Wednesday, September 4, 2013

القضبان والهدير / رواية/ صلاح الدين سر الختم على


هبت نسائم الصباح في عطبرة ومعها إرتفع صوت الآذان رخيما عذبا فدبت الحياة في منزل الحاج( صالح) مثلما تدب الحركة في فناء المدارس بعد رنين جرس الصباح،كان صالح كعادته أول من هب من نومه ونهض فحمل ابريقه النحاسى العتيق ويمم صوب الحمام الذي يقع في ركن منزو من الدار التي تتكون من فناء فسيح وثلاث غرف مبنية بالطوب الأخضرومطبخ صغير أمامه راكوبة صغيرة ، بقلب الفناء تقف شجرة نيم عملاقة ظليلة،بعد برهة يسيرة عاد صالح حاملا ابريقه وشرع في الوضوءعلي مهل، حمل النسيم اليه رائحة الحطب وهو يحترق معلنا ان حاجة فاطمة قد شرعت في اعداد شاي الصباح،انتصب صالح واقفا واستقبل القبلة ثم كبر وأقام الصلاة وشرع في الصلاة وهو يقرأ بصوت رخيم وحين فرغ من صلاته شرع في الدعاء في ضراعة وإلحاح، من ثم استوي واقفا وطوى سجادة الصلاة الصغيرة المصنوعة محليا من السعف ثم أخذ يتجول في الفناء حيث الأولاد لازالوا نائمين ليوقظهم لاداء صلواتهم والاستعداد لرحلاتهم اليومية صوب مدارسهم، كان الابن الأكبر كعادته يعود الي نومه بمجرد ان يوليه ظهره فيضطر الي العودة اليه ثانية لايقاظه فينهض متثاقل الخطى عابسا وعلي الوجه ضيق لايجتهد كثيرا لاخفائه وفي عينيه بقايا نعاس. كانت الحاجة فاطمة تؤدى صلواتها حينها وكبابي الشاى اللامعة قد رصت بعناية علي المائدة الخشبية وكانت الكفتيرة لاتزال علي الموقد بجانبها حتي تحافظ علي حرارة مافيها،استبدل صالح جلبابه بالابرول الازرق وجلس في موضعه من المائدة ويداه تعبثان بمسبحة اللالوب الضخمة وهو يهمهم بصوت خافت، فرغت الحاجة فاطمة من صلاتها وتجمع الابناء والبنات وصب الشاي باللبن فرشف صالح كوبه علي عجل وانطلق ميمما صوب المحطة العامرة بالضجيج حيث كان أكثر من قطار رابضا فوق القضبان الكثيرة، وكان قطاره واحدا منهن،والمحطة تموج بحركة يعرف صالح أنها تتصاعد مع مرور الوقت واقتراب ساعة الرحيل الوشيكة ثم يعقبها السكون، علي امتداد الطريق كان صالح يتلقي التحايا ويحى، وكان بعض رفاق العمل يتحلقون في جماعات صغيرة حول بائعات الشاي في المحطة يحتسون شايا أو قهوة وفي أيديهم حبات اللقيمات الصغيرة الشهية وضحكاتهم تعانق السماء، لم تكن المحطة مزدحمة، ففي مثل هذه الايام لايكون المسافرين إلا لفيفا من علماء الآثار الاجانب الذين يقصدون بلاد النوبة للتنقيب عن آثار مجهولة وآخرين يبتغون اللحاق بالباخرة في حلفا للتمتع برحلة نيلية إلي مصر، وهناك بعض التجار الوطنيين الذين يقصدون مصر للتجارة، وهناك طلاب العلم الذين يدرسون في الازهر والجامعات المصرية، ولاتخلو الرحلة ايضا من سيرة عريس أو موكب عزاء.
أخذ سائقو القطار أماكنهم في القاطرة وفي الساعة المعتادة دوت الصافرة الأولي، ثم تلتها الصافرة الثانية ، ارتج القطار بعنف وبدأت الحركة خافتة في البداية، ثم ارتج القطار مرة أخرى وانطلق.
لم تكن النوبة الأولى فى القيادة من نصيب (صالح) فاخذ يتصفح المشاهد حوله ومع الأيقاع الأليف لصوت العجلات على القضبان وصياح المودعين ووجوههم الطافحة بالدهشة والحزن التى أخذت تغيب رويدا رويدا و معالم المحطة الآخذة فى التلاشى هى الأخرى، مع كل ذلك سرح (صالح) فى البعيد و أخذ ىتذكر، كان طفلاً نحيلاً فى قرية نائية لا يبدد سكونها إلا صفير القطار ، يترك ما بيده بمجرد سماع الصافرة ويهرول حافياً صوب الشريط الحديدى ، ويتذكر تلك الوجوه التى يكسوها الغبار لأناس إعتلوا سطح القطار وتلك الوجوه النضيرة لركاب عربات النوم والدرجة الأولى ،الأصوات المتداخلة ،اللهجة الشايقية الممتلئة بحنين غامض وتلك الرطانة النوبية الآسرة والمبهمة فى ذات الوقت ، برنيطة الناظر العريضة وإبتسامته الواسعة الشبيهة بابتسامةأب ليلة زفاف أبنته ،المرأة الأجنبية التى ترتدى بنطلونا من الجينز المتسخ والدهشة والأرهاق اللذان يكسوان وجهها الذى لفحته الشمس . أبناء القرية اللذين نالوا حظاً يسيراً من التعليم وهم يركضون خلف عربة البوستة فى القطار طلبا لصحيفة قديمة ، ثم صافرة الرحيل وحلول السكون من جديد .عالم بأكمله يحل فجأة ويغيب مثلما جاء، كالحلم ،كالبرق الخاطف . لا يبقى إلا شوق غامض لقطارات أخرى وعوالم بعيدة تأتى وتغيب،هكذا تعلق قلبه وهو لا يزال صغيرا بهذا الساحر الذى يسمونه القطار ، لم يكن يحلم حتى بمجرد ولوج هذا العالم ، لكن كل شىء حدث فجأة دون مقدمات. ذات نهار إبتلع النيل الهائج مركباً صغيراً مصنوعاً من شجر (الدوم) كان يحمل وفدا ذهب معزيا للضفة الأخرى و كان والده الشيخ كعادته على رأس المعزين فابتلعه النيل فيمن أبتلع ذلك النهار وأرتفع العويل وتسربلت الدار بالحزن ، كان صالح حينها فى الثالثة عشرة ، ابنا وحيدا متوسطا لأربع بنات ينتظرن أولاد الحلال الذين تأخر قدومهم وبتن في رقبة الصبي الصغير، انقضت ايام العزاء سريعا ووجد (صالح) نفسه داخل القطار لأول مرة مع خاله حامد متوجها الى عطبرة بحثا عن عمل ، كان الخال (حامد) عاملا باحدى الورش التابعة لمصلحة السكة حديد – لذلك لم يجد كبير عناء فى إلحاقه بالعمل بها فاقبل (صالح) على عالمه الجديد بحماس دافق ، كان العمل هينا ميسورا لا يحتاج لمهارة خاصة فقد كان محصورا فى قضاء أعمال بسيطة ، يأخذ ورقة من هذا المكتب ويعود من ذلك المكتب بورقة الى هذا ، يحمل ادوات عمل لهذا من هنا ويقوم بتنظيف المكان والأدوات ، كان صوت خاله يأتى دافئاً (لا تتعفف عن أى عمل يا بنى – إلا عملا لا يرضى الله ورسوله – كل عمل حلال مفخرة) ، ويقول : (كلنا بدأنا هكذا يا صالح ، حتى ذلك الرجل الذى تراه هنالك يأمر وينهى ، بدأ ذات يوم من حيث بدأت) ...
وسرعان ما أنداح التوجس عن دفء حميم وغزاه فضول عارم وتعطش لا يروى وهو يرى الأيادى الملطخة بالشحوم والزيوت تفعل العجب فى كتل الحديد الصماء ،. تتشكل الاشياء كعجينة طرية ويمسي الصعب سهلا ميسورا، تغيرت نظرته للاشياء ووللناس من حوله تماما،الجفاء البادى والعبارات القاسية واللاذعة فى نقدها بدت له الآن شيئاً واقعاً لابد منه ومقياساً للتقدم والتأخر فى التعلم لا أكثر ولا أقل، فى الأيام الأولى كانت تدهشه تلك الروح التى يقبلون بها على عالمهم القاسى هذا ، التحايا التى توازى فى حرارتها ما تنفثه الورش من حميم ولهيب لافح ،الضحكات المجلجلة التى تتناغم كموسيقى بديعة الصنع وتلك المثابرة الدؤوبة على مافى الأيدى من أعمال والتى تشابه صلاة جماعية مقدسة لجماعة بدائية وتلك الفرحة التى تكتسى بها الوجوه الطافحة بالعرق المنهمر عند انجاز ترميم ما أو اكتشاف مكمن خلل ما ،هي فرحة من ملك الدنيا باكملها ،كل ذلك كان يفجر ينابيع دهشته وحماسته، كان عالما جديدا يموج بالحركة وبالحياة لا يشابه فى شىء سكون القرية أو أيقاع العمل المكتبى الموغل فى الرتابة والهدوء، وبدأ (صالح) يكتشف أشياء أخرى أكثر إثارة للدهشة ، أثناء عمله فى المكاتب كان يحدث أحيانا أن يأتى بعض (الخواجات) فكانت المكاتب تمسى أكثر بريقاً وترتيباً وتدب فيها حركة قلقة منذ الصباح الباكر ، فيعرف الجميع ان هنالك زيارة مهمة ستتم ، وعندمل يلج الزائرون المدخل يترك الجالسون مقاعدهم ويصطفون وقوفا ، تكثر الانحناءات والهرولة ، لا يتنفسوا الصعداء ويعود كل شىء إلى سابق عهده إلا بعد خروج الزوار . أما هنا في الورش فهنالك شىء مغاير تماما يحدث،. يدخل الزائر فلا يتوقف الضجيج أو صوت المطارق أو العمل و لا يترك أحد مافى يده و لا يدير أحد ظهره ،لا يهرول أحد ،. لا يتحدثون مع الزائر الا إذا بادر بالحديث فيأتى الرد مقتضباً يشعر الزائر بأنه ذبابة حطت علي أرنبة أنف ، وتستدير الظهور وتواصل الأيدى ما تفعل فيه فى صمت . يلوح فى الأفق جليا ان هنالك عدم ترحيب باد .. فى البدء اعتقد (صالح) أن الموظف الذى طاف غير مرغوب فيه لسبب أو لاخر يتعلق بشخصه ، ولكن سرعان ما أكتشف ان هذا التجاهل المتعمد والجفاء لا يختص به أحد الموظفين بل يشمل الجميع ، بات يتحرق شوقاً لمعرفة السبب ولكن ما قضاه من وقت فى الورش علمه أن الأسئلة شىء غير مرغوب فيه وأن ما تجهله اليوم تعلمه غدا دون حاجة للسؤال فلاذ بصمت يموج بالتساؤلات .
وكان (حامد) نفسه مثار دهشة وفضول بالغين فقد كانت له سطوة غامضة على الجميع ، أينما حل كان محط اهتمام وود لم يعرف لهما صالح سبباً ، كان حين يتحدث يصغى إليه الجميع وحين يغيب تتابعه الابصار كأنها ترقب شعاع شمس فى الأصيل عند ضفة النهر، وكان لحامد مجلس منتظم فى الدار لا هو مجلس أنس وسمر ولا هو بمجلس لهو وتسلية بريئة ، كانت ترتاد المجلس وجوه مألوفة لدى (صالح) ، يأتون فى سكون واحدا تلو الآخر ثم تدور أقداح الشاى و يتحدثون بصوت خفيض تخالطه حماسة طاغية تجسدها حركة الأيدى المصاحبة للحديث و تطول الجلسة وتقصر ولا تعلوا الأصوات أبدا ،ثم يتصافحون ويتفرقون فرادى مثلما جاؤوا ، لا تبقى إلا أعقاب السجائر على الأرض واوراق صغيرة مبعثرة على المنضدة الخشبية يجمعها (حامد) فى حرص باد و ودون أى توجيه أو حديث كان مفهوما بالنسبة لصالح ان هذا الجمع الصغير لا مكان له فيه فينزوى بعيدا أو يخرج للمقهى القريب ويعود قبيل إنفضاض الجمع .
ذات مرة وهو فى الورشة منهمك فى عمله ، أقبل أحد زملاء العمل بادره بالتحية ،كان عاملا القى به البحث عن الرزق ها هنا من قرية فى اقصى الشمال ، نوبيا يتحدث العربية بلكنة النوبيين المميزة جلس بجواره على الدكة الخشبية وبقى برهة صامتا يرقب ايادى (صالح) وهى تروح وتجىء ، ثم تبادلا حديثا عابرا .كان (محمد صالح) وهو اسمه يبدو مترددا كمن يفكر فى خطوة تالية ويتحسس مواقع اقدامه قبل الخطو ثم حسم تردده اخيرا وامتدت يده الى جيب الافرول الداخلى وخرجت بورقة مطوية بعناية وعليها اثار زيوت وشحوم ، قدمها الى صالح وهو يتساءل ان كان قد قرأها ، اخذ صالح الورقة وشرع فى القراءة بصعوبة وهو يهز رأسه بالنفى ،كانت الورقة مطبوعة طباعة رديئة لم تطمس رداءتها المفردات الملتهبة التى حوتها ، كانت تتحدث عن نشوء هيئة جديدة وعن اوضاع العمال وما يلاقونه من عنت ومشاق وعن المستعمر ووجوب مقاومته وان خيرات البلاد يتم نهبها وعرق العمال تتم سرقته فى وضح النهار ... الخ ، انهى (صالح) قراءته وهو يجهد الذهن ليتذكر اين سمع بعض المفردات التى بالورقة، ولكن عبثا . دار حوار بينهما حول الورقة لم يشبع حاجة (صالح) او يروى فضوله المتنامى فكل ما يعلمه (محمد صالح) هو انه وجدها داخل صندوق ادواته فى الصباح الباكر ، افترقا ولم ينس (محمد صالح) ان يحذره من ان (الخواجات) منزعجون جدا من الورقة ويجدون لمعرفة الجهة التى تقف خلفها ، فاتفقا على التزام صمت مطبق وعاد كل الى عمله .
ومساء فى المنزل طفق (صالح) يحدث (حامد) بحماسة عن حادثة الصباح ، وعن القلق والتوتر اللذين عليا وجوه الخواجات ،صمت حامد قليلا وقال وهو يحدق فى المجهول : (لن يذوق الراحة من يدخل بلدا على اسنة الرماح ، ماذا يتوقعون ان يفعل احفاد من اخترقت صدورهم المدافع فى كررى ؟! هل يستقبلونهم بالورود وهم احفاد كتشنر الذى قال لجنوده انه لا يريد أىة اسرى ؟! القضبان لم يصنعوها لكي تمشي القطارات بالناس فوقها بل لتنقل السلاح الذي يقتل الرجال...) .
لاذ (صالح) بالصمت وقد لمعت فى ذهنه فجأة الصورة الناقصة فى اللوحة منذ الصباح ... تذكر فجأة وهو يسمع نبرات صوت حامد اين سمع من قبل تلك المفردات ،فتساءل في سره: هل ؟! ... وانقطع حبل تفكيره بقدوم بعض الزائرين فانصرف الجميع الى الانس والمسامرة وعم الدار ضجيج محبب للنفس و دارت اقداح الشاى ثم تناولوا العشاء وبدأ السامرون ينفضون رويدا .. رويدا وعم سكون جديد ، ثم خلد اهل الدار لنوم عميق .وتتابعت الأيام حبلى بالجديد وانكسر السكون ، تتابعت المنشورات طافحة بالغضب والنداءات اللاهبة وباتت الرحلة الى مواقع العمل ممتلئة بالترقب وبالفضول و سرت حمى قلقة وسط كبار الموظفين وبخاصة (الخواجات) والمصريين وبات الجو ملبدا بالغيوم وطافحا بالشرر الذى قد يشتعل بغتة ، غزت الورش وجوه جديدة وغريبة، قيل انهم عمال جدد ، وسرى همس وسط العمال بأنهم مخبرين اطلقتهم الحكومة ككلاب جائعة فى إثر فريسة مجهولة ولم تتوقف المناشير ،كان الناس يأتون صباحا فيجدونها فى انتظارهم كفنجان القهوة والشاى ،وجاء لصالح من يهمس فى اذنه بأن دار العزاب امست خاضعة لمراقبة لصيقة وان عليه ان يكون حذرا ، لم يندهش صالح لذلك ... انهى الخبر الى خاله حامدفابتسم ابتسامة غامضة وقال بهدؤ (لا عليك) ، توقفت التجمعات الهامسة فى باحة الدار وتوقف سيل الزائرين بغتة ولم تتوقف المناشير . وذات يوم وشمس الظهيرة لما تزال حامية ، توقفت عربة حكوميةمن ذلك النوع المعروف بالكومر أمام الدار ،. اندفعت خطوات مسرعة نحو الباب ، كانوا مجموعة من (الجنود)... اقتادوا حامد الى العربة دون اى حديث وكان بالعربة مجموعة أخرى من الوجوه المألوفة لدى (صالح) . استدارت العربة ومضت وعبارةحامد الوحيدة التى أسرها فى اذن صالح ساعة وقوف العربة أمام الدار ترن : (لقد جاءوا اخيرا ياصالح ... لا وقت لدينا ... تعرف (محمد صالح) ... قل له : لا توقفوا القطار .... وسيفهم) .... وقف (صالح) يرقب العربة حتى اختفت عن ناظريه مخلفة ذرات من الغبار ثم استدار الى الخلف وعاد الى الدار والقلق يفتك به ، طفق يروح ويجىء ولا يدرى ماذا سيفعل و ظل عى حاله ذلك زمنا خيل اليه انه دهر باكمله ثم ماجت الدار بالحركة من جديد و فى زمن وجيز كانت الدار تغص كالورش تماما بالناس ، كانت الوجوه الأليفة بغضبها الدفين الذى لا تداريه وعباراتها الملتهبة اشبه ما تكون بحضن أم حنون كان (صالح) فى امس الحاجة اليه لحظتها ... 
من الشذرات المتفرقة التى بلغت اذنه ادرك (صالح) ان الحملة قد شملت مجموعة كبيرة وان التهمة هى (ادارة جمعية غير مشروعة) وان المعتقلين قد تم ترحيلهم الى السجن وان الزيارة ممنوعة تماما ... وبطرف عينيه لمح (محمد صالح) منزويا صامتا كأن الامر لا يعنيه فى شىء ، ركز بصره عليه برهة ، التقت عيناهما فى سكون ، ثم ادار (محمد صالح) وجهه ، كان الجمع يموج ويفور كبحر متلاطم الامواج ... العبارة تبدأ هنا ... فتكتمل هناك ... همس هنا ... الاجابة هدير هناك ... ثم اخذت الضجة تهدأ ... وبدأ الجمع يتفرق ويخفت ضجيجه ... فى لحظة ما وجد (صالح) (محمد صالح) الى جواره وحده فلم يتوان عن الهمس فى اذنه (لا توقفوا القطار) ... صافحه (محمد صالح) ومضى كأنه لم يسمع شيئا .

