والسوط يهوي علي ظهرها العاري....ترتفع اليد حتي تكاد تخرق السقف، ثم تهوي علي ظهرها العاري، وجهها مرعوبا وهي تصرخ وتشير علينا بالابتعاد، كنا صغارا، نبكي،فليس لدينا سبيل آخر للاحتجاج، وكان كل ما يهمها الا نراها.. هو لم يكن يهتم، انحشرت بين ظهرها وسوطه دون وعي ،بات صراخها أكبر، وكان وقعه حارقا وموجعا فعلا صراخي.) أرتفع صوت عاصم وصار صوت طفل يصرخ باكيا :
(كان برقدا زي الشفع قدامنا ويقول ليها ارفعي ايدينك...أرفعي ايدينك...و يجلدا....زي الشفع في ايدينا وفي ضهرها . وانفجر في البكاء بصورة هستيرية وصوته يعلو:(علقني في النيمة عريان زي ما الله خلقني يوم كامل ودقاني بالسوط لما الدم كب..........في النيمة.
وعلى ، على اخوي دقاهو لمن غمر، دقاهو لمن مات يا نوال.، على يقع ويقوم وهو يدق، انا أقع وأقوم وهو يدق.)
وأنفجر عاصم في نوبة هستيرية شاملة كبركان في قمة فورته يلقي بكل شئ امامه أرضا ويصرخ كخروف مذبوح.... نهضت ندي مذعورة تبتغي باب الغرفة الصغيرة، واحتمت نوال بالمكتب الفاصل بينهما وأمتلأت الغرفة الصغيرة بالجنود في لحظة، أحاطوا به كما يحيط المصارعون بثور هائج في حلبة مصارعة اسبانية وهو يزداد هياجا وصوته يعلو كأنه يخاطب شخصا ماثلا أمام ناظريه أو يؤدي مشهدا حفظه عن ظهر قلب علي خشبة مسرح: (تكشح الشاي في وشها؟ انت ما بتخاف الله؟ تشغلا زي الحمار وترسلها السوق تخليها تقرع الواطة وانت قاعد وتجلدا زي الحصان؟ تدق الشافع بالشبط في وشو؟ تدق على لامن يموت؟ المرة الاولي حصلوا حاج المنصور ياحاج المنصور سكتا ليه؟ ياناس سكتوا ليه؟ يا اخ انا ما انسان؟ تضربني لمن اطرش؟ اضاني هدي قاعدة صورة ما بتسمع تضربني كف؟ ياولد اقرأ....كف. ... دا غلط...كف... اقيف...كف.... أقعد..كف ...كف... كف.) خفت صوت عاصم رويدا و هو يدور كالمروحة مرددا كلمة واحدة بايقاع مخيف بدا عاليا كطبل: كف...كف ...كف ..كف. ثم سكت فجأة وتهاوي بين أيدي الجنود، فافسحوا له مكانا وسطهم وأسندوه وأرقدوه علي ظهره فسكنت حركته، بقيت عيناه شاخصتان نحو المروحة التي تدور كأعواد مشنقة وبات وجهه طفوليا رخوا يكسوه سلام عجيب، ثم سكنت حركته تماما بغتة فشهقت نوال.
نظر اليها طبيب السجن وتمتم: لاتقلقي اضطررنا الي اعطائه حقنة مهدئة ستجعله ينام بضع ساعات متصلة فقد تعرض لازمة عصبية حادة جدا.... سيكون بخير. أعادت نوال النظر الي عاصم فوجدته غارقا في ثبات عميق .
في المصحة في صباح اليوم التالي كان عاصم هو عاصم الذي تعرفه نوال الكاشف: أنيقا بجلباب ابيض ورأس حليق وشارب مشذب يعطيه رجولة طاغية يعززها صدر عريض وهدوء وثقة بالنفس ، هو ذاته عاصم الذي تعرف وكأن الذي جرى لم يجر وكأن ما حدث البارحة في غرفة المأمور كان كابوسا ولم يكن حقيقة، سلمت عليه نوال بحذر وتردد فرد التحية ضاحكا متهللا ودعاها بلطف معتاد للجلوس كانه جالس في حديقة قصره أيام صفاه فجلست وهي لاتزال مضطربة لاتعرف ماذا تقول ولا من أين تبدأ. أخرج عاصم ولاعة فاخرة وعلبة سجائر ذهبية اللون ماركة بنسون وأخرج سيجارة واومأ اليها مستأذنا فهزت كتفيها مبتسمة وقالت بصوت خرج مبحوحا لدهشتها: خد راحتك ياعاصم ، مافي مشكلة، انا ذاتي لو كان في طريقة كنت ولعت واحدة، لكن ما بقدر اولعا هنا. أشعل عاصم السيجارة وأخذ نفسا عميقا ثم أخرجه من صدره وأطلق دخانه في الهواء وهو يتابعه ببصره متلذذا في شرود، ثم أبعد السيجارة الي يده الاخري ونفض رمادها في المنفضة وقال فجأة: سيجارتي تحترق وانا احترق ولامن يضئ ظلام العالم يانوال...no body.....at all ، طول عمري كنت سيجارة تحترق بيد أحدهم دون أن يكترث أحد بها ودون أن يحاول أحد اطفائها، وفي خاتمة المطاف يلقي بها أرضا فتدوسها الاقدام بقسوة لاحدود لها. لاتظني انك أول من فعل ذلك بعاصم البروس يا نوال، ولاتظني أنك الاسوأ، وليس مهما كونك قصدتى ذلك أم لم تقصديه، المهم أنه حدث، كما يحدث دائما، كان أبي حالما كبيرا وفاشلا كبيرا، ظل قابعا في بقعة صغيرة ضيقة ومحكمة الاغلاق وهو يحاول بلوغ سماء مستحيلة، سماء لاتوجد داخل زجاجة محكمة بها مارد حبيس، كان يصطدم دوما بحدود المكان وسقفه الضيق ويتحسس رأسه فيجد في كل مرة كدمة كبيرة وبقع دماء فيكتشف أنه مارد محبوس بزجاجة صغيرة ألقيت بقلب المحيط ولم تقذف بها الامواج يوما نحو ضفة لتثير فضول أحد الباحثين عن كنوز مخبؤة ورسائل غامضة فيكسرها ويحرر المارد دون قصد، ولم تستطع المياه الجارية حولها كسرها أبدا، فظل المارد حبيسا بمحبسه، وأخذ يوسعنا ضربا في كل الاتجاهات لمجرد أننا بتنا حبيسين معه في ذات زجاجته، لم يكن يري فينا أنا وأمي واخوتي سوي أوتادا تشده الي القاع شدا ومزاليج تحكم أغلاق باب الزنزانة عليه وهو المشتهي الطيران والتحليق بعيدا عن زجاجته التي اختار ذات يوم راضيا الدخول فيها. كان ابوه مزارعا لايعرف قيمة لشئ سوي الارض والعمل فوقها كثور في ساقية وأراده ان يكون نسخة منه وامتدادا له في الارض والزمان، لكن أبي كان زاهدا في عالم ابيه ومشدودا بخيوط غير مرئية الي عوالم أخرى.