فى الصباح الباكر و (صالح) يهم بالدخول الى الورشة لفتت نظره المجموعات الصغيرة المتحلقة من العمال ،كانت بأيديهم ذات الورقة المعتادة و الحروف بارزة هذه المرة : (السجون ليست للشرفاء ... الاضراب سلاحنا) . حملت الريح الصدى و أمسى الهمس هتافا داخل الورش المكتظة ، توقف هدير الماكينات وصوت المطارق وسكنت حركة القطارات وتمددت فوق السكك الحديدية كحيوانات نافقة ، لم تدو صافرة قطار او ورشة. كانت الوجوه المتعبة طافحة بالفرح وتصفيق منتظم يدوى بين الفينة والاخرى ... وثمةهلع حقيقى إرتسم على وجوه الموظفين ذوى العيون الخضر وابتسامات مختلسة علت وجوه ابناء البلد من الموظفين .
كان المأمور يتصبب عرقا وهو يحاول عبثا اقناع المتجمهرين بفض الاضراب ، فيقاطعه الهتاف وترتفع في وجهه القبضات المتوعدة . آخر المطاف هرول المأمور مع حاشيته واختفى و ارتفع الهتاف عاليا وتكاثرت جموع العمال وازدادت الحناجر غلظة وزادت ثقة الجموع بنفسها ثم سرت همهمة مفادها ان الجنود قد تجمعوا بالهراوات خارج الورش فعلا هتاف غاضب و إندفعت الجموع واخذ كل واحد من المتجمهرين يأخذ ما هو قريب اليه ويلوح فى غضب و ارتفع هتاف ينادي بالوحدة والصمود ، ثم علا التصفيق خافتا فى البدء و أخذ يعلو كالمطر تدريجيا حتى شق عنان السماء وارتد صداه كهزيم الرعد . فتراجع الجنود الى الوراء،. علت الوجوه الغاضبة ابتسامات واسعة تفيض بالفرحة وأرتفع نداء من مكبر صوت من ناحية الجنود مطالبا المتجمهرين بإخلاء المكان سلميا ، فجاء الرد حاسما فى شكل هتاف يصم الآذان : (لا تراجع بل اقدام ... الحرية للشرفاء) .
تصاعد الهتاف حتى غطى على مكبر الصوت فبات ضعيفا أخرقا ، ثم صمت تماما ... ارتفعت الشمس فى كبد السماء وجمع الجنود فى موقعه فى مواجهة الافواج الغاضبة التى لم تكف عن الهتاف ولم تبرح مكانها. وبات كل شىء ينذر باحداث جسام ، استمر الحال كما هو لفترة ، ثم بدأ الجنود يتراجعون بخطوات واسعة الى الخلف حتي افسحوا طريقا فى منتصفهم بدت فى اخره عربة تشق طريقها بصعوبة نحو الامواج البشرية المتراصة ، ساد صمت يسير ، ثم تبينت طلائع الكتل البشرية المتلاطمة الوجوه التى فى العربة القادمة فدوى التصفيق ودوى هتاف يموج بالفرحة وانهمرت انهار الدموع ، كان المعتقلون فوق ظهر العربة القادمة يرفعون اصابعهم بعلامة النصر والدموع تبلل الوجوه فيجيبهم هتاف يشق عنان السماء ، اندفعت الجموع صوب العربة و حملوا من فيها على الاكتاف وتلاطمت الامواج البشرية ، غسلت الدموع الوجوه المتعبة ، ولاول مرة فى العمر رأى (صالح) دموع (حامد) تسيل بغزارة ، لم يكن يتصور انه يعرف البكاء قط ،لاحت فى ذهنه صورة الرجال وهم يجهشون بالبكاء ليلة غرق المركب ووجه خاله الصامت خاليا من التعابير وساكنا تماما كصفحة نهر فى الظهيرة ، افاق من تأملاته على يد قوية تهز كتفيه بالحاح ، التفت وجده احد عمال الورشة ، احتضنه بقوة وهو يغالب دمعه تتسلل خلسة ، استدارت العربة التى جاءت بالمعتقلين شقت طريقها بصعوبة وسط الجموع وغابت وسط غابة من عربات الجنود التى بدأت فى مبارحة المكان فى سكون المنهزم، لم يتوقف الهتاف وبدأت حركة حثيثة تدب فى الصفوف ،رصت موائد حديدية فوق بعضها واخذت شكل منبر الخطابة و تحلقت الجموع حولها جلوسا على الارض فى شكل دائرة كبيرة ووقوفا على اطراف الدائرة ثم تقدم (حمد) البراد فى ورشة الصيانة بخطى واثقة الى المنبر -كان احد المعتقلين وقد عرف عنه عزوفه الدائم عن الحديث- لذلك ملأت الدهشة وجه (صالح) وهو يسمع نبرات قوية تتحدث بطلاقة مدهشة ،تتوالى المقاطع ملتهبة وصاخبة فيقاطعها التصفيق ،. تحدث حمد عمن التهمت الماكينات اياديهم واخترق الداء صدور اطفالهم ولم يجدوا يدا تمتد لهم وعما يراد بالعمال من شرور و عن الهيئة الوليدة التى ولدت من رحم المعاناة لتحمى العمال والبلاد، وتعاقب الخطباء ، حتى حان دور (حامد) فتقدم فى هدوء والأكف تلتهب بتصفيق داو ، وطفق فى الحديث باسلوب آسر ... (اود ان اشكركم كثيرا ، فبفضلكم انتم صار هذا ممكنا ...) ودوى التصفيق ... وواصل : (هل هذا غريب عليكم ؟! كلا ... من شق الطريق ؟! من مد السكك الحديدية من ؟! هل مدها القابعون فى الكراسى الوثيرة ؟! وهذه القطارات الرابضة الان كتلا صماء من الحديد من يشعل فيها الحركة سواكم ؟!) واندفع فى الحديث هكذا ، كان كجراح ماهر تلمس اصابعه فى حساسية مرهفة موقع الجرح فينتفض المريض ،لغة بسيطة وحقائق بسيطة لم تكن تحتاج سوى من ينفض عنها الغبار ، كان آسرا كحجاوى الحبوبات تنشر فترتفع العيون والافئدة تتعلق فى سكون بالعالم الذى ينداح عبرها ، عم الصمت والصوت يأتى من اعماق بعيدة فيغور فى الاعماق :
(لا تسرفوا فى الافراح فتلك اولى تباشير الهزيمة ، امامكم الكثير ، لكن فقط يجب ان نعلم اننا قوة ... وان قوتنا فى اتحادنا ، لذا ولدت هذه الهيئة ،انهم يريدوننا تروسا تدور فى صمت وفقا لاهوائهم مع الالات فى الورش وذلك ما لن يكون ، سنقود القطار، لكن الى حيث نرغب ونبغى ومتى ما نريد ،لسنا لصوصا لتفتح لنا السجون بواباتها ... ) . (ان صدور اجدادنا التى ثقبتها المدافع التى حملتها البواخر تنادينا وجبال كررى الخرساء فقدت القدرة على النطق من هول مارأت) ... غالبته دمعة و لم يستطع المواصلة ، اختتم على عجل واستدار فتلقفته الجموع وعلا الهتاف من جديد .
تسمر (صالح) فى مكانه والدواخل تموج باشياء شتى ، كانت الشمس ساطعة الان بوهج غريب ،شعر برغبة مفاجئة فى ان يغمض عينه برهة حتى لا تصيبه كتلة الضوء المتدفقة بالدوار و تنازعته احاسيس غامضة وعيونه تتابع الجمع و (حامد) يعلو ويهبط وسط الامواج كسارى سفينة فى قلب المحيط ، شعر برهة بذلك الاحساس الذى يجتاح كفيفا بعد جراحة ناجحة فى لحظة رفع الطبيب للضمادة عن عينيه وبرهة اخرى احس بأنه متوحد توحدا غامضا مع هذه الامواج وفارقه ذلك الإحساس الذى عشعش داخله طويلا منذ رحيل أبيه ، الإحساس بأن الموج الذى التهم أباه يتلاعب به كقارب صغير مثقوب ، دون أن يدرى أية قوة تلك التى إنبعثت فى أعماقه وجد صوته يخرج مدوياً بالهتاف ، فتردده الجموع فيزداد صوته غلظة ويشق عنان السماء من جديد والدموع تغسل وجهه، فلا يبالى ، ومضى دون خطى يخطوها تتدافعه الأمواج البشرية فى تناغم بديع.

xxxx 
... فى الأيام التى تلت ذلك اليوم المهيب تبدلت أشياء كثيرة صارت الوجوه اكثر ألفة وطافحة بثقة عميقة فى النفس وكبرياء عظيم ، حب جارف للعمل ورغبة عارمة فى فك طلاسمه أمست تدفع (صالح) دفعاً ، لم يعد يتذمر إلا من الفراغ ، كان يجلس دون كلل الساعات الطوال جوار الأسطى (عبد الله) وعيونه مثبتة فى إنبهار شامل على حركة أياديه الماهرة وهى تروح وتجىء فى صبر على الحديد... لذة لا تدانيها لذة تلك التى يعيشها الأسطى (عبدالله) حين ينجح في إنجاز مهامه في أعمال الصيانة... ومع حبات العرق المتساقطة تلتمع الإبتسامة على الوجه الذى شقته الأخاديد التي صنعتها الشلوخ المميزة لقبيلة (الشايقية) . كان (صالح) يلازمه كظله وعلى يديه تدرج شيئا فشيئا حتى أتقن فنوناً شتى دفعت به إلى مصاف العمال المهرة .
... فى الجانب الآخر نزعت الهيئة الوليدة ثوب الغموض وباتت جزءا من الحياة كالماء والهواء والعمال والماكينات ، عقدت الاجتماعات علانية وتم إختيار القادة الذين لم يغير الإختيار فى حياتهم شيئا ، لم يبرحوا مواقعهم فى الورش ،بادلوا من أتوا بهم حبا بحب ، تعاظم نفوذ الهيئة فلم يزدهم ذلك إلا تواضعاً ، أمست الهيئة بالنسبة للعما ل كالعصا عند أهل الريف لا تفارق الأيدى وترتفع كلما إقترب خطر داهم أو لاح فى الطريق ثعبان يتلوى ، شكا العمال من نقص مياه الشرب ورداءتها والأكواب الصدئة ، فبلغ الهمس الهيئة فإذا بالحال يتبدل سريعا ، اكواب نظيفة وجرة ماء فى كل ورشة قبعت فى مكان ظليل ، وإحتدمت المناقشات حامية بين الهيئة والمسؤولين حول الأجور ومن أقعدتهم إصابات العمل ، تأزم الموقف ، إصرار متعاظم من قبل الهيئة وتمهل ومراوغة وتعنت باد من الطرف الآخر . خرج وفد الهيئة من الإجتماعات غاضبا ،. وسرى همس تعاظم عن إضراب وشيك وعن بوادر حملة إعتقالات تلوح فى الافق و باتت الأجواء متوترة و تحلق العمال فى مجموعات تضج بغضب كظيم ، تلقفت الأيادى بيان الهيئة فى فضول وسرت عبارات البيان وسط الجموع سريان التار فى الهشيم ، وعلى غير المتوقع كانت الخطوة التالية للهيئة تسيير موكب للمركز لتقديم مطالب العمال ، كانت أمواجا هادرة تتدافع ، الوجوه متعبة لوحتها الشمس وحبات العرق المتساقطة قد بللتها ، الحناجر تدوى بالهتاف و أمواج بشريةتحاكي أمواج الدميرة فى عنفوانها وتمردها تنطلق وهو كمركب (دوم) صغير تتدافعه الامواج ذات اليمين وذات اليسار ، الهدير يدوى فيسرح ببصره فى البعيد و يرتحل الى عوالم قصية ، لم يعد ذلك القروى الصغير المبلل بدموع مأساة صغيرة ، قوى عوده وإشتد ساعده ، إنتصب على الوجه الصارم كحد سيف مشرع شارب كثيف و باتت العيون طافحة بالجرأة ، ينتمى الان الى عالم كالمدى إتساعا ، يدين له بالكثير ، اتاه غريرا لا يحسن صنعة فبات عاملا ماهرا... نظرات المعلم (عبدالله) تفيض إعجابا وهى تلاحق حركة اياديه ... (حامد) امسى فخورا به ،. ويتذكرحروف اول رسالة خطتها اياديه لاخيه (عبدالله) : (الحياة هنا عنت ومشقة ، ولكن ، لها طعم جميل ، هذه الرسالة لم يكتبها لى احد ، هل يدهشك ذلك ؟(الهيئة) جلبت لنا متطوعا لتعليمنا – انه رجل فريد ، على يديه صارت كتابة هذه الرسالة شيئا ممكنا ،. لم اعد فى حاجة لاستجداء احد ... هل تصدق ؟) . لمعت فى ذهنه صورة حجرة الدراسة بجدارها المتشقق و.سقفها الملىء (بالرقراق) ، جلستهم ارضا على برش من السعف ، بنطال المعلم ذى البنية الضئيلة ، مشاق الايام الاولى في التعلم و الخجل البادى على الوجوه ، الفضول المتنامى للتعلم ، لمبة (الجاز) الصغيرة فى الايام المظلمة ... ضوءها الشاحب وحبات العرق المتساقطة من جبين استاذ (حمزة) و نظرات زملاء العمل المملوءة دهشة – وإستخفافا احيانا – فى بادىء الامر ومن ثم تحول الدهشة الى تقدير غامض وعميق مع بروز ثمار الدراسة ، انهار الخطابات التى خطتها ايادى الدارسين لاهل رفاق العمل ، كان عالما جميلا انفتح امامهم بغتة .عاد صالح الي الواقع الماثل، كانت الجموع قد بلغت (المركز) الان ، إشتد الهتاف و إنطلقت الاقدام تضرب على الارض بايقاع موحد فيرتد الصدى كهزيم الرعد ،... كان الجنود يسدون الطريق على الموكب ، عيونهم غائرة فى محاجرها و الغبار قد علا الوجوه و التحفز باد ، توقف الموكب واخذ الهتاف يشتد أكثر ، سرت حركة محمومة فى صفوف الجنود و باتوا فى وضع إستعداد ، ارتفعت اياد فى مقدمة الموكب تطالب بالهدوء ، تقدم قادة الموكب الى الامام ، كانوا مجموعة صغيرة ضمت (حامد) و (محمد صالح) وثلاثة اخرين ، تقدموا فى ثقة وثبات باتجاه بوابة المركز ، دوى صوت الرصاص فساد هرج ومرج عظيمان و علا هتاف غاضب ، إستدارت مجموعة المقدمة عائدة و هتفت بالجموع ان الرصاص فشنك ودوى هتاف : (الرصاص فشنك) (الرصاص لن يثنينا) ، انبرى (محمد صالح) يردد الهتاف فتردده الجموع من خلفه و دوى الرصاص مجددا. فتلون وجه (محمد صالح) بالالم وترنح والدهشة تكسو الوجه النحيل ، إستدار محمد صالح و انفجر نهر الدماء من مكان ما وهوى كنخلة سقطت في النيل ، سقط منكفئا على وجهه على الارض كمن يقبلها للمرة الاخيرة ، كان ظهره الان نافورة دماء حمراء قانية، ساد وجوم وصمت قصير ، ثم علا الهتاف مجددا و تدافعت الجموع فى غضب وتصميم الى الامام ، تراجع الجنود و لعلع الرصاص و الجموع تتقدم تسابقها انهار الحجارة المتدفقة باتجاه الجنود ، الضجيج يعلو والهتاف ، الجنود يتراجعون فى فوضى و الغاز المسيل للدموع ينتشر كسحابة فوق الرؤوس و اختلط الحابل بالنابل ، وشيئا فشيئا انجلت الساحة وأختفي الجنود وأخلوا المكان للجموع الغاضبة ، حملت الجموع الجسد المسجى و توكأ الجرحى على اكتاف الاصحاء وانطلقوا فى مواكب هادرة كما تتدافع المياه فى المجارى اثناء مطر منهمر فى قلب الخريف ، سالت دموع الرجال ، خرجت المدينة علي بكرة ابيها و علت زغاريد النسوة ، تدافعت الجموع من كل صوب وحدب نحو منزل الشهيد حيث كان ابيه الشيخ يبكى كالاطفال و النسوة يولولن بنبرات حزينة تستدعى الدمع ماطرا غزيرا ، شق من يحملون الجثمان طريقهم بصعوبة بالغة حتى دخلوا غرفة صغيرة ضاقت بمن فيها ، القى (صالح) نظرة اخيرة على الجسد المسجى ، فغالبته الدموع و اظلمت الدنيا فى عينيه ، صارت الوجوه الشاحبة تتأرجح فى فوضى و دارت الغرفةبه ، صار أسفلها عاليها وكل شئ فيها يترنح مثله ويتأرجح، مضى يترنح وهو يبحث عن المخرج ، اصطدم بالداخلين وبالواقفين ومضى يتأرجح كأوراق الاشجار حين تحملها رياح الشتاء ، فاجأته الشمس سا طعة فى الخارج ، إرتفعت يده فى فى حركة لا ارادية لتغطى الوجه المبلل بالدموع ، كانت الجموع فى الخارج تزأر كأسود جائعة وهي تتزايد و الزغاريد تمتزج بالهتاف وشىء يشبه الخوار يرتج فى صدره وهو يترنح يمنة ويسرة ، ثمة أياد تحيط به وصدر يضمه ونشيج حزين ينبعث من صدر من ضمه والصور تتقاطع فى ذهنه ، مرآى الدماء و الاحذية المبعثرة فى فوضى و بقع الدم على قميصه لاتزال نديةو ضحكة (محمد صالح) تدوى مجلجلة فى الورشة استحسانا لنكتة رويت عن احد (الحلفاويين) : (ياربى ، هل يموت المرء هكذا بغتة ؟! فى العيون شوق وبالحنجرة بقايا هتاف !!) واندفع فى نشيج حار وفى الذهن صورة مشوشة المعالم ليد غطتها الدماء وهى لما تزل ممسكة بقوة وريقة صغيرة غطتها هى الاخرى الدماء ، تحرك الموكب و بدت الرحلة للمدافن طويلة ، كانت القوائم الخشبية الحمراء لذلك العنقريب الخشبي الذي وضع فوقه الشهيد تعلو وتهبط فى المقدمة كمركب صغير تتقاذفه الامواج و الهتاف يدوى و الشمس مائلة الان للاصفرار والظلام يزحف فى سكون .
*******************
كانت صرخات الصغير تناديه ، الأيادى الصغيرة تعلو وتهبط ، وصوت الإستغاثة يدوى مع العلو ، اندفع و ألقى بنفسه فى اليم ومضى يشق الماء فى حزم ، عندما بلغ موقع الطفل كانت صفحة الماء ساكنة ، لا أستغاثة ولا أياد تلوح ، أدار رأسه يمنة ويسرة ، لا شىء ،. ضرب الماء بيديه فى جنون وأنشأ يصرخ ، عاد الصدى من الشاطىء ، ادار رأسه مرة اخرى ، لا شىء ، أخذ نفساً عميقاً ، غاص فى الأعماق ،و يداه تجوسان و لا شىء سوى المياه تحيط به من كل جانب، شىء ما يمسك بتلابيبه ويجره إلى أسفل النهر ،فيقاوم بشراسة ، يصعد الي الأعلي قليلا ، فيجذبه الشىء المجهول إلى القاع مجدداً ، استجمع قواه وأندفع كالقذيفة الى الأعلى و. برز وجهه على سطح الماء و انطلقت صرخته مدوية قبل ان يشده الشىء المجهول إلى القاع ثانية لمح خاله( حامد)عند الشاطىء ، كان مديرا ظهره للنهر وفى يده اليمنى حزمة من الأزهار ، فى اليد الأخرى كان يحمل منجلاً ، صرخ بكل قواه مستغيثاً به فلم تخرج الصرخة ومضى يصرخ واللسان ملتصق بمكانه لا يتزحزح قيد أنملة، شىء ما يشده للقاع باصرار فيقاوم. وأخيراً استطاع أن يستوى واقفا ودوت الصرخة الحبيسة وخرجت للفضاء فأفاق ووجد نفسه يتصبب عرقاً ، لا نهر ، ولا مياه ، إنما جدران متشققة ميز فيها جدران بيت العزابة ، كان خاله جالسا على سريره المعهود الآن وهو يتمتم ببعض الآيات القرأنية ، اعاد النظر فيما حوله وحاصره الخجل ، كان كابوسا إذا ،. لكنه لا يتذكر شيئا و على وجه الخصوص لا يتذكر متى بلغ هذه الدار ومتى خلد للنوم ومتى حضر خاله ؟ كانت حواسه متبلدة تماما والذاكرة ورقة بيضاء ، اعاد البصر كرة اخرى نحو خاله فهاله ان يلحظ شيئا لم يلحظه اول مرة ،. كان الساعد الايمن لخاله( حامد )ملفوفا بضمادة كبيرة بها بقعة حمراء قانية فهب قلقا وهرول باتجاهه متمتما : (خالى ... ما بك ؟ هل أاصبت ؟) هز (حامد) رأسه بالايجاب وقال بهدوء : (لا عليك ، لا شىء ، انه جرح صغير يا صالح كيف حالك انت ؟ لقد اتوا بك فى حالة يرثى لها ، ويبدو ان نومك كان مليئا بالكوابيس) . ليت كل شىء حدث فى هذا اليوم كان كابوسا تزيحه الإفاقة من النوم ياخالى ، وجد نفسه يهمس (محمد صالح لم يمت اليس كذلك ؟! ... كان الأمر مجرد كابوس ؟!) هز (حامد) رأسه فى أسى وخرجت من صدره زفرة حرى وقال : (الشهيد قنطرة يا (صالح) – قنطرة تأخذنا الى عوالم بعيدة ... ومحمد صالح كان كذلك فى حياته ، كان ملكا للجميع). نبرات صوت حامد تمضى به بعيدا في جوف الذاكرة فيتذكر وتنهمر التفاصيل.، كان القطار يشق طريقه فى حزم الى محطة ما و توتر باد يعلو الوجوه و حزمة الأوراق العزيزة قابعة فى سكون اسفل وسادة القطن القديمة ، كانت تلك هي مهمته الأولى وكان (محمد صالح) رفيقه فيها ، بقدر ما كان (صالح) متوترا وقلقا كان (محمد صالح) مرحا سعيدا كالاطفال ، كان الوجه طافحا بالبراءة والابتسامة عريضة واسعة و كلما اوغل القطار فى رحلته خفت حدة توتر (صالح) ، يتذكرالان ... فجأة طافت برأسه الفكرة وهو ينظر الى (محمد صالح) فيلمح شعيرات بيضاء صغيرة يراها للمرة الاولى اشار اليها وقال له : (لماذا لا تتزوج يامحمد صالح ؟الزواج قطار لن تدركه اذا غادر المحطة) ضحك محمد صالح ملء شدقيه ورد ببساطة : (من قال اننى لم افعل ؟ تلك هى زوجتى) واومأ برأسه تجاه الوسادة ، فانفجرا ضاحكين .
كركرت العربة فى الخارج ، فمزقت السكون و اعادت صالح الى الواقع ، زفر فى غضب وهو ينظر باتجاه خاله الجريح .. (ماذا يريدون بعد !! ألم تكفهم مذبحة الظهيرة ؟) سمعا طرقات قوية ارتج لها الباب الخشبى العتيق فنهض (صالح) متثاقل الخطى ، كان ضوء القمر ساطعا حين فتح الباب ، كانوا مجموعة من الجنود مدججة بالسلاح ، تقدم كبيرهم فى صلف و ازاح (صالح) بيده عن الطريق ودلف الى الداخل دون استئذان ، إقتادوا الخال حامد فى سكون وأخذوا (صالح) هو الاخر هذه المرة معهم، استدارت العربة وانطلقت ، على ارضيتها المكتظة كانت وجوه عديدة مألوفة ، تبودلت النحايا فى سكون و نسمات الليل الباردة تهفهف فتلسع الوجوه لسعا خفيفا ، الشوارع خالية وصامتة إلا من نباح كلاب بعيد ، شقت العربة طريقها حتى بلغت بوابة السجن الذى ميزوه باسواره العالية وجدرانه المبنية من الحجر ، أنفتحت البوابة بصرير مزعج ، دلفت العربة داخل السجن ، ثم توقفت و انزلوهم واحدا تلو الاخر ثم صفوهم فى طابور طويل ، فتحت الابواب الداخلية ، ولجوا الى الداخل ، ووقع خطوات الجند وهي ترن فى الفضاء عن يمينهم ومن خلفهم هي التي تسمع، انتهت الرحلة فى عنبر طويل ، من البعيد أتى صوت البوابة و الصرير ذاته ثم صوت الرتاج وهو يغلق ثم ساد صمت طويل .

تواترت ايام السجن موحشة كئيبة ، كانوا عشرة رجال من ورش مختلفة واعمار مختلفة ، كان (صالح) اصغرهم سنا ، فى البدء زجوا بهم فى عنبر واحد مع سجناء عاديين ، لصوص وقتلة ومجموعة من (الهمباتة) تنتظر المحاكمة ، بدأت خيوط علاقة غريبة وشائكة تنشأ بين المجموعتين ، كان السجناء ينظرون للمعتقلين نظرة مشوبة باحترام غامض ،بينما ينظر اليهم المعتقلون نظرة توجس وامتعاض ثم تغلب فضول متبادل على الحواجز ، استمع المعتقلون لقصص مختلفة فى تفاصيلها متشابهة فى الاصرار على إدعاء البراءة من الجرم من السجناء ، وبذلوا جهدا كبيرا لشرح الظروف التى ادت بهم الى هذا المصير . وجد (صالح) نفسه مشدودا بخيوط الفضول الى عالم (الهمباتة) الغامض من خلال قصائدهم التى تعلوا عقيرتهم بها فى ساعات القيلولة، كان يتسلل الى جوارهم ليسترق السمع فى سكون ، كان شعرا تتمازج فيه العامية والفصحى و يصور عالما ممتلئا بتناقض حميم ، شوق الى المغامرات وفخر بالغزوات والغنائم المسلوبة فى جنح الظلام وضيق عميق بالقيود والهوان الراهن وحنين غامض الى رفاق لم تطالهم القيود وإلى نساء ينفقون ما يأخذونه غصبا على مسرات صغيرة عندهن،نساء لاتكتمل رجولتهم إلا بنيل رضائهن وفى الوقت نفسه تكون علاقتهم بهن أوهى من خيوط العنكبوت، كانوا رجالا شجعانا وكرماء وغيورون علي كرامتهم الشخصية لكنهم لايتورعون عن ارتكاب جرائم بشعة لا لشئ سوي اثبات الذات والفخر الأجوف ، كانت مصادمة عقائدهم عملا أخرقا جربه (صالح) مرة ولم يعاود الكرة ثانية، فقد بات على قناعة تامة بأن لا جدوى من ذلك البتة .فاكتفى بالانصات الى اشعارهم وقصصهم المثيرة الفصول. 