تصادمت الاراداتان، أبى وجدى، وانجلى التصادم بتوقف قطار تعليم ابي في حدود الثانوي، وفي المقابل لم يفلح جدي في جعله مزارعا، فانتهي به المطاف سائقا لحافلة ترحيل موظفين حكومية في الخرطوم التي أراد ان يدخلها غازيا فدخلها سائقا عوضا عن هجير الزراعة الذي هرب منه كمن يهرب من عدوي فتاكة. كان ابى يقود الحافلة بشعور حصان الكارو (مكره اخاك لا بطل) وكان يملؤه شعور متزايد بالغيرة والتفوق علي الموظفين ، ففي قرارة نفسه كان يؤمن ان موقعه المستحق هو موقع المدير وعربته الخاصة وسائقه الذي ينحنى له وليس مقعد السائق في حافلة تعج بموظفات جاهلات ثرثارات لايكفن عن أرساله طيلة يوم العمل لقضاء حوائجهن، كان مغرورا بطبعه غرورا لاحدود له، غرور الواثق بأن عقله قادر علي فك طلاسم كل شئ وقادر علي بلوغ كل غاية يروم تحقيقها، وكان في أعماقه حانقا حنقا عظيما علي ابيه كونه وقف بينه وبين طموحه وحوله الي مجرد سائق ترهقه نسوة فارغات(علي حد قوله) بطلبات لاتنتهي. كان شعوره بان ابيه هو المسؤول عما آل اليه في خاتمة المطاف في تزايد مستمر وكانت ناره المشتعلة داخله تتجدد كلما واجهته عقبة في حياته أو اجتاحه الشعور بأنها حياة تافهة عديمة المعنى ولاتتناسب مع قدراته التي يعلمها. كانت ناره تلك تتوهج في وجوهنا وتحرق كل ركن في حياتنا، كانت تتجلى في قسوة لا متناهية يقسوها علينا، يحمل سوطه ويقف فوق رؤوسنا الصغيرة طالبا منا القراءة بصوت عال والتسميع لكل شئ، وويل للمتلعثم وويل لمن ينسي حرفا أو تنوينا، فالخطأ يساوي ضربا مبرحا و ألما لايطاق ولاتحتمله أجسادنا النحيلة، خاصة في برد الشتاء. كانت لحظات قاسية وموجعة وملئية بالتوتر ، تلك اللحظات التي يلعب فيها دور المعلم، كان يصرخ بشكل هستيري: (أقروا ياحمير... اقروا ولا حتبقوا زي الحمير فعلا.. اقرو القر الينفخكم...). لكن الاكثر غرابة كان هو موقفه اللاحق، كان غريبا ان يمارس علينا كل هذه الضغوط ليدفعنا دفعا للتعلم ثم يعود القهقري لاحقا ويشرع في وضع العراقيل في وجه انطلاقنا في التعليم الي مراحل افضل وفضاءات لم يرتادها، كان حانقا علي ابيه لانه تسبب في منعه من مواصلة تعليمه ولذلك كان حريصا علي تحديه بدفعنا للتعلم دفعا ولكنه في الوقت نفسه كان حريصا فيما يبدو الا نتجاوز ما حققه هو من تعليم، لذلك تحول فجأة من أكبر دافع نحو التعليم والتعلم الي اكبر واضع للعراقيل ومثبط للهمة في المراحل المتقدمة من التعليم. فقد كان يتعمد الهائى عن القراءة باغراقي في اعمال زراعية لاتنتهي يجبرنى عليها كلما دنا موسم الامتحانات ، كأنه كان يخشى تفوقي ان وجدت وقتا كافيا، أدركت مقصده فعملت كثور في ساقية علنا ودرست بلا هوادة سرا لكي انتصر عليه وعلي عراقيله، كان كلما تعمد الهائى زاد اهتمامي بالمذاكرة وانفتحت شهيتى للتفوق، كنت اعلم انها فرصتى الوحيدة لانبات اجنحة تنتشلنى من الجب العميق الذى نحن في قاعه قابعين.
كنت اقول لنفسي وانا اصحو قبل ان يؤذن المؤذن للفجر لكي أقرأ بعيدا عن انظاره:( ليس لديك مخرج ياعاصم من هذه البئر سوي القراءة، هي الحبل الوحيد الممدود لك كي تتعلق به وتخرج الي الهواء الطلق) وهكذا عاهدت نفسي حتي فعلتها واحرزت نسبة عالية أهلتني لدخول الجامعة وأذهلت ابى فكاد يسقط مغشيا عليه ولكنه تمالك نفسه ونظر الي نظرة طويلة غريبة جدا، ثم ضحك فجأة ضحكة لامعني لها وأعطاني ظهرا محنيا وخرج دون ان يقول شيئا. هكذا كان يفعل حين يخسر وينوى رد الصاع صاعين.
قالت لي خالتي جميلة حين كبرت ذات صفاء:(كان يجلدها حتي يدميها ، ثم يجوعها حتي تكاد تشرف علي الهلاك، ويقف عند رأسها كقائد جيش مجنون بالخطب الحماسية يلهب بها رؤوس جنوده، كان يخطب عن الجنة والنار والاشرار خطبا يبكي و هو يلقيها كأن شخصا آخرا يخرج من داخله ويرتسم، يبكي كطفل ويرتل القرآن بصوت عذب حتي تكأد تسلم بأنك تتوهم اشياء قبيحة حوله وانه ملاك هبط من السماء، لكن ذلك لايدوم طويلا، فجأة يكف عن القراءة ويخاطب مجهولا يراه وحده مهددا متوعدا بويل وثبور ان هو لم يخرج منها، يصرخ باعلي صوته وهو يهوي بالسوط علي ظهرها: (أخرج منها ...أخرج منها يا ملعون(. تتوجع هي تحت وقع السياط وتصرخ بصوت مشروخ باك :(اخرج مني يا ملعون...أخرج مني(. ،كانت تصدق هواجسه المجنونة و كنت في اوقات كثيرة أشاطره الرأي بان امال يسكنها عفريت لايريد مبارحتها، حتي كان ذلك اليوم... كانت الشمس ساطعة في كبد السماء والحقول مخضرة باعواد الذرة والعصافير كثيرة لم تفلح الخيالات الموزعة في وسط المزارع في اخافتها،كانت امال سعيدة مطمئنة تضفر برشا من السعف وتنشد مادحة، كنت أمشط شعرها الطويل وهي جالسة كطفلة عند ركبتي، كانت تلك لحظات باتت نادرة منذ تزوجت امال ، لحظات مستحيلة طالما كان هو بالجوار، كان في الحقل ، حين اجفلت امك بغتة وهبت واقفة لم تكن صرخة علي قد انطلقت وشقت الفضاء الي حيث كنا، كان شئيا ما قد أهتز بداخلها فسبقت هبتها الصرخة، في لمح البصر أنطلقنا راكضتين صوب الصوت، أنفتح المشهد أمامنا بغتة،... كان لون السماء احمرا... وجه علي المنتفخ احمرا مفزوعا وهو يركض كفأر يتبعه قط شرس، كان القط ابيه، كانت اليد ترتفع وتهوي والعروق نافرة ...الشكل انسان والوجه شيطان....
علي يركض وانت تقذف حجارة يائسة صوب ابيك ....ثم كان صوت الارتطام عاليا....كشجرة سقطت في البحر، اصطدم الرأس الصغير بجذع ضخم أعترض سبيله وهو يركض باقصي سرعته، دار الجسد الصغير ثم هوي صاحبه علي وجهه وانكفأ ، كان الدم متناثرا فوق أوراق الشجر ، وكانت صرخة أمك تعانق ابواب السماء....ثم ساد صمت.....صمت شامل.
صرخت في وجهها: (لا يا خالتي....كان صوتي اكبر من صوت ارتطامه بالشجرة....قفزت كشيطان صغير من مكاني، تعلقت بثوب ابي الابيض الملوث ببقع حمراء صغيرة، هززته بقوة وصرخت حتي راح صوتي:ياعلي.. يا علي.... وكان أبي بين يدي كجثة هامدة، صامتا لايجيب.)
تنهد عاصم بصوت مسموع ، ثم ساد صمت مخيف، أشعل سيجارة جديدة وأخذ يمتص انفاسا منها ثم يطلق الدخان في الهواء ويتابعه صامتا،نظرت اليه نوال، كان يبدو وسيما غامضا وعلي وجهه ابتسامة تبدو غريبة في المكان وفي الزمان، شعرت فجأة بأمومة طاغية تجتاحها وانه صغيرها الذي تريد اخذه بين ذراعيها ودفن رأسه الصغير في صدرها والغناء له بصوت يا طالما غنت به لعرائسها الكثيرة في غرفتها في القصر الصامت، شعرت في تلك اللحظة انها تري دموعه وهي تندلق الي الداخل مكونة بحارا متعددة لاتكف عن الجريان صوب المحيط حيث تختلط الدموع بمياه البحر وتتخلل خياشيم اسماكه، وشعرت في اللحظة ذاتها انها تتوحد مع أمال أمه وتتلقى عنها لسعات السياط، شعرت بالدم يسيل من ظهرها انهارا ليختلط بدموع عاصم الراكضة صوب المحيط، اختفت معالم المصحة ووجوه الممرضين والاطباء واختفي نجيلها الاخضر وجلباب عاصم الابيض ودخان سيجارته المشتعل في مكان ما داخله ،أمتلأ الفضاء بوجه أمال، شلوخها العريضة، عيونها التي تشبه عيون غزال حزين، ظهرها الموشوم بالسياط وانهار الدماء المتعرجة، صوتها المشروخ يأتي ضعيفا متعبا يطالب مجهولا بالخروج،، كانت جالسة تحت شجرة النخل العتيقة ممزقة الثياب ووجهها منتفخا وهي تهز جذع النخلة عبثا، لاشئ يساقط عليها، تزداد حركة اياديها علي الجذع قوة وشراسة وووجه عاصم ممتقعا وهو يرقبها من عل دون ان ينبس ببنت شفة، كلما هزت أمه الجذع ازداد هو تشبسا بالنخلة خوف السقوط. كانت هي تبكي وهو يبكي والنخلة تبكي والقمري ينوح بلا انقطاع .
بغتة صمت كل شئ... ازدادت عينا امال اتساعا ورعبا، كان جذع النخلة قد بات بغتة أحمرا قانيا ، كان الاحمر نقاطا صغيرة في البدء ، ثم اتسع وبات آخذا في الاتساع، باتت السماء حمراء قانية والارض حمراء واوراق الاشجار وجذوعها حمراء ودموع امال تسيل بلا انقطاع من عينيها فتختلط بنهر أحمر قان جار تحت أقدامها. ثم غامت الاشياء وعادت نوال بخيالها الي لحظتها الراهنة في المصحة بمعية عصام واحزانه الساكنة.