xxxx


تتابعت الايام رتيبة مملة ، وبغتة اخذت الأحداث منحى جديدا بدد الضجر وجددالحياة فى العروق التى كادت أن تيبس من طول البقاء على ارضية السجن الصلبة ،فقد تجمع المعتقلون ذات صباح و تحدث (حامد) عن رداءة الطعام و عن المعلم (عبد الله) المريض الذى رفضت ادارة السجن علاجه و قال فى غضب باد : (لقد ألقوا بنا فى غياهب السجن دون تهمة أو تحقيق. واين ؟مع القتلة واللصوص ؟هل يستوى من يدافع عن الحق فى الحياة مع من ينتزعها ويسلب مقوماتها فى دناءة ؟!هل يستوى الطيب والخبيث؟!وإلى متى يسرح الدخيل في بلادنا ويضعنا في السجون؟) ومضى فى الحديث بصلابة لم تنل منها أيام السجن الموحشة، دبت في السجن حركة أقدام الحراس القلقة ، اقتربت خطاهم مع موعد الافطار ، واجهتهم وجوه غاضبة وهتافات معادية ودفعت الأيدى جراية السجن بعيدا ،. كست وجوه الحراس الحيرة والدهشة ، هرولوا علي عجل وعادوا بنائب المأمور ، كان القلق ينشر على وجهه حين أنهى المعتقلون مطالبهم فى ايجاز اليه : السجن المنفصل و العلاج و تحسين الطعام والمحاكمة العاجلة أو اخلاء السبيل وإلا : إضراب عن الطعام على ادارة السجن تحمل نتائجه ، جف حلق نائب المأمور وهو يتحدث بنعومة تارة وفى حدة تارة أخرى لم يتبدل شىء ، بدا كأنه يحادث صخرا او جدارا أصما ، تصبب عرقه غزيراً و قال بمسكنة (هل تريدون ان تخربوا بيتى ؟.انا لا أعاديكم ، لكنها وظيفتى، أكل عيشى) ... طال الحوار و حل ميعاد الغداء ، عاد الحراس بالغداء مثلما عادوا بالافطار ومضى نائب المأمور ساخطا قانطا ، وارتفع صوت( حامد) مدوىا ليبعث حياة جديدة فى الوجوه المتعبة : (ليس بعد السجن شىء ، ليس لدينا ما نخسره أو نخشاه 
(.
قبيل الغروب حضر المأمور بنفسه . طلب من المعتقلين أن ينيبوا عنهم من يجتمع به ، ذهب الوفد ،غابوا طويلا و الترقب والقلق يفتك بالبقية و بعد زمان بدا دهرا عادوا ، الوجوه تكسوها راحة عميقة وبشر باد ، تم رفع الاضراب ، وفى الصباح التالى حضر الحراس باكرا و إقتادوا السجناء فى صمت لم يبق بالعنبر سوى المعتقلين ، حضر طبيب أنيق شرع فى فحص المعلم (عبدالله) باهتمام و اعطاه أقراصا ومضى فى سكون مثلما جاء ، صار الطعام يأتيهم طازجا فيطبخونه بانفسهم كيفما شاءوا ، ضحكوا وقالوا لبعضهم في سعادة ( لعزمنا يلين الحديد وننتصر).وولكن الأمور لم تسر علي وتيرة واحدة فذات نهار ولج العنبر فوج جديد من المعتقلين ، فماج بالحركة وتبودلت التحايا ،كان ضمن المعتقلين الجدد بعض المعارف ووجوه أخرى جديدة ، وردت مع القادمين أخبار مثيرة ، المدينة تغلى و البلد بأكملها تمور بثورة غاضبة والمواكب تخرج كل صباح ، وكان من بين القادمين الجدد طلاب طفقوا يتحدثون فى حماسة عن الجلاء الوشيك خصوصا ان (مصر) نفضت يدها عن اتفاقية الحكم الثنائى ، ازدانت ليالى السجن بحوارات ساخنة ومثيرة، ينبرى البعض متحدثا فى حماس عن وحدة وادى النيل فى مواجهة الانجليز ، فيقاطعه آخر بنبرات باترة (نريد استقلالا ، لا وحدة) ويشتد الجدال .
وفى هذه الاثناء اخذت صحة المعلم (عبدالله) تتدهور ، ذوى الجسد الممشوق و برزت عظام الوجنتين وكسا الوجه شحوب ظاهر ، كان (صالح) ينظر اليه فى أسى ،. تلتمع فى ذهنه وهو يرى اليد النحيلة ترتجف وهى تمسك بكوب من الماء صورة أخرى ليد تهوى بالمطرقة فى حزم على كتل الحديد فتمسى طيعة لينة كأنها عجينة رقيقة من الدقيق ، كانت العيون تلتمع ببريقها المعهود برغم كل شئ، ذات مساء لمح (صالح) فوق الأحداق الحزينة دمعة تترقرق فهب قلقا وهرول تجاهه ،. كان الجميع نياما ، اقترب منه فى سكون يسأل عما يبكيه فإندفع الرجل فى بكاء حار كالاطفال فجأة ومثلما إندفع لفه صمت مفاجىء و سرح فى البعيد ، احترم (صالح) صمته فلم ينبس بكلمة و ربت المعلم (عبدالله) على كتف (صالح) وهو يغالب نفسه ليبدو متماسكا وقال : (اننى أتحرق الى يوم سيأتى حتما ، لا أشك فى ذلك قط ، ولكننى أخشى ألا تظللنى شمسه وانا أسير بين الأحياء .
كان كمن يمزق أستار الغيب ، فلم تمض على تلك الليلة إلا ايام معدودة وتدهورت صحته تدهورا مريعا فنقلوه على عجل الى المستشفى وهو فى غيبوبة كاملة ،. وفى الصباح التالى جاء نعيه كوقع الصاعقة ولف العنبر صمت جريح ، جاء من الحراس من دلف فى صمت ، سأل بصوت خجول عن متعلقات الراحل الشخصية ، اشاروا اليها فى صمت فحمل الحارس التركة الصغيرة وخرج والعيون تتابعه حتى غاب عن الابصار ، بقى مكان الراحل شاغرا لا يقربه احد حتى العيون تهرب منه على عجل عندما تقع عليه فقدكان المكان نابضا بالحياة يستدعى حزنا ماطرا وغزيرا ويفتح كوة لذكريات مضنية ودونما إتفاق لاذوا بصمت طويل .
ذات ليلة والسكون شامل و البعض قد خلد الى النوم والبعض الى تأملات عميقة مزق السكون صراخ : (لا ، لا لن أموت فى هذا الجحر الحقير ، لا ، ابتعدوا ،. ابتعدوا عنى ) هب الجميع مفزوعين ، كان أحد العمال هو مصدر الصراخ ، شاب نحيف صموت ، قلما يسمع صوته احد غارق دائما فى عوالمه ، يرسم على الجدران وعلى الأرضية الصلبة ، كان الآن كثور هائج يرتعش فهرعوا اليه يهدئونه وبالعيون دهشة وبالقلوب حسرة ولكنه أخذ يقاوم بشراسة ، يمسكون به ،فينتفض كمارد وهو يصرخ في وجوههم، يسقط بعضهم أرضاً ويعاود الكرة ، هرع الحراس على صوت الضجيج ، كان المشهد مسكونا بالغرابة ، تعاون الحراس مع المعتقلين وامسكوا به فى النهاية وهو يقاوم بقوة وعناد ،العيون محمرة ، الصدر يعلو وينخفض ،. رويدا.رويدا سكنت حركته ،. وكمن أفاق من حلم مزعج أدار عينيه فيمن حوله كمن يرى المشهد للمرة الأولى ، واندفع فى البكاء فجلبوا اليه كوبا من الماء ، احتساه جرعة واحدة ، وأدار وجهه عنهم وهو يتجنب ان تلتقى عيونه بهم ، فتح (حامد) أزرار قميصه وهو مستسلم له فى هدوء و مدده على ظهره ،. وجلسوا حوله فى صمت ،انتظم تنفسه وسكن ثم غاب فى نوم عميق كطفل هجع بعد يوم حافل باللهو البرىء .