اغرورقت عينا نوال بالدموع ، لم تستطع السيطرة علي نفسها ، أخذت ترتج بقوة ووجه أمال الباكي يختلط أمام عينيها بوجه نعومة الشاحب المنكسر بعد نزوة احمد الكاشف التي دفعت به بعيدا عنها وهشمت عالمها البلوري وأحالته حطاما، رفعت رأسها لتنظر في وجه عاصم الساكن الباكي، ثم اعادت النظر الي داخلها فاستمعت الي صوتها وهي تحادث ياسر النضيف وتزود موقده بالجمرات التي اشعل بها حريقه فيما بعد ضد عاصم، تدفقت دموعها انهارا وهي تستدعي صورة جذع النخلة الملون بالدماء ووجه على المرتعب وهو يركض متجها صوب قدره القاسي وذلك الارتطام الدامي، شعرت نوال في هذه اللحظات برغبة عارمة في ان تأخذ عاصم بعيدا ، ان تحلق باجنحة ما من هذه الامكنة المسكونة بالدم والدموع والغضب والأيدي الناعمة كجلود الثعابين لكنها لاتحمل سوي الأذية لمن تلمسه، شعرت ان هذا العالم المسكون بالقبح يتمدد كرمال متحركة داخلها ويقضي علي الخضرة فيها ويقتلع كل اشجارها المثمرة لصالح نباتات مجهولة تتمدد كالمسكيت جالبة معها التصحر والظمأ الطويل، طوقها شعور غامر بالذنب، شعور طغي علي كل شئ وجعلها لاول مرة في علاقتها بعاصم تشعر انها تتقزم امام ذلك السلام الداخلي العميق الذي يعيشه برغم ان كل ماحوله ينهار، كان يحكي قصته وقصة أمه وهو يرى كل شئ بوضوح ويسمي الاشياء باسمائها ببساطة تجعلها تشعر انها لم تعرفه يوما، انها طول الوقت كانت ترى فيه صورة رسمتها في خيالها ولاتراه أبدا، كانت طول الوقت تتعامل معه بالطريقة التي حددتها هي لا بما ينبغي ان تتعامل به مع رجل في قوته الداخلية الملهمة التي تراها الان بوضوح تام. قالت له بصوت خافت والشمس توشك علي الغروب وسرب طيور يسابق الظلام الزاحف للوصول حيث يبتغي قبل حلول الظلام يحلق فوق رأسيهما باجنحة تصفق بلا صوت: طول الوقت كنت تعرف أنني فظة وخاوية من الداخل ومتعجرفة، لكنك كنت تتقبل ذلك بطريقتك الخاصة، كنت طوال الوقت أظن أنني المسيطرة والمتحكمة وصاحبة العقل الفريد، تري ما الذي اجبرك علي احتمالي كل هذا الوقت يا عاصم؟ هل كنت تشفق علي من خوائي؟ هل كنت تمارس معي لعبة الرجل القوي المتسامح؟! كم كنت غبية. جرحها الاكتشاف وهالتها الفكرة، نظرت في عينيه، فاشاح بوجهه عنها، واكتفي بالتحديق الي الاسفل، تمدد الصمت بينهما، ثم جاء صوته خافتا جدا كالهمس( الشئ الوحيد الذي عرفته هو أننى أحببتك يا نوال، كنت أعرف في داخلي انك أمرأة خطرة ولكنني كنت منجذبا اليك أنجذابا لم ارغب يوما في مقاومته أبدا، كنت اعرف اننى ذاهب طوعا الي الشلال او البركان لكنني كنت راضيا بمصيري)
تنهد عاصم وقال فجاة بلا مقدمات (لم تعد أمي هي أمي بعد حادثة على، تبدلت كثيرا، كانت شاحبة صامتة طيلة أيام العزاء والشهور التي تلت ذلك، ظلت تتنقل صامتة كشبح غامض في الدار، أخذ أبي يغيب طويلا عن الدار وعن البلد بحجج مختلفة وحين يعود كان يتحاشاها، لم يعد يقوى علي النظر في عينيها بل كان يخالسها النظر وحين يطول صمتها ينسحب بهدوء، ثم أخذت في التحول الي شخصية اخري، باتت تخرج من الدار بانتظام وتقضي سحابة نهارها هائمة علي وجهها في الشوارع والحقول وضفة النهر تجمع أشياء لاقيمة لها وتطارد الأغنام بلا كلل وتحادث أشخاصا غير مرئيين وتسأل كل من تصادفه من البشر سؤالا واحدا متكررا بصيغ مختلفة(ما شفتوا (على)؟ ما شفتوهو؟ (على) الصغيرون يا بنوت...(على) الصغيرون يا جنون...مرق الصباح يا بنوت.). كان المارة يجيبون عليها بهزة رأس ونظرة أسي، لكنها كانت تواصل رحلتها اليومية حتي ينال منها التعب فتتوسد الارض وتنام أو تعود الي الدار منهكة مع جميلة التي كانت تلاحقها أينما ذهبت وتعود بها.
بعد ذلك بسنوات طويلة حينما مددني ذلك الطبيب النفسي بالقاهرة علي كنبة جلدية وثيرة وغصت فيها كما يغوص حجر صغير في الماء وطلب مني الاسترخاء والتحدث كيفما أتفق كانت صورتها وهي تركض في الحقول بحذاء قديم وأرجل نحيلة يكسوها غبار الطريق وهي تبحث عن علي بجنون في الشوارع وأعالي الاشجار هي أول صورة طافت بذهني فطفقت أتحدث عنها ودموعي جارية كخور من الخيران التي تندفع نحو النيل من جهة الصحراء، تدفقت في الحديث عنها كمريض تفتك به حمي الملاريا حتي بت عاجزا في خاتمة المطاف عن الكلام، تحول كلامي الي دموع وصوتي الي نهنهة خافتة، نهضت كثور استطاع كسر قيوده ونهض ، نهضت من الكنبة الوثيرة التي أستطاعت الوصول الي قاع بحري حيث أخبئ كقرصان شرير حجارتي السوداء، بحثت عن الباب فدفعته بقوة وخرجت الي الهواء الطلق والناس والضجيج، ركضت بقوة كي ابتعد أقصي ما أستطيع الابتعاد، لكن صورتها كانت تسابقني وصرخة علي تنهض من داخلي وتجلدني، أمسكت رأسي بكلتا يدي وصرخت في وسط الشارع المزدحم بوجوه غريبة في بلاد غريبة (اللعنة علي هذه الذاكرة الملعونة...اللعنة عليك يا عاصم....)...نظرت بتحد لمن وقفوا ينظرون الي بدهشة وصرخت فيهم (لست مجنونا أيها المجانين... أنا اعقل واحد في الكرة الأرضية الملعونة....) نظروا إلي بشفقة مستفزة وأسرعوا الخطي بعيدا عني وأسرعت الخطي بعيدا عنهم. بلغت قهوة أحبها في شارع الفلكي قبالة فندق أمين، تهاويت جالسا علي اقرب كرسي مقابل لدكان ذلك الحلاق المثقف المجاور للقهوة، جاءني الجرسون هاشا باشا كعادته متسائلا ان كنت أريد القهوة المضبوطة أم الكركدي الساخن، قلت له :ما تشاء فقط أحضر معك ماءا كثيرا، استدار مسرعا، تحسست جيوبي بحثا عن نقود، فأدركت في هذه اللحظة فقط أنني قد تركت الطبيب بلاوداع وأنني قد تركت نقودي ومعظم أشيائي عنده، حتي ربطة العنق والجاكت تركتهما هنالك.