xxxx
عند بوابة السجن انحنى (صالح) ، غطى عينيه بيديه وقد بهره ضوء الشمس ، إجتاز البوابة فى سكون نظر الى قدميه وهما تخطوان نحو الحرية على عجل كأنها تخشي انصفاق البوابة عليه ثانية ، لكن البوابة هذه المرة كانت خلف ظهرهم تماما ، لم يلتفت (صالح) للخلف و تمهل فى سيره حتى ادركه الاخرون ، ومضى يتصفح الوجوه ،. لم تكن الوجوه طافحة بالفرح كما كان يتصور عندما يرسم فى خياله صورة هذا اليوم فى ليالى السجن الطويلة ، كان بالوجوه سكون وحزن عميق ، كان يطوقهم جميعا إحساس بأن تلك الايام التى خلفوها وراء تلك البوابة لم تنقض بعد وأنها أخذت منهم شيئاً ما ، شيئاً عزيزاً بقى هنالك و لم يخرج معهم ولم تلسعه شمس الظهيرة كما تلسع وجوههم الان ، ومضى (صالح) يتصفح الوجوه ببطء وفجأة جاءه صوت المعلم (عبدالله) من اعماق بعيدة و صورة الاخاديدالمرتسمة على وجهه مبللة بالدموع ارتفعت الآن و غطت قرص الشمس : (أخشى ألا تظللنى شمسه وانا امشى بين الأحياء) ، صار الصوت يعلو مع الخطوات و تحمله الريح من كل الجهات ، ومضى (صالح) يترنح فى مشيته ونواح صامت يموج فى داخله فيهتز يمنة ويسرة كمن يمشى على أرض تمور بالبراكين . وشيئاً فشيئاً مع الوجوه الطافحة بالفرح لمن جاوؤا مهنئين بالسلامة وحكاياتهم المتعددة عما فاتهم من أحداث ، شيئاً فشيئاً انكسر الجمود الذى لازم أرواحهم المتعبة ومضوا فى دروب الحياة من جديد بروح طافحة بالثقة والتصميم .
كان استقبالهم فى الورش شيئاً خرافياً لم يتوقعوه ، طوقهم بالدهشة ومسح احساس الوحشة الكامن فى الدواخل ،كل هذه القلوب إفترشوا لهم فيها مكاناً، كل هذه العيون التى يكسوها غبار ظلت متعلقة بهم كأنوار جزيرة لاحت على البعد لسفينة مثقوبة تتقاذفها الرياح ، إرتفع صوت حامد من علي منصة الخطابة واثقاً قوياً: (فى تلك الأيام الموحشة اعتقدنا أحيانا أننا وحدنا هنالك ، لكن هذه الكلمات الى لا تزال مكتوبة على جدران المدينة ولم تستطع الأمطار ولا الأيام محوها من مكانها علمتنا كم كنا مخطئين وان القطار لم يتوقف ، لم يتوقف القطار قط ، صحيح غابت عنا وجوه نحمل لها إعزازا كبيرا ، ولكنها لم تغب سدى ، لم تنهش أجسادها النحيلة النسور الجارحة ، لم يضع الصراخ ادراج الرياح ولن يضيع ...) فقاطعه هتاف ونشيج مر . 
جاءت الأيام التالية ببشرى عظيمة ، الجلاء بات وشيكاً ، وهنالك سلطة وطنية سوف تتولى الحكم الذاتى ، تدافعت الجموع الى الشوارع ، وكانت ليلة لا تنسى ، سهر الناس حتى الصباح ، وهم يتجادلون فى حماسة وجذل وحملت الريح اسم (الأزهرى) فصار على كل لسان ، انطلق صوت اسماعيل الازهري قوياً ونابضاً بالامال عبر المذياع فتحلق الناس فى الدور والمقاهى والشوارع يستمعون اليه فى اهتمام عظيم ، وسرى همس تعاظم مع الأيام حول نية (الأزهرى) إعلان الاستقلال ، ففاضت المدينة بالمنشورات وتلقفها الناس على عجل ، وكانت المحطة تضج بالقطارات المحملة بجنود لوحت الشمس بشرتهم البيضاء أخذوا ينسلون على عجل مغادرين الي حيث المجهول الذي جاؤوا منه ،. الوجوه يكسوها إرهاق باد ، والعيون طافحة بدهشة دائمة ، لعلها دهشة من يرى الكراهية مرتسمة على الوجوه أينما حل حتى وهو يغادر تلك العيون بغير رجعة مرة واحدة والى الأبد .
فى ذلك الزخم برزت أشياء وأشياء ، كان (حامد) يبدو متعباً و الشعيرات البيض قد زحفت على السواد ، العيون باتت أكثر حزناً من ذى قبل ، وكآبة تتزايد مع الأيام قد استوطنته ، فأمسى ساهماً صموتاً ، ذات يوم دنا (صالح) منه وهما عائدان من اجتماع عاصف للهيئة ، ومثلما كان (حامد) قليل الكلام فى الاجتماع لفه صمت طويل بعده ، حاول صالح كسر الصمت فقال له بنبرات خافتة: (خيرا هل هناك اخبار من البلد ؟) اعتدل حامد ورد فى هدوء : (خيرا ، كل الخير ، لا جديد هنالك) وعاد لصمته من جديد ، فلم يجد (صالح) بدا من توجيه سؤال مباشر اليه عن اسباب ضيقه وتبرمه ، فتنهد حامد بصوت مسموع وقال (كنا يدا واحدة ، نهرا واحدا ، واليوم يتقطع النهر ، يمسى خيراناً عديدة ألم تلحظ ذلك ياصالح ؟... ألم تلحظ تلك التكتلات التى تحمل فى ثناياها شتاتا وفرقة لا وحدة بعدهما ووهنا وضعفا لا مثيل لهما!!) ... كان محقا – كعادته- فيما ذهب اليه ، فقد بدا واضحا انهم مقبلون على مرحلة جديدة تماما تثير خوفا وإشفاقا عظيمين ، كانت الورش تضج بالجدال بين الاستقلاليين ودعاة الوحدة وانصار الجبهة المعادية للاستعمار – كان حامد عازفا عن الجدال ، غارقا فى صمت طويل ، وحين يلحظ المتجادلون صمته تخبوا اصواتهم رويدا ، رويدا ثم يرتفع صوت يداعبه (وانت يا حامد ! اين انت من كل هذا ؟ الى متى تكتفى بهذا الصمت؟) ، يبتسم حامد فى صمت ويستدير ويعطيهم ظهره ويمضي ،بدا معذبا وإحساس عميق بالغربة يطوقه ، لا يزيد على الابتسامة ويمضى يتوكأ على عصاه و صوت العصا يرن ويرن حتى يتلاشى فيعود المتجادلون الى جدالهم ، امسى حامد لغزا أعيت طلاسمه الجميع ، كانوا جميعا يحبونه حبا عميقا لا تشوبه شائبة ، تصفو نفوسهم ويشيع فيما بينهم جو أليف – بات نادرا – حين ينضم الى مجالسهم ، كانت كل مجموعة تسعى الى استمالته فى البدء وتتمناه في صفها ، لكنهم سرعان ما ادركوا ان الرجل يحلق فى عوالم ابعد ما تكون عما يدورون فيه ، وكما يحدث فى الحياة دائما سرعان ما ألفوه كما هو ووطنوا أنفسهم على قبوله كما هو فى تسليم كما يتقبل المرء حقيقة ان الشمس تشرق كى تغيب وتغيب كى تشرق غدا ، وساروا فى دروب الحياة حتى أفاقوا ذات صباح على علم يرفرف للمرة الاولى معلنا استقلالا تاما وصوتا واثق النبرات يعلن جمهورية سودانية مستقلة، تلاصقت المناكب فى الهجير و فاضت المقل بدموع لم يسعوا لتبين هويتها ،باتت الشمس الساطعة لطيفة لا تؤذى أحدا و تدفقت المواكب من كل الفجاج ، ولف النفوس سلام عميق كذلك الذي يعم صبيحة ايام الأعياد .
كان رحيل (حامد) مباغتا ومفاجئا ، كانت الدنيا تستفيق لتستقبل يوما جديدا ، افاق حامد مع الفجر على صوت المؤذن ، توضأ وارتدى ملابس العمل الزرقاء و شرع فى الصلاة ، اطال ركوعه وسجوده ، وكات فى الصوت شىء يثير القشعريرة كنسمات صباح شتوى بارد ، شيئا غامضا ومهيبا  والوجه تكسوه طمأنينة عميقة ، ظل متربعا هنالك على سجادته كأحد آلهة الاغريق ، وعندما طالت جلسته اكثر من المألوف رفع صالح وجهه عما كان يقرأ فيه و نظر صوبه ، كان الرأس منحنيا الى الجهة اليسرى وهو في وضع السجود ، ظنه صالح ساجدا أونائما فى البدء ، وقبل ان يشيح بوجهه ويعود الى القراءة ومض فى ذهنه شىء ما  فاستدار فى لوعة و هب واقفا يناديه بأسمه وما من مجيب ، وهكذا رحل حامد فى صمت مهيب تماما كالصمت الذى بات يطبق على الاماكن حين يحل بها ، دون وداع ، دون وصية ، لا شىء سوى حزن لازمه طويلا فى ايامه الاخيرة . كان موكبا حزيناومهيبا موكب تشييعه الي مثواه ، موكب أعاد الي الأذهان ذكريات أيام نواضر باتت حبيسة ذاكرة بعض من عاصروها ،اكثر ما فجر مكامن لوعة صالح في ذلك اليوم كان تلك الكلمات الانيقة التى حاول اصحابها جاهدين الايحاء بإنتماء الراحل اليهم ، ود لو ينتزع المنبر  و يهتف بكل مافى الدواخل من غضب ولوعة في وجوههم متهما أياهم بالتعجيل برحيله وتعاسته في ايامه الاخيرة ولكن ماذا تجدى الكلمات البلهاء !! والفراغ عريض جدا  كحفرة عميقة خلفها سقوط شجرة حرازضخمة ، الاشجار تموت واقفة  تظل تبحث بجذورها عن منابع المياه كى تكتسى اغصانها الذابلة بخضرة جديدة ،لكن المياه بعيدة فى اغوار سحيقة والهوام والسوس ينخران فى الجذور ، فتتآكل من الداخل و تفتقد مقدرة الغوص عميقا لآجل المياه و يتخشب الجذع الضخم شئيا فشئيا وذات يوم تلعب به الريح أو تهوى عليه فوؤس لا تعرف الرحمة فتنكفىء الشجرة على وجهها بعد ان تكون قد ماتت منذ زمان بعيد وباتت فى انتظار فوؤس الرحمة . هكذا فعلت الايام بحامد بلا رحمة ولاشفقة.
انتهت ايام العزاء سريعا ، وتفرق المعزون وأنصرف الممثلون من الخشبة بعد ذهاب النظارة، وها انت يا (صالح) تسرع الخطى نحو الورشة فى صباح عاصف والريح تتلاعب بك كورقة صغيرة، ها انت قد عدت وحيدا كما كنت يوما  وهاهي المدينة قد عادت غولا ذو سبعة افواه ، وانت مركب دوم صغيرة تتنازعها الامواج والضفاف بعيدة المنال، غاب ذلك الاحساس بالتآلف مع الاشياء ، الهيئة باتت ساحة سوق تمتلىء بباعة بائسين يستجدون المارة لاجل بضاعتهم ،. يتنازعون فى شراسة ،تحتمى بجدار قريب ثم تهرول كهارب من الهجير ، تلتمع فى ذاكرتك  تلك العيون الحزينة وعبارة حامد  التي ترن كناقوس :- 
اليوم يتقطع النهر ، يمسى خيرانا عديدة ، اليوم ...) ،وجاءت الاخبار متلاحقة : السيدان انقضا على حكومة الازهرى ،غابت حكومة واتت اخرى ، الضجيج يعلو و تشتعل المجادلات ، انصار الازهرى يزأرون في الشوارع والمقاهي (... الرجعية ... اعداء الشعب ...) واخرون يفركون الايدى ابتهاجا بما جري ، والهيئة تضج بالصراع  وبالشجار ، تسقط قائمة في الانتخابات وتفوز اخرى، وتبقى انت متفرجا ،متفرجا يا صالح ؟! من يتصور ذلك ؟! تعض على بنانك فى غضب وتصرخ لنفسك: ( ومن يصدق اشياء كثيرة اخرى حدثت؟ من يصدق ان يتحول واحد من رفاق السجن والمرارات الى مهرج تلطخ وجهه كل الالوان وكل المساحيق كى يبقى فى موقعه ؟ من يصدق ان من يفعل ذلك يكون الاطول لسانا فى حق الصامتين المتفرجين رغم انفهم ؟ )... 
ذات يوم  كنت تتحسر يا صالح لان المعلم (عبد الله) لم يشهد ذلك اليوم لكنك  اليوم تغبطه فلو  أنه عاش ما عشته وسمع ما سمعت لمات الف مرة كل يوم .
بت يا صالح عصبيا و كثير الشجار و دخلت حياتك مفردات جديدة باتت ملازمة لك : (انتم تخونون القضية ليس إلا ، الهيئة باتت بقرة حلوبا تدر لكم انتم فقط !! تتركونها يابسة الضروع لأهلها الحقيقيين !!) .يبتسمون فى نعومة كأنك لم تقل شيئا ، يتبادلون نظرات صامتة ، تماما كالتى يتبادلها الناس حين يرون معتوها  او مخلوقا عجيبا حط عليهم من اصقاع بعيدة ، يربتون على كتفك فى نهاية الاجتماع بنعومة ثعبان يمشي علي جسد الضحية قبل لدغه : (بت متطرفا بعض الشىء يا صالح ،الحياة تبدلت كثيرا عن زمانك وزمان الخال حامد ، من لا يماشى التطور يتحجر يا صالح و يبقى وحيدا... هل تفهم، الوحدة في هذا الزمن تفضي بصاحبها اما الي السجن او الجنون!) ... (كن عاقلا يا صالح ، خفف نبرتك هذه ، لقد باتوا يضيقون بك ذرعا !!) تصرخ فى وجهه  وقد نفذ صبرك : (انت بالذات يا (حمد) لا يحق لك ات ترتدى ثوب الصديق ، انت جيفةقذرة ، مجرد حشرة صغيرة التصقت يوما بنجيل اخضر و عشعشت فيه طويلا ، وها قد فاحت عفونتها أخيرا !!) ... يشحب وجه حمد كفأر مذعور وتضيق عيناه ، ثم ترتسم ابتسامة بلهاء جامدة على وجهه المكتنزوهو يقول : (لولا العشرة الطويلة ، ولولا ذكرى خالك حامد ، ولولا اننى اعرف ما ينطوى عليه قلبك ، لكان لى معك شأن اخر ، على اى حال انت حر ، ابق فى كهفك هذا ، دع عباراتك الغاضبة تخرجك من جحرك الحقير الذى تقبع فيه بعد خمسة عشر عاما من العمل كثور فى ساقية ...) وينفلت قبل ان تخرج كلماتك من فاهك ويمضى ، مهرج صغير كان ذات يوم مجرد نكرة ، والان ؟ رئيس دائرة العمال فى حزبه و رئيس النقابة .... الخ ...يلبس نظارة طبية انيقة وبات صاحب اصابع ناعمة لا يحسب من يراها انها كانت ذات يوم تقضى سحابة النهار فى تطويع الحديد .
بعد عدة ايام ، جاء من يبحث عنك ، اقتادوك الي البوليس السياسي  ، ثمة رجل صغير ذى اصابع ناعمة يلهو بقلم انيق ،ثم  نظر اليك طويلا، نهض من مقعده الوثير و دار حولك كقصاب يتفحص شاة ثم ذرع الغرفة فى صمت عدة مرات و اعطاك ظهره بطريقة مسرحية وهو يلقى سؤالا : (ماذا تريدون الان يا صالح ؟ كنتم تنادون بالاستقلال وقد تم !! تنادون بالنقابة وهى لديكم فماذا تريدون بعد ذلك؟) وتتابعت الاسئلة دون انتظار و لم يدعك تجلس : (ماهو تنظيمكم ؟ ماهى اهدافه اذا كان كل الناس فى نظركم لصوصا وخونة فمن هم الشرفاء ؟ أنتم ؟) قهقه طويلا ،ولم يكن ينتظر الاجابة ،ولم تكن راغبا حتى فى الكلام ،. بت موقنا ان الصمت اجدى من كل ما اعددت من ردود ، ثم تغيرت النبرة بلا مقدمات ، باتت ودودة ، ناعمة : (نعرف انك لا علاقة لك بالمخربين و نقدر حماسك ...لكنك تعلم ان الظروف التى تمر بها البلاد دقيقة جدا ... الخ) ثم امتدت الاصابع البضة بورقة صغيرة وقال صاحبها بصوت ناعم آمر: (وقع هنا ، وأمض لحال سبيلك ..) تناولت الورقة بهدوء وشرعت فى القراءة غير آبه باليد الممدودة بالقلم والالحاح الآمر فى النبرات اللزجة ، ثم هززت راسك فى هدوء قائلا: (لن أوقع) ، شحب الوجه سريعا و هوت اليد الممسكة بالقلم على المنضدة فى عصبية وارتفع الصوت خشنا متحديا هذه المرة: (ستوقع، اقسم لك على ذلك ) ثم صرخ فى عصبية (خذوه من امامى) .وانتهت المقابلة هكذا، اربعة ايام مرت ، وحيدا فى زنزانة صغيرة تنفتح ويجئيك صوت: (هل غيرت رأيك ؟) فتهز رأسك فى صمت وتغيب الخطوات وتغلق الزنزانة ، تسمع همسا بعيدا قصد صاحبه ان تسمعه: (سيوقع ، كلهم يفعلون ذلك فى البدء ...) ،. مرت الايام موحشة كئيبة حتي بلغت اليوم العاشر ، سمعت الخطوات تقترب ، فاعددت نفسك للرد ، انفتح الباب و اشاروا عليك بالخروج فخرجت ،اقتادوك الى ذات المكتب ، لكنه الان خال من ذي الاصابع البضة ،. ثمة رجل وحيد يجلس فى احدى الزوايا عرفت فيه (حمد) ، نهض على صوت خطواتك ، اندفع ليصافحك، مددت يدك فى برود فانت تعرف أنه جزء من الدائرة نفسها بطريقة ما ،ماتت الابتسامة المرسومة بعناية على شفتيه وتصبب عرقه غزيرا ثم خرجت كلماته متعثرة ومحرجة مثله : (لقد بذلنا كل ما فى وسعنا ، لوتدرى كم عانيت حتى سمح لى بالمقابلة، لو ...) تقاطعه بصوت باتر : (ماذا تريد ؟ ادخل فى الموضوع مباشرة !!) يتردد برهة وهو يتفادى النظر اليك يتمتم : (انه إجراء روتينى ، لا تكن عنيدا ، توقيع صغير  وينتهى كل شىء وتعود الي بيتك ياصالح...) تقاطعه بحزم : (الزيارة انتهت) وتستدير ، يهرول الحارس خلفك ، يصطفق باب الزنزانة وتغيب فى صمت طويل ... تعرف انه كان سيحدثك عنهم ، ذلك امر اكيد، كان سيتحدث عن اطفالك والجحر الحقير ... وحدهم هنالك فى مدينة غريبة وجوع كافر يحيط بهم  حتما و ليس من قريب لهم سوى جسد توسد الثرى قبل زمان بعيد ،. انت تدرك جيدا انه جاء ليعزف على هذا الوتر ،هو مثل غيره من الاوغاد يعرفون جيدا مواقع الضعف البشرى فيتسللون منها كجرثومة داء خبيث ، الجوع كافر ،.نعم ،. لكن ماذا سيفعلون بجثة كانت رجلا قبل تمسك بالقلم فى مسكنة ؟ هل سيقوى على النظر فى عيونهم ثانية؟  اى اب ذلك الذى لا يقو على النظر فى عيون صغاره ؟ لهم رب سيحميهم ،.لكنه لن يوقع ابدا .
 وتتوالى الايام وانت تروح وتجىء كأسد جريح ، تحتاج جدارا تحتمى به من الهواجس التى تفتك بك ... تحتاج جلد القديسين ، اه لو كان معى رجل واحد فقط ، تفيق من تأملاتك على وقع خطوات الحارس وصوته (زيارة عائلية) ، اخيرا ، من ؟ (ابنتك الكبرى) زينب !! تمضى على عجل ،تهمهم فى سرك : محاولة جديدة !! هذه المرة يحاربونك بأحب الناس الى قلبك !! تمضى فتلتقيها ، تلتمع دمعة على خدها الأسيل وهي تهمس فى خفوت (أبي ، لا تقلق علينا ، اصدقاؤك بجانبنا ، شدة وتزول ...) اه ما اجملك ، لوتعلمين يا صغيرتى كم تساوى كلمة صغيرة كهذه ،. انها توازى جدارا بل حبلا يتدلى ليد واهنة فى اعماق جب لا قرار له
                                                                        
  عاد (صالح) من الزيارة القصيرة انسانا جديدا ، كأن عبئا ثقيلا ذلك الذى انزاح عن كاهله وكان اكثر ما يعذبه فى وحدته تلك صورة اطفاله التى تملاء الفضاء وتسلب من عينيه نعاسها ،. الان ينام ملء جفونه ، تمدد على الارضية الصلبة كمن يتمدد على فراش وثير واسلم نفسه لنوم عميق لم تتخلله الكوابيس وافاق بعد عدة ساعات نشيطا معتدل المزاج بصورة لم تخف على الحارس الذى بدا مندهشا لهذا التحول المفاجىء ، وزادت دهشته اكثر حينما داعبه صالح وهو يدندن فى سرور ... همس لنفسه (اى رجل هذا ؟) ولم يستطيع مغالبة فضوله فتساءل : (هل هناك اخبار سارة ؟) ضحك (صالح) مليا وأجاب : (اخبار سارة جدا ، مولود جديد ،بنت كالقمر) كان يتلوى من السعادة حين زفت اليه زينب الخبر فاوصاها بأمها خيرا وحملها اشواقه لاخوتها وامانة عظيمة (اسمها بدور ،. لا تنسى يا زينب) كانت تلك ليلة لم تمحها السنون من ذاكرته ، كان الظلام شاملا و النجوم بعيدة لا يراها من كوة الزنزانة الضيقة  وكانت الهزيمة تتسرب الى المفاصل والاطراف التى كادت تتيبس من الارضية الصلبة والروح قد عذبها التوحد الطويل ، كم هي غريبة هذه الدنيا !! لحظة صغيرة جدا هى التى تفصل بين عوالم متباينة ،يد صغيرة تضطرب فى رحم المجهول تمتد فتتلاشى الظلمة و تسرى فى العروق دماء جديدة و يهرب خيط الدم الاسود الي غير رجعة وتتوارى الاشباح مع الشروق ويبقى ضياء حميم ، ليتك تعلمين يا بدور، ليتنى كنت جوار مهدك الصغير لابوح وأبوح ليت روحى تملك ان تهاجر فتقبلك فى امتنان عميق 
    
لم تعد تحصى الايام يا (صالح) ، بات الدوى الذى يهدر بالداخل خافتا و الذهن اكثر صفاء  وحين انفتح الباب ذات صباح ولاح وجه الحارس متهللا ودودا كان اخر ما يخطر على بالك ان تلك الابتسامة الودودة هى بمثابة جواز مرورك الى عالم (بدور) حيث الشمس التى تلفح وجهك وانت توسع الخطى صوب دارك وفى اليد حقيبة صغيرة وفى القلب بركان يفور  (انتهت جولة ولم تنته المعركة) دهشت قليلا عندما لمعت فى ذهنك هذه العبارة ،ذكرى غامضة لاحت فى زوايا الذاكرة ليوم مماثل فى زمان بعيد  فابتسمت ابتسامة مقتضبة وانت تقول لنفسك: (كنا اكثر تفاؤلا وسذاجة حينها ...) لكنها الحياة هكذا هى دروسها باهظة الثمن دوما ... بغتة لمعت فى ذهنك صورة مشوشة وعبارات لا تدرى لماذا قفزت من الذاكرة الان (لا تسرفوا فى الافراح فتلك أولى تباشير الهزيمة ...) تسيل على خدك دمعة لا تستطيع منعها وتهمس كمن يحدث نفسه (هل كنت تمزق استار المستقبل حينها يا ترى؟ 
 كنت قد بلغت اطراف الحى عندما لمحت احد المعارف فتسمر من الدهشة للوهلة الاولى ثم هرول نحوك ثم استدار قبل ان يبلغك كمن تذكر شيئا و هرول باتجاه الدار و اخذ يطرق الباب بقوة ، انفتح الباب ...ثم ارتفع صوت الزغاريد و الضجيج وفتحت الابواب علي زينب فى حضنك ووجهها تبلله الدموع و الريح تعبث بخصلتها الطويلة ، ثمة وجوه اليفة عامرة بالبشر والترحاب حولكما ،(فاطمة) ووجهها المتعب وهدوئها الاليف الذى لا يخفى فرحة تزغرد فى الداخل ،الوجه الملائكى لبدور الصغيرة ويد فاطمة تمتد بها اليك ، قبلتها من قبل فى خيالك الف مرة ، لكن العيون حقل البراءة الذى يحتويك الان ، لم تكن تلمع هكذا فى الخيال مثلما تلمع الان فتأخذها بين يديك بحنان دافق و تقبلها وتحادثها فى صمت (وحق عينيك ياصغيرتى كانت أياما عصيبة ، لكنها لم تنل منى ، قد تعود ،لكنها ستجد ساعدك الغض قد قوى واكتسى عافية ولسانك قد انطلق من عقاله ... 
تفيق من شرودك يا صالح على اصوات اليفة وو جوه طافحة بالبشر والمحبة ، تحتسى فنجانا من القهوة من صنع (فاطمة) و تتوالى الاسئلة والروايات ، كنت سعيدا ، مرهقا نعم ، تهفو نفسك لقيلولة فى الفناء تحت شجرة النيم الاليفة والى الصباح حيث صوت المطارق وصفير القطارات الذى تشتهيه ، لكن مجلس السمر لم ينفض الا فى ساعة متأخرة من الليل ، و (فاطمة) التى كانت طيلة ذلك كله مع رنين الاوانى والابخرة المتصاعدة من اوانى الشاى الذى لم تكف عن اعداده حتى تفرق السمار لديها ما تقوله حتما ،تغالب نعاسا يعتريك وتهئ النفس لسماع (فاطمة) لكنها ترتب سريرك وتضعه فى الفناء حيث تحب و تجلب سجادة الصلاة والابريق ومنضدة صغيرة وتضع آنية صغيرة بها عشاؤك الاول بعد غياب طويل ثم تأخذ الصغار بعيدا وتهمس لك: (الصلاة ثم العشاء ، ثم نوم عميق ،الصباح رباح) وتمضى .. لكنك لم تنم ، اسدلت الغطاء على جسدك المتعب و.بدا الدفء غريبا عليك ، صوت طفل يبكى مساهرا باهله والجيران يجيئك من بعيد وتتخله اصوات ضحكا ت سعيدة وعواء كلاب يبتعد ويقترب مع حركة الكلاب، السماء مزينة بنجوم لامعات  تبهرك كأنك تراها للمرة الاولى ... كنت كمن عاد من سفر بعيد تتفحص عيونه الاشياء من جديد بلهفة، الجدار المتشقق للدار بدا لك شيئا يستحق إدامة النظر اليه طويلا  ، الأسرة والعناقريب المنتشرة فى الفناء ،. ثمة اخرون يتصاعد صوت شخيرهم الى جوارك و ثمة انفاس تتقاسم معك الهواء العليل الذى لا يشابه فى شىء العتمة والرطوبة الناضحة برائحة الاسمنت التي جئت منها وبقيت بداخلك باقية ، تستنشق نفسا عميقا بتلذذ و الذهن يدور كماكينة ، كيف يكون صباحك يا ترى ؟ كيف صارت الاشياء ؟ و كيف امسى الناس ؟ جميعهم  من تحب ومن تكره ، لم يكن إعتقالا طويلا ، بضعة اشهر فقط لكنها تبدو دهرا باكمله ، لم تكن تجربة تشابه السابقة فى شىء ، فليس معك رفاق آخرين بجوارك تتماسك لاجلهم وتتقوى بهم ،والقادمين بعدك لم ترهم ، لم يتبادلوا الحديث معك ، حتى وجودهم علمت به بوسائل موغلة فى الغرابة ،فقد الفت اذناك وقع خطوات الحراس وامتلكت مقدرة معرفة المكان الذى تتوقف فيه من عدد الخطوات واتجاه الصوت ، عن طريق ذلك فقط بات بمقدورك معرفة القادمين .، تزداد الخطوات خطوة او اثنتين فتعرف ان قادما جديدا قد حل ،يتناقص عدد الخطوات فتعرف ان احدهم قد افرج عنه،ولم يكن مسموحا لكم بالتجمع حتي للطعام، كان ذلك شئيا مقصودا وقاسيا علي نفوسكم جميعا ، ينطلق صوت ديك بعيد تعجل الفجر ، فينقطع حبل التفكيروتعود الي السماء المرصعة بالنجوم وحوش بيتك الفسيح ، فتسحب الغطاء و تستدعى النعاس فيستعصى عليك و تهطل الافكار كالمطرفي الذاكرة المكتظة وفى لحظة ما لا تذكرها افلح النعاس فى انتزاعك من دوامة التفكير وغبت فى نوم عميق .
Xxx

تدور الاحداث فى ذهنك كشريط سينمائى نابض بالحياة الان فتتذكر (عبدالله) 
شقيقك الاصغر وعبارته الأثيرة: (انت تنحت فى صخر قاس يا اخى ، لست المسئول عن اصلاح العالم ، ثم انك لم تعد كما كنت وحيدا ،. هنالك افواه جائعة ومصاريف مدرسية) تقاطعه فى حزم : (الصمت جريمة ، الصمت خوار عزيمة ، اذا لم تمتد يد ما فمتى وكيف يسقط هذا الجدار ؟) يغيب فى الصمت فهو يدرك كم انت عنيد ، كانت السنوات قد هرولت به من فتى نحيل فى قرية ما فى اقصى الشمال ذو حظ لا بأس به من التعليم الي المدينةحيث ولج سلم الوظيفة ، سلبته الوظيفة تلك الروح الموروثة عن اب ظل منافحا ومتصديا حتى اخر رمق من حياته ، علمته الوظيفة ان يحترس ، ووآسفا على الرجل عندما يتعلم ان يحترس ، تتذكر كلما رأيته كلمات سمعتها ذات يوم من حامد خالك : (ان المكاتب افسدت علينا اولادنا ، يريدونكم هكذا كالحمار يحمل اسفارا وهذا ما لن يكون ...) تغيب فى البعيد فيغيب وجه عبد الله و يتلاشى الزمان والمكان و تمضى بعيدا ، تتساقط الكلمات فى الداخل ولا تبوح بها رفقا به فهو حبيب الي قلبك: (الصمت بالنسبة لكم يعنى خطوات اوسع للامام ، حياة لا عنت ولا مشقة فيها ، مسئوليات جديدة و سلطات اوسع و رصيد يتزايد في البنك ، اما نحن ! فصمتنا يعادل انتزاع انبوب اوكسجين من فم مريض يرقد فى غرفة عناية مكثفة ، اه ما اوسع الهوة بيننا يا اخي...) ينهض (عبدالله) متثاقل الخطى ، يلقى السلام ويمضى مكسور الخاطر لكنه في اعماقه لايلومك أبدا كما يقول في لحظات الصفاء ،( كان عبدالله رجلا فى غيابك ..). قالت فاطمة : (لم يدعنا نحتاج شيئا قط ، بارك الله فيه ...) لكن الهوة يافاطمة تبقى بيننا ، لم نصنعها بأيدينا  وربما نتمكن من ردمها ذات يوم ، لكن الى ذلك الحين تبقى منتصبة عميقة وواسعة ،.ها انت ذا  ياصالح تعود كقطار بقى طويلا قابعا فى ورشة ما ،يدوى صفيره فى فرح وهو ينزلق فى قضبانه من جديد كسمكة عادت لبحرها ، تطوى المحطات ، يدوى الصفير بين الحين والاخر ، تتبدل الوجوه و اسماء المحطات و الأبنية وتتوارى الاشجار و أعمدة الكهرباء  تمسى نقاطا صغيرة ثم تتلاشى فى سرعة البرق وتتواصل الرحلة ، فى الورش ضجيج حميم وفى الداخل عناد لا ينته واشواق نائمة تصحو ، الشارع يضج كالورش تماما ، لا حديث  للناس سوى عن المعونة الامريكية والصراع حولها بين مؤيد ومعارض ، (حمد) وزمرته ينسجون عالما ورديا : شوارع جديدة يتم تشييدها و انتعاش اقتصادى ، والاخرون يصرخون ان الامر برمته خيوط عنكبوت جديدة عملاقة يراد لها ان تعشعش فى الوطن الجريح (خرج الاستعمار من الباب ، يريدون إعادته من الشباك) هكذا كان يصرخ المعارضون وانت تصرخ : (لن نقف مكتوفى الايدى ، لن نتفرج) و تمضى بحزم نحو قلب الضجيج و يعلو صوتك فتضيق عينا (حمد) الصغيرتان وتشحبا وهو يصرخ فى وجهك: (بت أحمرا يا صالح ؟  وانا من كان يدافع عنك ؟)
 فتصرخ فى وجهه : (لتذهب الى الجحيم انت ودفاعك المزعوم ايتها العربة التى تجرها قاطرة لا رحمة فى قلبها ولا إحساس.) يلتهب الشارع ، ثمة دماء جديدة تتدفق فى الشرايين ، لم تعد وحيدا يا صالح ، ها انتم تضيقون الخناق عليهم . يترنحون ، تزداد نبراتهم حدة و يلجأوون الى قاموس الشتائم والافتراءات ، وانت تبتسم فى رضى وتقول فى هدوء : (انها سكرات الموت ، انتفاضة الثور المذبوح ... قريبا جدا ينطلق الخوار الاخير وتتمدد الجثة هامدة مرة واحدة وإلى الابد) .

XXX
كان صباحا فى منتصف نوفمبر وكانت اخر امطار الخريف قد هطلت منذ زمان بعيد وبدأ الشتاء الولوج، صحوت مبكرا فقد كان قطارك متجها غربا ذلك الصباح يا صالح فيممت متعجلاصوب المحطة ، لم تكن الحركة عادية ،بل كان الناس يهرولون فى قلق و يتحلقون حول المذياع فى جماعات كبيرة و ينصتون فى سكون ثم يعلو لغط وجدال والوجوه  قدكستها الدهشة ووجوه واخرى كساها فرح طاغ ، وهكذا علمت يا (صالح) بانقلاب نوفمبرأو ثورة نوفمبر كما سماها البعض ،وهكذا بدأت صفحة جديدة فى الحياة فقد أوقفت الصحف الحزبية بأمر القادة الجدد و توارت الحوارات بين انصار الاحزاب التى باتت تلحق بها فى المذياع عبارة (المنحلة) التي تنطق بطريقة تجعلها تبدو شتيمةأكثر من أي شئ آخر ، عم صمت كثيف وترقب وتداولت الايدى بيانا يتحدث عن الثورة و الفوضى السابقة ويبشر بالخلاص . مضى صالح يشق الصفوف والرأس مصطخب يبحث عن اجابات لاسئلة كثيرة مثل غيره،كان (حمد) يفرك يديه سرورا و تنساب عباراته متحفظة محتملة لالف معنى وان كانت تنبض بارتياح لم يستطع مداراته فتمتم صالح فى سره : (ايها المهرج ، حتى انت!! المؤكد انك لا تلهث الا خلف ضرع ميت لا يحلب لبنا قط ، بل يدر دما اسودا)
كنت لسبب ما لاتعرفه تدرك أن قائمة الاعتقالات ستشملك بطريقة ما، فلم يخيبوا ظنك و
 وجاؤوا في طلبك كما توقعت تماما ، منذ اليوم الاول وحقيبتك الصغيرة متأهبة للرحيل، لا حديث ولا تحقيق ، بل اخذوك من بيتك كما يأخذ المرء كتابا لا يحتاج قراءته فيلقيه فى احد الأرفف ،. انفتح باب السجن فولجت عالما لم يعد غريبا عنك ، الذى تغير هذه المرة هو انك لم تكن وحدك بل كان معك عمال اخرون و صحفيون سابقون وسياسيون يشكلون خليطا متباينا جمعه السجن وحكم عليه بالتعايش الى مدى لا يعرف حنى من اقتادوك متى تحين نهايته ، كانوا جزرا معزولة ونسيجا متنافرا ربما لو التقى بعضهم بعضا فى الشارع لما اكترث  أي منهم بالاخرأو بالقاء نظرة عابرة عليه ،لكن ليالى السجن الطويلة والفضول البشرى المتأصل كانا كفيلين بإذابة الفوارق وفتح الابواب المستعصية بينهم،  منهم من كان يصرخ كطفل صغير ويقسم أيمانا مغلظة بأنه برىء فلا يثير سوى الاشمئزاز والنفور في نفوس الاخرين، مثل هولاء لم يبق طويلا و انفتحت الابواب لهم سريعا وذابوا فى نهر الحياة ، لم يلاقيهم صالح ثانية أبدا ، لم تبق من ملامحهم فى الذاكرة الا سحابات الخوف التى ترتسم فى وجوه الاطفال عندما يفقدون ايادى الامهات فى زحام البشر، ومنهم وجوه اخرى مطبقة على حزن مقيم ، أصحاب ابتسامات مبتسرة لا تعتلى الوجوه الا لماما ، قلما يتحدثون ، وعندما يتحدثون تنداح جبال الجليد و تنكشف الوجوه الصارمة عن عشق عميق للحياة والناس وعن مساحات دفء عميقة ، ومن هولاء تعلم (صالح) الكثير ،ثم أستقرت الأمور للقادة الجدد وانفتحت الابواب وأفرغت المعتقلات من زوراها وخرجت ذات يوم يا صالح مع الخارجين الي الحرية ولكنك لم تبق بالخارج طويلا ، وجدت الشارع يفور بمظاهرات مناوئة لتهجير اهالى وادى حلفا ، فاندفعت مع الجموع فى بحار هادرة ظلت تموج من الفجر وحتى المغيب في مظاهرات عارمة، (حمد) يفتح فاهه فى دهشة ويصيح بك : (هم يدافعون عن ارض اجدادهم ، فعن ماذا تدافع ايها المناضل ؟) تقول فى سرك دون ان تكلف نفسك عناء الرد عليه : (لن تفهم ابدا ايها القزم الصغير ، بل انك حتى غير راغب فى ذلك) وانفتحت الابواب مرة اخرى و عدت الى ليالى الوحدة والزنزانة يا صالح من جديد ، يبدوا انهم يشفقون على صوتك من الهتاف وعلى وجهك من الهجير ،. وهكذا عدت الى اعتقال طويل وتتذكر ، ايام المعتقل وتفاصيلها الصغيرة ، يلمع فى ذاكرتك وجه رجل يبكى كالاطفال ، كان طويلا كنخلة ، نوبيا من وادى حلفا ،محاضرا بالجامعة لم تنسه دفاتر محاضراته فى الجامعة حيث يعمل ذلك النخل الذى هوى في النهر في مسقط رأسه ، كان يبكى بمرارة ويبوح (هل تتصور يا صالح رجلا بلا ماض وبلا مراتع صبا يهرع اليها حين يداهمه الحنين ؟ هل تتصور شجرة باوراق وبلا جذوع او جذور ؟ هولاء نحن الان ، باعوا ماضينا بثمن بخس ، وحتى الحاضر لم يتركوه لنا ، لم يتركوا لنا الا الهجرة القسرية ومرارة الهزيمة و سلبونا حتى الحق فى الصراخ) . كنت صامتا تماما يا صالح ... تدرك حجم ما يعانيه ولا ترغب فى التطفل على حزنه بكلمات ميتة باردة بلا روح فيها تخرج من مكان ما فى الفم ولا تعبر عما بالقلب من التياع وأسى ، تغرق فى الصمت ويغرق هو فى خواطره ... يداهمكم جميعا نعاس ويستطيل الصمت .