في اليوم التالي حين عدت الي الطبيب استقبلني بوجه باسم وهو يمازحني بلهجته المصرية: (أيه يا باشا دا انت سبت القمل بما حمل وروحت، احنا وحشين للدرقا دي؟) أطرقت برأسي خجلا وانا ابحث عما اقوله ولم ينتظر هو ردا، أشار بيده نحو الكنبة السحرية طالبا مني التمدد، فمضيت نحوها مستكينا راضيا، تمددت علي ظهري وتدفقت الصور أمام عيني سريعة متلاحقة كأنني جالس امام شاشة عرض عملاقة مظلمة فتدفقت بالحديث ، كنت أتحدث بسرعة شخص يحتضر وهو يسابق الموت الزاحف ليقول كل ما لديه قبل ان تظلم شاشة حياته للمرة الأخيرة، كان ثمة خدر لذيذ وشعور بالراحة يسري في عروقي كلما تحدثت ويحفزني علي قول المزيد ويستدعي آلاف الصور والوقائع الصغيرة والدموع المختزنة من أماكن مجهولة ويجعلها ناطقة بالحياة والألم، كان صوتي يصعد تلالا وجبالا، يعلو وينخفض، يتوحش ويمسي همسا، يصير صاخبا متفجرا ومتحولا الي شظايا ، ثم يعود خافتا باكيا، ثم يصير صراخا مجنونا له صدي ودوي. وحين جاءني صوت الطبيب طالبا مني التوقف تمردت دواخلي في البدء عليه، أنكرته واستنكرته، شعرت أنني في عمق جب مظلم ملئ بالأفاعي وثمة من يناديني ويمد الي حبل الخلاص، كان التعب قد نال مني وانأ أحاول عبثا الصعود إلي الأعلى والخروج، بات حلقي جافا، خارت قواي وأوشكت علي التدحرج إلي القاع حيث الأفاعي تنتظر وليمتها، مددت يدي فأمسكت بالحبل الذي جذبني الي الحافة، أعشي الضوء عيني برهة ثم تبينت وجه الطبيب الباسم، طلبت كوبا من الماء، فناولني الطبيب كوبا زجاجيا ملونا عليه رسوم لأسماك ملونة سابحة وحولها أعشاب ملونة، تناولت الكوب واحتسيته جرعة واحدة وتنهدت تنهيدة ارتياح ثم جلت ببصري في المكان كأنني أراه لأول مرة، نهضت واقفا، نظرت في عين الطبيب مباشرة وقلت له فجأة بلا مقدمات: ( دكتور..هل تعتقد أن جيناتي الوراثية حاملة لذلك الفيروس الذي يحمله أبي؟ هل تري بإمكاني إنجاب أطفال عاديين لاتجر في عروقهم شهوة تعذيب الآخرين؟! هل بمقدوري وبمقدورهم أن ننجو من تلك اللعنة؟(.
كانت أسئلتي مباشرة ومفاجئة كقذيفة أصابت هدفها قبل أن يجد ملاذا آمنا منها، انتفض الطبيب وامتقع وجهه وشحب وابتلع ريقه بصعوبة ولكنه لم يجبني، فضل الصمت ونهض من جواري حيث كان جالسا علي كرسي دوار جوار رأسي وأدار ظهره متجها صوب مكتبه المكتظ بكتب ومجلات كثيرة مفسحا المجال أمامي للنهوض ولملمة أشيائي واللحاق به، قلت لنفسي لعله يعطي نفسه فرصة التفكير في الإجابة وامتصاص صدمة السؤال، لعله أدرك بحدسه كطبيب ان الإجابة علي هذا السؤال وأسئلة أخري كثيرة تلازمني وتعذبني هو السبب في مغادرتي وطني وبحثي عن إجابة لدي طبيب لا يعرفني ولا يعرف أنني طبيب،كنت وحدي اعلم استحالة تعرية نفسي أمام أطباء اعرفهم ويعرفني جلهم، وكنت دائما اعرف بطريقة ما أن أبي قابع هنالك في أعماقي في مكان ما، حاملا سياطه ومستعدا للخروج ومنتظرا فرصة سانحة للهجوم علي والخروج الي العلن، كنت اكرهه مافي ذلك شك واعمل جاهدا للتحرر منه ولكنني كنت أعرف أنه موجود في داخلي بطريقة أو أخري وأنه قادر علي الانتصار علي رغبتي في التخلص منه، كان بالنسبة الي مثل جرثومة الملاريا كامن في الدم ينتظر ضعفا وخوارا يلم بالجسد ليعربد فيه من جديد ويفتك به وبصاحبه ويشعل فيه الحمي والضنى ويشرب من دمه كيفما شاء، كنت أعرف ذلك وأكابده حين تنتابني رغبة مجنونة في الانقضاض علي شخص ما وإلهاب ظهره بالسياط لمجرد انه اعترض سبيلي أو امتلك شيئا لم استطع إليه سبيلا ، مثل ذلك التلميذ صاحب الساعة في طفولتي الباكرة،
كنت أعرف ذلك حين تنتابني ثورة غضب هائلة تتعالي في فورانها متصاعدة متواترة لمجرد شعوري أو توهمي ان شخصا ما يسخر مني ولا يقدرني حق قدري، كنت أصحو مفزوعا بسبب تلك الأحاسيس .. أتصبب عرقا في ليل الشتاء، أسأل نفسي دوما: هل تري يكون لي ولاولادي من بعدي نصيب من تلك النيران وذلك اللهيب مثلي ومثل أمي وعلي؟ هل سيكرهونني ويتمنون موتي مثلما أكره أبي؟ هل تراني محقا في كراهيته أم انه هو نفسه ضحية لأرث ملعون وجرثومة موروثة لايستطيع لها ردا ولا صدا؟
كنت حين تفتك بي الأفكار السوداء التي تظل تدق علي ابواب عقلي بانتظام كمطارق في ورشة لتطويع الحديد، أمسك بجمجمتي بكلتا يدي سائلا عقلي الرحمة والرأفة بي، ثم أنهض وأتوضأ وأغرق في صلوات طويلة لاتنتهي وترتيل مستمر للقرآن ودموعي تجري بلا انقطاع حتي يؤذن الديك للفجر. كنت أتمني في صلاتي سرا وجهرا أن يطهرني الله من هذه الجرثومة الساكنة بدمي أو يحرمني خاصية الإنجاب حتي لا أعذب أحدا ولا يتعذب بفضل شهوتي وذريتي أحد مثلما تعذبت أمي وتعذب (علي) وتعذبت. كنت دائما متنازعا بين رغبتي في تكوين أسرة وعيش حياة طبيعية تمثل اعتذارا لطفولتي ولأمي وانتصارا علي ابي الكامن في دمي، وبين خوفي من تكرار تجربتي مع أسرتي المستقبلية، فقد كنت أخاف أن أكون نسخة منه مهما فعلت. بين هاتين الضفتين ضفة الأمل وضفة الخوف كان عذابي يتجدد ويتمدد وليلي يطول وهواجسي تفتك بي فتكا لاهوادة فيه ولا رحمة.