   XXX

كان الصمت يعم ساحة السجن حين سمعوا صوت خطوات الحارس المميزة.،كانوا مبعثرين فى مجموعات صغيرة حين انفتح باب العنبر  ودخل عم (اسماعيل) الحارس المتميز بملامح اهل الشمال ولكنتهم ، كان وجهه شاحبا نرتسم فوقه ملامح غضب والم عظيمين ، دخل مترنحا علي غير العادة لم يكن يمشى مشيته العسكرية الصارمة التى كانت موضع تندرهم وضحكاتهم ، عم صمت شامل فالتقط عم اسماعيل انفاسه وهو يستند على الجدار القريب و نظر فى وجوههم فى أسى قبل ان يلقى الخبر الذى وقع عليهم كالصاعقة في وجوههم : (قتلوا طالبا فى الجامعة) لم ينتظر ردا و استدار وانفلت خارجا، انصفق الباب خلفه ، لم يتحدث احد ، كان الخبر ابلغ من اى حديث ، زلزلة اخذت معها السكينة وجلبت معها حمما مشتعلة جعلت الصدور تغلى وتفور ، النوم خاصم الجفون ، باتت الاخبار تتوارد الى السجن كشقشة العصافير عند الاصيل فى مزرعة بعيدة ، المارد استيقظ على صوت المذبحة  في الجامعة، االشارع يفور بالغضب وأسم القرشي علي كل لسان و البيانات الغاضبة فى الشارع كأوراق الشجر حين تنثرها رياح الشتاء ، نذور الاضراب العام بدأت تلوح فى الافق ، ... اسم جديد بات يرد فى الهمس ، جبهة الهيئات تقود المعركة و الحياة تتوقف تماما ، وكالاعصار، كمطر اواسط الخريف ، جاءت ثورة اكتوبر ، كاسحة ، عاصفة و انفتحت بوابة السجن واندفعوا خارجين الى احضان الشمس ودفء العشيرة علي ايقاع الاناشيدالحماسية التي تمجد ثوار اكتوبر صناع النصر وتتغني بالثورة  .
وللمرة الاولى منذ سنوات عديدة انفتحت بوابة السجن واغلقت على (حمد) الذى شمله التطهير فيمن شمل وعدت يا صالح محمولا على الاكتاف رئيسا للنقابة الوليدة ، لم تذهب السنوات المهدرة وراء القضبان سدى و الليالى الثقيلة على القلب المتعب خرج من رحمها شبلب يسدون وجه الشمس بقفون الان فى هجير لافح وعيونهم متعلقة بك ، تكاد احلامهم تقفز من محاجر العيون ، يعلقون عليكم امالا جساما فتقول لنفسك: (ليتهم يعلمون ان الامال معقودة على سواعدهم الغضةوانك بدون تلك السواعد ليست سوى عصفور منتوف الريش لا يقوي على التحليق ابدا ...) و تتذكر فيجئيك صوت حامد قويا  (بفضلكم صار هذا ممكنا ...) دون ان تعى ترددها ودمعة تغسل خدك ،. لا تستطيع مداراتها ... تتحدث كما لم تتحدث من قبل و ينطوى يوم و تتعاقب الايام فتمسى اعواما  والحبل فى شد وجذب بين أطراف عديدة والقطار يلج محطة ليودعها بعد برهة و المشاهد القديمة لصراعات تعصف باحلام البسطاء تتكرر أمام ناظريك ، تمسى النقابة عبئا ثقيلا تضيق به الحكومة  وتمسى الحكومة خيبة امل كبيرة تتسع الهوة بينها وبينكم يوما بعد يوم ،. (حمد) لم يبق بالداخل طويلا ، سرعان ما عاد وابتسامة بغيضة على الوجه  ومع حزبه عاد من جديد الى رأس النقابة ،تناسى هو كل الخطب عن الفوضى وتبرؤه من تهمة التحزب فى ايام خلت  ونسى الحزب أو تناسي ماضيه القبيح وأنه قد باعه فى اول مواجهة ، تذكروا فقط انه الرجل ذو الخبرة الطويلة فى العمل النقابى ، بت تكلم نفسك كثيرا يا صالح (الحكام لا ذاكرة لهم ، لكن الشعب لا ينسى ، ولكن !! ماذا يفيد التذكر ان كانت الايادى مغلولة ؟) . تغير الناس كثيرا يا صالح ،يجتمعون فى منزل فرح وينسون الفرح ويتحول المكان الى ساحة تعج بالجدال والمتجادلين ، تعلو الاصوات فلا تميز شيئا، يودعون عزيزا قد غاب الى الابد وما ان يستديروا عائدين من المقبرة حتى تنفتح الابواب لنقاشات حامية الوطيس لا حدود لها ولا ضوابط حول كرة القدم والسياسة وصفقات التجارةوحتي النميمة في الغائيبين...
حتى (عبدالله) المتحفظ دوما بات يدلى بدلوه وظهرت له ميول واتجاهات في تلك الايام ، وعندما ذكرته فى لطف بأيام خلت كان يهرب فيها من حوار السياسة هروب المرء من عدوى فتاكة ، يبتسم فى هدوء ويرد عليك قائلا: (ذلك زمان ، وهذا زمان ،تغيرت الاشياء وعلى المرء ان يواكب التغيرات) ويضيف : (ثم لا تنس يا اخى ، نحن ختمية بالميلاد ، ليس هذا شيئا جديدا) تبتسم وتمضى وفى الذهن علامات استفهام عديدة ، وسرعان ما استبان لك ما خفى عليك من امره عندما جاءك من الاقارب من زف اليك نبأ مفاده ان اخيك هو المرشح الجديد للدائرة فى الانتخابات الوشيكة . لذلك لم تندهش عندما سافر (عبدالله) الى البلد بعد سنوات من الغياب الطويل فجأة ، فقد كان يعد نفسه لمرحلة مقبلة وعوالم جديدة ، ولكن احلامه لم يكتب لها ان ترى النور ابدا ، فذات صباح من اواخر شهر مايو صدحت الموسيقى والمارشات العسكرية فى المذياع معلنة عن بيان هام وأطل النميري ببزته العسكرية ليعيد صفة المنحلة الي الاحزاب من جديد ، وانطوت صفحة من عمر الزمان واندثرت معها احلام لم تشرق عليها شمس .

 XXX  

حيرة عظيمة تلك التى تفتك بك يا صالح ، لم تعد كما كنت ابدا ، شىء ما فيك لم يعد فى موقعه،هذا الضباب الكثيف من اين أتى ؟ كانت السماء ساطعة ، الشمس هى الشمس و الظلام هو الظلام ، حتى فى ليالى السجن الطويلة لم تكن التفرقة تصعب عليك ، ربما كانت الليالى الطويلة و الرطوبة والشمس البعيدة التى لا ترى الا شعاع صغير منها يتسلل الى حيث تقبع و الوحدة الطويلة الأمد ، الابواب التى تفتح لتعود مرة اخرى وتغلق كأنها قدر لا فكاك منه ، ربما اضعف كل هذا قدرتك على تذوق طعم الاشياء ، ربما كانت الاقدام التى اعتادت السير فى الطريق المضاد دوما قد اعتادت الصراخ فقط فأمست عاجزة تماما عن فعل كل الاشياء الاخرى عداه ،ويجئ صوت من مكان ما (لكن العين ليست هى التى ترى ، القلب هو الذى يخفق ويضطرب ، والقلب لم تطاله الرطوبة ، مازال ينبض ومازال قوي البصيرة ...) تري هل هو مصير (عبد الله) ؟ أهو الذى علم القلب ان يحترس وزرع فى الداخل هذا الاحساس العميق بالغربة الذى ينهشك وسط بحر يموج بالغبطة والرضى ؟ ، (عبد الله ) !!... تسرح فى البعيد فتلمع فى ذهنك صورة اقدام تخطو فى حذر ، تطول المسافة ما بين الخطوة والخطوة و تتحسس اطراف الاصابع موقع الوطء علي مهل ، ثم تخطو بعد دهر ،لكن فجأة تغيب الاقدام تماما وهي تهوي في جب مظلم و صدى صرخة بعيدة وأنين خافت يخرج من داخل الجب  ثم يسود الظلام ،تحدث نفسك : (على المرء احيانا ان يسدد فى وقت ما فاتورة ما فى رضى) لكن الفاتورة كانت باهظة يا صالح ، رجل ما ، فى مكان ما يكتب كلمة صغيرة وثمة اوراق تتكوم فى مكتب معتم حتي تنتفخ اوداجها وتصبح صالحة للايذاء، ثم حضرت مجموعة صغيرة من الرجال الغامضين الممتلئين شعورا بكونهم مهمين وخطيرين واقتادت (عبدالله) الذى ينضح عرقا الي مكان مجهول بتهمةمبهمة لكنها خطيرة، غاب عبد الله حينا من الزمن وخرج رجلا بلا وظيفة تواجهه ابواب موصدة اينما ولى وجهه ، لا تهرب يا صالح ، لا تحاول ابعاد صورته عن ذهنك، تلك النظرة في عينيه وهم يقتادونهبتلك الطريقة المهينة ... لماذا تجاهد لمحوها من الذاكرة يا صالح ؟ لم يطاردك هذا الاحساس بالمسئولية على نحو ما عما جرى له ؟ ( لا ،أنا لست مسئولا الا بقدر ما يكون المرء مسئولا عن مصير الاخرين المترتب على اختيارهم .) ... وانت يا (صالح) الم يكن الاخرين مسئولين عما جرى لك بسبب اختيارك ؟ انت يا صالح متعب ، مشتت الذهن ، تشبه بحارا هاجم القراصنة سفينته فى عرض المحيط فتعلق بلوح مكسور ، حملته الامواج كيفما اتفق ، كان عاريا الا من رغبة فى الحياة تشتعل فى الداخل ووميض امل في النجاة و حينما ارتفعت امامه سارية بعيدة ، ضرب الموج بذراعيه الواهنتين على عجل وهو يصرخ وعندما اقتربت السفينة وجدها سفينة قراصنة اخرى فعاد لموجه المصطخب حتى دفعته الامواج الهادرة الى شواطىء جزيرة صغيرة وعندما قضى ليلته الاولى فيها اكتشف انها تعج بآكلى لحوم البشر ، تنتزعك من خواطرك اغنية تردد فى مذياع بعيد تحمل الرياح صداها (اصبح الصبح ، فلا السجن ولا السجان باق ...) ، تردد المقطع خلف صوت (وردى) العذب و تلفك سكينة صغيرة ، ثم تعود الخواطر تهدر اقوى مما كانت وتهمس لنفسك : (اصبح الصبح ، نعم ، لكن السجن باق وكذلك السجان فقط تغير من بالداخل ومن بالخارج ...) وتمضى بعيدا فى خواطرك التي تحاكي السياط: (الصبح يأتى ليرحل لا ليقيم قط ، تسطع شمسه ثم تذوى رويدا ، رويدا و تمسى شاحبة اكثرو يميل لونها للاصفرارمع مضى الوقت كجسد عليل يعتريه الشحوب مع تفاقم العلل وهكذا يحل الليل دون ان يدرى احد ، تري هل بت جزء من الليل دون ان تدري يا صالح؟!) .
وتمضى يا صالح ، تحمل ما تحمل وتواصل السير ، الحياة ايضا تمضى و لا تعرف التوقف ولا المحطات ، (عبدالله) امسى تاجرا كبيرا يشار اليه بالبنان بعد خروجه من المعتقل بسنوات قليلة و فارقه ذلك الاحساس بالغضب تجاه الفصل من الخدمة والاعتقال  وحلت محل عباراته الساخطة عبارة اثيرة لا يكل من ترديدها : (حسبناها شرا فوجدناها خيرا وفيرا) مشيرا الى فصله من الوظيفة وتناسى ذلك الاسف العميق الذى احاط به فى الايام الاولى على تخليه عن حذر عرف به ، غاب السخط والتبرم فى عالم جديد من الارقام والعمائم المسرعة ، بات كل شىء لديه جزء من ماض لا يذكره الا لماما فى جلسات الانس الحميمة مفاخرا به.   
(زينب) تزوجت ورحلت بعيدا ، امسيت جدا يا صالح ، جدا تعبث بلحيته اصابع صغيرة ، وتسعده ابتسامة دافقة بالبراءة تلمع فى عيون الاحفاد الصغيرة، أما (بدور) فقد ركضت بها السنوات ومضت تطوى المراحل فى نجاح باهر فاقت فيه اقرانها . ها هى اليوم امست بعيدة هى الاخرى طالبة مجدة لم تفارقها بعد شقاوة الطفولة وتلك الجرأة التى تميزت بها فى الجدال ، وكما مسحت عنك يوم ميلادها ظلاما كان يحيط بك مسحت عن قلبك كآبة فتكت به من جراء خيبة املك فى اكبر الابناء (احمد) الذي علقت به آمالا كبارا توارت خجلا الواحدة تلو الاخرى و انتهى به المطاف الى موظف صغير وطموح قليل ، تتذكر هروبه الدائم من المدارس وسحابات غضبك التى تتجمع واليد التى تهوى بالسوط على الجسد النحيل و صرخلت فاطمة المفزوعة وهو يهرب منك ويلوذ بها كقطة خائفة ، وتتذكر باب يغلق عليكما و حديثك ينساب، تحدثه كيف تعلمت الكتابة وكيف كنت فى مثل سنه رجلا يعول اما مكلومة واخوات ليس لهن سواك من معين ، تتذكر عيونه التى لا ترتفع عن الارض و كلماته القليلة ووعوده لك، ثم تدور الدائرة من جديد  وتمضى السنوات وبينه وبين العلم والتحصيل ود مفقود واشواك تدمى قلبك المفجوع  وفاطمة ؟ ليت لك مثل هذه الطمأنينة التى تكسوها وهذا الصوت الهادىء الذى ينساب فى اذنك فيتلاشى الغضب شيئا فشيئا حتى يسكن كما تكف عن الحركة ايادى غريق ، تقول لك (فاطمة) : (كن موحدا بالله يا صالح ، لا تجزع ولا تحمل الولد ما لا طاقة له به ، ذلك زمان وانقضى ، وهذا زمان قد اتى ، دعه يكن ما يريده لا ما تريده) تصمت يا صالح و تغيب فى البعيد ، الحق يقال انها ما دللته قط. وما استسلمت قط بل حادثته طويلا أناء الليل واطراف النهار والتمست لقسوتك معه المعاذير و رقته بالتمائم  وظلت ترفع اياديها بصالح الدعوات له فى كل الصلوات ، لكن صدرها لم يضق به قط ، كم تغبطها على ذلك ، ولانها لا تضيق باتت مستودع اسرار الاولاد وبت تعرف من نبراتها ما يرغبون فيه وما لا يرغبون فيه، ضايقك ذلك فى البدء لكن سرعان ما الفته وبات امرا مسلما به لديك .
XXX
فى الشارع كان بريق الايام الاولى لنظام الحكم الجديد قد بدأ يخبو شيئا فشيئا  عادت الحياة لطابعها الملىء بالرتابة والضجر ، بللت خد صالح دمعة لم يجدها فى وجوه الناس المسرعين فى الشوارع حينما بلغه نبأ رحيل الزعيم الازهرى ، وحيدا بلا ضجيج ، بيان مقتضب فى المذياع وانتهى كل شىء ، كم تبدل الناس يا صالح ، سرى همس تعاظم مع الايام عن خلافات عميقة تعصف برجال الحكم الجديد ، وسرعان ما بات الهمس حقيقة واقعة حين خرج قائد الحكم الجديد على الناس ببيان اعفى بموجبه ثلاثة من قواده و فاض الشارع بتفسيرات شتى لمغزى الحدث ، انتفض الشارع من جديد بعد ركود وانقسم الناس ما بين مرحب وساخط عليه برم به ...
خرج (حمد) بعد طول غياب الي مسرح الاحداث  فهمست يا (صالح) فى سرك : (البوم لا ينعق الا فى الخراب) وتوجست شرا فى داخلك وانتابك انقباض عظيم و جاءك من يهمس ان (الثورة) فى خطر وأنها باتت فى مفترق الطرق ، وسمعت (حمد) يتحدث الى مجموعة من العمال عن (الحزبية) التى اخذت تطل برأسها من جديد وخطرها على الثورة الوليدة ، فقلبت كفيك وهمست فى سرك وانت توسع الخطى بعيدا: (حتى انت يا غراب البين)  ، ارتفع الهمس فدخل اجتماعات النقابة ، طفحت بالضجيج وبمباريات ملتهبة من الالفاظ الرنانة حول الاكثر ثورية و تجمعت سحب الدخان كثيفة وبات كل شىء ينم عن احداث جسام قادمات ، كان استبيان الطريق فى هذا الغبار الكثيف امرا عسيرا فلم تجد بدا يا صالح من انتظار تسفر عنه الايام الحبلى بالجديد ، وسرعان ما تداعت الاشياء حين سرى همس عن هروب زعيم سياسى معتقل فى البدء و بينما الناس بين مكذب ومصدق لذلك الهمس قطعت الإذاعة برامجها عصر احد الايام فجأة و. صدحت الموسيقى العسكرية ثم جاء صوت عبر الاثير (بيان هام فترقبوه) و ساد صمت ووجوم و اجتمع الناس حول المذياع و. إنسابت عبارات البيان وأخذ الهمس يرتفع حول هوية القادمين الجدد عند الظهيرة ، تلقف الناس الصحف فى فضول وهم يدققون النظر فى الوجوه الجديدة ، يستنطقون الوجوه والاسماء والذاكرة علها تفيد فى إزاحة ما غمض عليهم ، انصتوا فى اهتمام للقائد الجديد وهو يتحدث عن اهدافهم واسبابهم ، حشدت المواكب فى اماكن متفرقة وخرجت تلوح باعلام حمراء وتضج بالهتاف بلا كلل وعبر المذياع يأتى صوت يتحدث عن تدخل خارجى ، ويسرى همس عن طائرة قيل انها تحمل بعض قادة الانقلاب الذين كانوا بالخارج وعن اعتراضها وإنزالها قسرا فى بلد مجاور ، طوى البعض راياتهم وتسللوا عائدين فى هدوء  وبات جليا ان النظام الجديد يواجه صعوبات جمة ، ثم جاء صوت اخر طافح بالغضب عبر المذياع يعلن ان انتصارا قد تم وان النميري قد استعاد سلطته ، باتت الشوارع خالية الا من السيارات العسكرية واصوات طلقات بعيدة ، لم ينم احد و اخذت الاخبار تترى عن إعدام القادة العسكريين للمحاولة الفاشلة والقادة المدنيين الذين ا دانتهم السلطات بالضلوع فيها . سلد صمت عميق لا يقطعه الا صوت السيارات الخضراء المكتظة بالجنود المدججين بالسلاح وهى تجوب الشوارع ليل نهار وتفرغ حمولتها فى السجون ، وفاضت الشوارع بالملصقات وصور المطلوب القبض عليهم .
كانوا يقتادونهم من المنازل والورش كما يقتادون أرانبا مذعورة الى القفص ، كنت تعرف منهم عديدين، بعضهم رفاق عمل  وبعضهم اقتسم معك ايام الاعتقال الطويلة ففيما مضي ، بينك وبينهم ود ولقمة طيبة لن ينكرها الا كلب أجرب ، (حمد) ازدادت إبتسامته إتساعا وعلا صوته الخافت فصار يتمدد و يجيئك وانت نائم ، كان يبتسم فى غموض حين يلقاك ويهمس (اما زلت بالخارج ؟) تبصق على الارض وتمضى ، لم تدم ايامك بالخارج طويلا ،كان قلبك يحدثك ان الدائرة ستشملك حتما ،هذا ما حدث دائما معك وما سيحدث ، كنت مستلقيا فى ظل شجرة النيم العملاقة و امامك قهوة لم تمسها بعد حين دوت الطرقات المألوفة على باب المنزل قوية وآمرة ، ويبدو ان ضجيج الصبية الذين كانوا يلعبون الكرة بالخارج قد غطى على صوت العربة فلم تسمعها عند قدومها ، لكنك كنت تتساءل فى ذات اللحظة التى طرق فيها الباب لم خفتت اصوات الصبية ؟ كانوا محموعة كبيرة مدججة بالسلاح و يرتدون زى الجيش المميز ،. فصعدت الى العربة فى سكون ، وضعوك فى المنتصف ودار المحرك والايادى قابضة على السلاح بحزم ، كان الصبية منزوين فى احد الاركان وعيونهم الصغيرة ملتمعة ببريق الخوف وصمت عظيم يلفهم ، إبتعدت العربة وغابت معها المشاهد وطيف (فاطمة) الواقفة بباب الزنك الصغير ترقب السيارة حتى اختفت عن البصر .