لم يقل الطبيب أجابة مباشرة لسؤالي كما توقعت، تحدث كثيرا وكانت خلاصة حديثه أنني من يملك الإجابة علي السؤال وليس الآن بل أن الايام هي الكفيلة بتحديد توقيت الإجابة، قال لي : تبدو مدركا للمشكلة الأساسية هنا ، ولكن الإدراك مفيد وضار في الوقت نفسه . لذت بالصمت برهة، ثم قلت له أنني أفهم جيدا ما يقوله، قلت له أن أبي كانت لديه قدرة فريدة علي ان يكون شخصا آخرا مختلفا عمن نعرفه نحن، شخصا جذابا ولطيفا ولبقا ومتدفقا في حديث يأخذ الألباب ينم عن أطلاع واسع وثقافة عالية. كنت أنظر اليه في شخصيته الأخري تلك فتشتعل نيرانه الساكنة بداخلي وأود لو أنني استطيع أن أقف خطيبا في قلب ميدان الأمم المتحدة بالخرطوم فيمن سحرهم بلسانه كي أخرج لهم كساحر شخصيته الأخري وأعريه امامهم كما كان يعرينا قبل ان ينهال علينا بسياطه، سأقول لهم بأعلى صوتي: لاتصدقوا هذه الابتسامة ولا هذا الصوت العميق الرزين ولاهذه الكلمات المنمقات ، هذا الرجل سادتي يجلد امرأة لاحول ولاقوة لها بسوط لاتجلد به الحمير ويعذب أولاده عذابا لم يعذبه طاغية لخصومه في أقبية سرية، هذا الملاك الكاذب الذي يقف إمامكم قتل عليا الصغير ووقف بدم بارد يتلقي العزاء فيه . لم تتحقق هذه الأمنية الا جزئيا أمام القاضي حين شكاني أبي إليه بعد سنوات عديدة. كنت قد صرت طبيبا وصار هو طاغية بلا رعية،كانت تلك جولة من جولاتنا العديدة أمام المحاكم، جولات كان هو الشاكي فيها ونحن المشكو منهم، كان قد فقد سياطه فأخذ يبجث عن سياط بديلة، كان يعلم كم تحبني أمي ويعرف أنها قد تحتمل أشواك الدنيا كلها فوق ظهرها ولاتحتمل شوكة واحدة تطعنني، لهذا السبب حين انتهت معاركه القضائية مع أمي وخالتي جميلة واخوتها بخسارة قضاياه وخسارة الأرض التي كانوا قد سمحوا له بالزراعة فيها لأجل خاطر أمي، ذهب من فوره شاكيا ضدي مطالبا بنفقة لايحتاجها ولايستحقها حتي يلتف علي موضوع الأرض من جهة أخري . أرسلت له رسلا وذهبت إليه باكيا وطلبت منه ألا يفضحني وعرضت عليه ما يريده وأكثر، لم يقل أكثر من انه لن يتفاهم معي وأمي المحرشة الا بالمحكمة.لم تجد كل الوساطات والعروض معه، فكانت المحكمة التي أرادها منصة خطابتي التي انتظرتها طويلا. دخلنا قاعة المحكمة سويا، وقف هو يمين منضدة القاضي في مسكنته المرسومة المعهودة بكل سمات القهر التي يمكن ان ترتسم علي محيا أب يعاني من عقوق الأبناء، نظرت اليه والمنضدة تفصل بيننا وصورة علي مضرجا في دمه تلتمع في ذاكرتي قانية حمراء، بدا كأنه لمح شيئا منها في وجهي فارتعش رعشة خفيفة وأطرق الي الأسفل. ابتسمت في داخلي وبكيت في آن واحد. نظرت الي القاضي فأدركت إنني الشاة السوداء في نظره، الابن الذي ليس لديه وازع من خلق أو دين، سألني القاضي بصوت حمل كل علامات التقزز والاستنكار الموجودة بالدنيا دون أن يحاول اخفاء ذلك: ماذا تعمل؟ أجبته بهدوء في حدود سؤاله فقال لي بصوت حاد ونبرة ساخرة: الا تعلم أيها الطبيب المتخرج من أحسن جامعات البلاد أنك أنت ومالك لأبيك؟....لذت بالصمت، فانطلق القاضي في محاضرة طويلة مطعمة بكل ما يحفظ من آيات القرآن والأحاديث والحكايات دون ان ينتظر ردي ودون ان يكترث بمقاطعتي له عدة مرات، وحين فرغ من حديثه الطويل نظر ناحية أبي نظرة ملؤها الشفقة ثم عاد ببصره الي بنظرة ملؤها الأحتقار وقال بصوت قاطع: (عيب والله أن تضطره ليشكوك...عيب كبير...) قلت له وانا اشتعل في داخلي كبرميل بارود علي وشك الأنفجار: وما ادراك يا مولانا إنني اضطررته ليشكوني؟ هو أمامك أسأله كم مرة جثوت عند قدميه وطلبت منه الا يصل الأمر هذه المرحلة ولكنه رفض... ولو أعطيته الآن كل ما املك وخرجت لعاد غدا إليك ليشكوني.. لايخدعنك مظهره يا حضرة القاضي...أنه ليس أبا....ليس أبا.) انتهرني القاضي بغلظة قائلا: (ها هو شيطانك يتحدث الآن، هاهو يمسك بك كثور هائج من قرونك ويمتطي ظهرك ويوجهك حيثما شاء... ألا تخاف الله في أبيك ؟ قلت له ودموعي تسابق كلماتي فترتطم بالأرض بصوت يكاد يكون مسموعا: (وهل خاف هو الله فينا؟ أسأله قل ليهو هو هل خاف الله في أمي وفي على؟ الواقف قدامك دا ...الساكت زي ابو الهول دا كان بيرقد أمنا قدامنا عريانة زي الشافع ويجلدا...ارفعي يدينك ...ارفيعهن خليني اشوفن...صبج...صبج....علقني في النيمة عريان زي ما ولدتني ...وجلدني...جلدني لمن الدم دشر....وعلي يا مولانا ...يقع ويقوم وهو يدقو...يقع ويقوم....في زول بضرب شافع بالشبط في وشو؟ يدقو لامن يموت.....) بلعت ريقي بصعوبة وغاب وجه القاضي الممتقع المكتسي بالدهشة المتنقل بيني وبين أبي الواقف صامتا كجبل في صحراء ( لابجدع لابجيب الحجار)، غاب المكان والزمان عن بصري ووجدت صوتي يهدر كمطر اواسط الخريف، كلما حسبته دنا من نهايته علا ايقاعه وازداد ضراوة من جديد، وجدتني بغتة فوق منصة خطابتي أستدعي من ذاكرتي بيسر مريب الوقائع والشهود والدموع والدماء من ظهر امي وكفيها ومن أوراق الشجرة التي شربت دماء على في الظهيرة، كان صوتي يعلو كصارية مركب منتفخة بالهواء، وكان أبي واقفا هناك كصنم ما ، جامدا في مكانه، ساكنا كرمال في صحراء لم تغشاها رياح، كان صوتي يعلو ودموعي تتزايد والشرطي يحاول أخراسي أو اخراجي حين انتهره القاضي وهو يحاول اخفاء دموع غالبته فهزمت وقاره الرسمي وبينت لي ان كلماتي ودموعي قد جندلته تماما، قلت ما كان حبيسا بصدري طيلة سنين طفولتي وصباي في ذلك اليوم، قلت ما يقال وما لايجب أن يقال، وجدتني فجأة أتحول الي ممثل وحيد علي خشبة مهجورة أبدل صوتي وصراخي متقمصا في كل لحظة شخصية مغايرة بلا كلل ولا خجل، كان هو واقفا هناك صامتا كأنه يراني للمرة الأولي في حياته، بدا في لحظة ما وكأن شيئاً يشبه دمعة قد غافله وسقط على خده، أدار وجهه للناحية الأخري بسرعة ومسح خده بكمه وعاد الوجه ساكنا كما كان، كان القاضي صامتا حائرا وكنت أصرخ باعلي صوتي: (علي أخوي غلط في شئ بسيط... شافع وغلط، وهو يدق فيهو وهو غمران...يدق فيهو... وانا الجامعة قريتا غصبا عنو... قريتا عشان اتحلا منو... قريتا عشان أمي دايراني اقراها، هو كان يشغلني زي العبد الليل والنهار فيشان ما اقرا... عشان ما في زول يكون احسن منو... لكين قريت.... بالدس قريت.. وبالجوع قريت وبالعري قريت... كنت بشتغل زي الحمار وكل ما القي فرقة بقرا... ولما مشيت الدفاع الشعبي وشفت الموت وجيت سالم الناس كلها سوت الضبايح لي جنياتا الا هو... فتحة خشمو قال اريتك ما جيت... اريتو قام فيك لغم ريحنا منك... في زول بقول كدا لي جناهو؟). صمت القاضي وصمت الطبيب طويلا ، كنت ساعتها جالسا قبالته بعيدا عن كنبته السحرية ولكنني تدفقت كما لم اتدفق من قبل وأمطت اللثام عما كان يجهله حول شخصيتي، نظر الي طويلا في عيني ثم نهض وصافحني بحرارة كأنه يصافح صديقا قديما. فيما بعد بعد عدة جلسات قصيرة قال لي الطبيب: (دكتور عاصم ، انت رجل قوي بكل ما تعني الكلمة من معني، انت لاتحتاج طبيبا نفسيا، فالطبيب النفسي مثل المصباح لايحتاجه الا من يمشي في الظلام وليس لديه نور داخلي يستضئ به، وانت يكفى النور الساكن داخلك لإضاءة كون بأكمله، ما تحتاجه لاينقصك، هو العزيمة فقط والقدرة علي وضع الماضي خلف ظهرك وقد كنت دائما حتي وانت طفل قادرا علي الفصل بين الماضي ورغبتك في المضي قدما، لذلك لست بحاجة لشئ سوي السير في ذات الطريق الذي رسمته لنفسك. انت لاتحتاجني ولاتحتاج أي طبيب ، ربما يحتاجك آخرون أكثر مما يحتاجونني. اعتبر نفسي محظوظا كوني عرفتك.) قلدني بقوة وطفق يبكي كطفل صغير والدهشة تفتك بي وشعور بالراحة يغمرني.
ساد صمت ووجوم بعد جملة عاصم الأخيرة، كانت بقايا القهوة قد جفت في فنجانه بينما كان كوب العصير أمام نوال كما هو لم يمس، كان الجو مائلا للبرودة وكانت نوال ترتعش وهي لاتدري هل يرجع ارتعاشها الي البرودة الشديدة أم الي هول ما سمعته، كان وقت رحيلها قد أزف، وكانت تعلم في داخلها أن هذه الزيارة ربما تكون هي المرة الأخيرة التي تجالس فيها (عاصما) أو تحاوره، كانت تدرك أن ما بينهما قد أنتهي تماما منذ تلك اللحظة التي امتدت فيها يدها الي الهاتف ومنحت ياسر النضيف شارة البدء، كانت تعلم أن السماء بينهما قد تلبدت بالغيوم وأكفهرت ولم تعد صافية كما كانت في سابق الزمان ولامجال لإعادة الصفاء إليها ، وكانت تعرف أنها بحماقتها وتسرعها وعدم قدرتها علي مقاومة تلك النيران الساكنة فيها قد حرمت نفسها من الرجل الوحيد الذي أحبها حبا خالصا لم يخالطه غرض. كانت تعرف في أعماقها أنها أحبته بجنون وأن ذلك الحب كان سببا مباشرا لغضبها الشديد، كانت تود لو كان بأمكانها ان تجثو عند قدميه باكية وتصرخ بأنه الرجل الوحيد في الدنيا بأكملها القادر علي إسعادها وإصلاح عطبها وأنها مستعدة للعيش جارية له، لكنها كانت تدرك بطريقة أو باخري أن الآوان قد فات علي كل ذلك، لهذا استجمعت أطراف شجاعتها وقالت لعاصم بصوت حاولت جاهدة إخراجه قويا وطبيعيا برغم إحساسها بأنها تكاد تموت اختناقا:( لن أقول لك سامحني يا عاصم، فانا أعرف انك قد فعلت ذلك منذ أول يوم علمت فيه بالحقيقة، وقد لايكون لما أريد قوله معني ، لكنه يجب ان يقال ولو من باب الاغتسال من الذنوب، عندما عرفتك في البدء لم تكن بالنسبة لي أكثر من مجرد جولة صغيرة ضمن عشرات الجولات في لعبة أدمنتها ، هي لعبة إذلال الرجال الذين يظنون ان بمقدورهم دوما نيل ما يريدونه من حواء متي ما ألحفوا في السؤال وأسرفوا في الاهتمام والملاحقة بصبر صياد علي فريسته، كنت أسعد بلعبة انقلاب السحر علي الساحر وهي لعبة مارستها أول مرة بالصدفة المحضة مع حامد السائق، ثم أدمنتها لاحقا، كنت انت بالنسبة لي في تلك الأيام الأولي طرفا ثانيا في لعبة شطرنج ممتعة يموت الملك في نهايتها ومن يلاعبني وأطلق ضحكة طويلة هازئة وأنا اقول بصوت أجش كصوت الرجال(كش ملك.)، كانت ندى تحبك حبا حقيقيا ولكنها تنتظر بغباء خطوة صحيحة منك علي رقعة اللعب دون أن تدري أن الخطوة الصحيحة ليست في الرقعة ، بل تبدأ منها هى، كانت تنتظر ببلاهة أن تأتي علي صهوة جواد أبيض وتطرق الباب بأدب جم، فتتمنع هي قليلا، حتي تخوض حربا متخيلة من أجلها ثم تردفها علي ظهر جوادك وتحلق بها عاليا وهي تبتسم بخجل مصنوع، لم تكن تدرك أن زمن الفارس علي الحصان الأبيض قد ولي ، وان أحصنة هذا الزمن وفرسانه مثل حصين السباق والمولد تتطلب ممن يريدها أن يبذل جهدا للحصول عليه، كنت أعرف ذلك كله وأعرف أنها تحبك وتنتظر خطوة منك، كنت أعرف أنها تخشاك بشكل أو آخر، وكنت أعرف مم تخاف، وكان بمقدوري أن أساعدها كي تبلغ معك ضفافا آمنة لو أردت ذلك، لكنني أمتنعت عن مساعدتها عمدا، ثمة شئ في أعماقي كان يريد الحصول عليك وكان يريد دخول حلبة السباق ضدها لا معها، لكن بدون أن اخسرها وبدون أن تشعر بأنني قد خططت لذلك أو إنني حصلت علي شئ يخصها. كان الباقي سهلا
ومعروفا، كنت أعرف أن حماسي للسباق ينتهي بمجرد أن تدخل فرس الرهان إسطبلاتي وتركض خلفي بجنون تاركة المضمار والحلبة لغيرها. لكن الأمر لم يكن سهلا كما تصورته، كنت أنت بصورك الكثيرة وجوعك الي الحنان وتلك الحكايات التي لاتنتهي تمارسون أوسع عملية تهديم جسور شهدتها حصوني منذ سنوات، كانت سدودي تنهار واحدا تلو الآخر ويدي ترتخي علي المقود وانت تتقدم بقوة بصوتك الحزين وجوعك الضاري الي الصدارة ولاشئ سواها، وجدتني فجأة أمضي عكس أتجاهي وأخالف علنا كل قوانيني. كنت علي وشك الدخول راضية في مغارتك حين علا همس عن علاقتي بمحمود المغربي وغطي علي كل شئ كسحابة سوداء وكان ما كان. أن كان ثمة إعتذار ينبغي ان اقدمه لك يا عاصم ، فانني اقول لك أن ندى تحبك حقا، وهي الأنثى الوحيدة في الكرة الأرضية القادرة علي منحك بداية جديدة ،نحن لانصلح لبعضنا أبدا، فانا معطوبة مثلك ولدي كهوف تفوق كهوفك وحجارة سوداء تفوق حجارتك السوداء، ولايمكن لكهوفنا وحجارتنا السوداء ان تكف عن ملاحقتنا إذا اجتمعنا، أنت تحتاج أنثي لا كهوف لديها ولا حجارة سوداء لتنسيك كهوفك ودهاليزك السرية، وأنا أحتاج رجلا يأخذني الي ضفاف آمنة بها مياه وفيرة تكفي لاطفاء حرائقي. خذ ندى ياعاصم وأركض بها أبعد ما تستطيع عن هذه الأرض الملعونة المسكونة بالدم والدموع والسياط والحرائق. خذها وأركب طائرة الي أي اتجاه ولا تعد أبداً .
كان القمر يحاكي في شحوبه في تلك اللحظة وجه نوال الشاحب الباكي، كانت قد قالت كل ما لديها، تلامعت بروق صغيرة في السماء مع التماع الدموع في عينيها، أصبح صوت تنفسها هادرا كمظاهرة من مظاهرات الجامعة البعيدة، رأي عاصم نفسه محمولا فوق الأعناق وهو يهتف في مقدمة المظاهرة باحثا عن طلقة تستقر في صدره العالي وهو يهتف باعلي صوته والجموع تهتف خلفه والجميلات ينظرن الي صدره العاري وعضلاته البارزة ويهتفن بحماس دافق، يبحث عن رصاصته فلا تجئ، يعود إلي الواقع حيث نوال الصامتة والريح تلعب بشعرها، كان يعرف أنها محقة في كل ما قالته وانه ليس لديه ما يقوله ، وكان يعلم أنهما باتا خطين مستقيمين متوازيين لامجال لالتقائهما أبدا. نهضت نوال ومدت يدها مودعة فمد يده وصافحها فوجد يدها باردة كأنها خارجة لتوها من ثلاجة موتي فسحب يده سريعا كالملسوع. أدارت نوال ظهرها اليه ومضت الي الأمام، وظل عاصم متسمرا مكانه يراقب طيفها وهو يبتعد حتي بلغت البوابة التي انفتحت بصرير عال كأنها دجاج نائم أيقظه قط جائع هاجمه بغتة. غابت نوال عن ناظريه وبقي صوت خطواتها يرن في أذنيه وكلماتها تتعالي من مكان ما بداخله كطبول حرب تدقها قبيلة بدائية بالحاح لاهوادة فيه. تمتم لنفسه بلاسبب:
women are nothing but drama queens.) )
تمت في اليوم الثامن من فبراير 2012
كتبت خلال الفترة من 15/10/2010حتي اليوم 8/2/2012
متنقلة مع الكاتب عبر ثلاث مدن هي دنقلا العجوز وكريمة والخرطوم
صلاح الدين سر الختم علي