  XXX 
وتتذكر الايام الاولى القاسية في المعتقل، البذاءات الكثيرة و الصدور الطافحة بالحقد والتشفى ،الكراهية المنتصبة حتى على الجدران الصامتة ، الرجال ذوى الوجوه الصلبة كجدار و ردودهم القاسية على المحقق فى النهار وصمودهم دموعهم التى لا تنقطع ليلا حزنا علي مآلات رجال ورفاق أحبوهم وآمنوا بهم ولم يستطيعوا ان يدفعوا عنهم آلة الموت ، وشيئا فشيئا هدأت العاصفة وباتت الاشياء تتلون برتابة كئيبة ، انتقالكم من مقرات اعتقال عسكرية الي سجون الفتها والفك حراسها.أيام السجن الممتعة بفصول دراستها وندواتها واشعارها والغنا باصوات غليظة وجدول الاعمال اليومية من غسيل وكي وطبخ، وسرعان ما انتهت تلك الايام، صوت المحقق قبل اطلاق سراحك (انت يا صالح تحيرنا تماما ، لا يوجد فى التقارير ما يشير الى صلتك بهم ، لكن افعالك جميعها تتشابك وتشىى بشىء واحد ربما كنت اخطرهم على الاطلاق ، لماذا لم نؤيد  ؟) ... لا إجابة ... (حسنا يمكنك الانصراف  وأرجو ان تكون اكثر حكمة من ذى قبل ...) تستدير والرأس مصطخب وانت تهمس (لماذا لم تؤيد ؟ انا لم اؤيد ما حدث  ولا اؤيد التقتيل ، بنظرى لا شىء يبرر ضرب أعناق الرجال ،لا شىء البتة ... ) ينفتح الباب و تندفع معه نسمة هواء ساخنة و تغيب يا صالح فى بحر الحياة من جديد عدت الى القطار والى المحطات الاليفة ، وجوه المسافرين المتعبة ، تبدلت الاشياء فى غيابك كثيرا ... (بدور) اكملت دراسة الطب ، اينعت الثمرة فجاء من يقطفها  فزفت اليه فى حفل بهيج ، كانت تبكى وهى ترتمى على صدرك كطفلة خائفة وتهمس (كم كنت اخشى ان يأتى هذا اليوم وانت بعيد يا ابى) تغالب دمعة تحدرت وتنسحب بهدوء ، تتوكأ على عصا الابنوس التى اهداك اياها (احمد) ذات يوم وتستوى جالسا وانت تتصفح الوجوه الطافحة بالفرحة فى سعادة عميقة ، كبر الاحفاد يا صالح وعما قريب يترجل الفارس عن صهوة الجواد ، وتنأى المحطات و يغيب الضجيج الاليف ، فتشتهيه الاذان ، هالتك الخاطرة التى تسللت اليك بغتة فكسا وجهك عبوس قصير و التقت عيناك بعينى (بدور) التى لا ترتفع عن وجهك ابدا ، قرأت فيهما التساؤل ، فانزاحت التقطيبة وحلت محلها ابتسامة واسعة باتساع مكانتها فى قلبك ، تبحث بعينك فى فضول عن (فاطمة) وبعد عناء تلمحها منزوية تتصفح وجه ابنتها فى إشفاق صامت .فتلتمع فى ذهنك صورة جبل اشم تعوى العواصف حوله ويهطل المطر غزيرا و تلتمع البروق وهو منتصب فى مكانه لا يئن ولا يتزحزح ، تلك هي (فاطمة) ،ينفرج الوجه عن ابتسامة عريضة ويغيب  حين يغطيه جسد فارع انتصب قبالتها و صافحها بحرارة  كان ذلك (احمد) ، كم تغيرت يا بنى ، صرت تمشى بجوارى فلا يفرق بيننا الناس ، صارت النظرات ثاقبة وواثقة متفحصة ، كحامد تماما ، وتتذكر يا (صالح) ذات يوم، الشمس تلملم اشعتها الهاربة والغروب يتهيأ لبسط ظلامه على الكون حين توقفت عربة أمام الباب وسمعت الطرقات المألوفة فلملمت اشيائك الصغيرة وخرجت اليهم ، لكنهم لم يكونوا يبتغونك هذه المرة ، كان مقصدهم (احمد) ، خرج اليهم فى ثبات وفى اليد حقيبة صغيرة و ودعك بكلمة مقتضبة  واستدار ومضى بينهم عملاقا يتوسط كومة من الاقزام ، كانت تلك تجربته الاولى في الاعتقال ثم تجدد المشهد فبات شيئا مألوفا .

XXX

استوى القطار على قضبانه وانزلق ،صوت العجلات على القضبان ينساب فى رتابة نابضا بعزم اكيد على طى المسافات فتلوذ بالصمت و فى الذهن تلتمع صورة بعيدة، كم تغيرت الدنيا يا صالح تغير الناس كثيرا ، المحطات الصغيرة التى كانت كبقعة ضوء صغيرة فى الظلمة اتسعت الان و ما بين الرحلة والرحلة تتمدد فيها مبانى جديدة وتنبض حياة جديدة والمدارس انتشرت فى الجانب الذى يقع شرق الخط الحديدى ، تماما كشجرة صبار تلمع فى الصحراء ، القطار لم يعد القطار ، شاخت قاطرات وتوارت هامدة كجثة فى الورش البعيدة و جاءت قاطرات لامعات اخذن مكان التى توارت ، حتى الركاب تغيروا يا صالح ،تغيرت عاداتهم وملامحهم ، الموظفين والعمال الذين كانوا يزحمون المحطات وتعلوا اصواتهم وهم يتشاجرون حول القمرات الخالية تناقصت اعدادهم رويدا ،رويدا و خفتت حدة الشجار ، اختفت العائلات الممتدة من الجدة الى الحفيد التى كانت تتزاحم فى العطلات فى رحلة العودة الى القرى البعيدة ودفء العشيرة و خفتت اضواء غرف النوم في القطارات و تناقصت المصابيح ،تسرع الخطى يا صالح وتهمس لنفسك بصوت مسموع : (متى ينتهى هذا السفر ؟ متى يكفون عن هذا الرحيل؟ فى البدء كان الرحيل من القرى الصغيرة الى مدن تلمع بأضواء النيون وكانوا يـأتون فى العطلات الى النخيل والى القرى التى يحاصرها النيل من جهة والصحراء من جهة اخرى ، ثم عرفوا الطائرات والمدن البعيدة التى لا يقوى القطار على بلوغها ابدا ،. صارت العطلات بالمدن الصغيرة ، توارت القرية تماما ، صارت حكاية ترويها الجدة للحفيدة ، امسى القطار خاويا علي عروشه وازدحمت المطارات ، وذات يوم يا صالح ، ذات يوم ، يتوقف القطار تماما ، يكف عن رحلته البلهاء ، تتمدد الصحراء فتلتهم بيوت الطين الاخضر الخاوية ، تطمر النخيل الفارع ،وتزحف نحو النيل ...... )
تسيل دمعة على خدك ، تتذكر  ذات يوم ، كان احمد خارجا لتوه من نفق موحش إستطال شهورا عديدة ، ساخطا ،مضعضعا ، تذاكر السفر والوثيقة الزرقاء اللامعة في يديه وبقايا حياء فى العيون الساهمة ، كلمات قليلة ، ثم حلقت طائرة ما وطواه الغياب ، صوته يرن فى أذنك الآن يختلط مع صوت العجلات الرتيب : (سامحنى يا ابى ... ليس بيدى شىء ..) تتذكر ، كيف إستدار على عجل ليخبىء عنك دمعة غافلته وارتطمت بالارض ، بدا صوت الارتطام مسموعا ، عاليا ، مدويا ، لم يكن لديك ما تقول ،.فلفكما صمت بليغ ، كم هو صغير هذا الكون ! قفزت الكلمة الى  ذهنك وانت تلج بيت (عبد الله) اخيك حيث كانت الدار تغص بمن فيها والموائد العامرة تروح وتجىء على عجل يماثل العجلى التى ترتسم على وجوه حامليها ،كانت المناسبة احتفال صغير ، كما قال عبدالله بمناسبة ولوج اكبر الابناء الجامعة ،كنت تتقدم فى وجل حين نهض ذلك الرجل البدين فسقطت عمامته على كتفه ، فلم يهتم بإعادتها الى موضعها و إندفع نحوك بحماس ظاهر ، عرفت فيه (حمد) ، رغم التحول الكبير الذى طرأ عليه ، اقبل (عبدالله) ليقدم كليكما للاخر ، ففوجىء بحرارة المصافحة من قبل (حمد) ونظراتك التى تنم عن تعارف تقادم العهد به ، فإرتسمت الدهشة على وجه (عبد الله) وهمس : (تتعارفان إذا ، يا للصدفة) ، هممت بالكلام ولكن (حمد) اخذ المبادرة وهتف وهو يضحك : (منذ زمان بعيد جدا يا عبدالله ، إنها رحلة كفاح طويلة مشتركة ...) سكت قليلا واضاف : (لكننا تركنا عهد الشقاوة منذ زمن بعيد وبقى صالح ، نحفظ وده ولا يحفظ لنا ودا) وابتسم فى نعومة وهو يربت على كتفك ،نظرت اليه دون ان تنبس بشىء فأدار وجهه للناحية الاخرى وفى عيتيه ضراعة بادية تقول (ليس الان ، يا صالح ، ليس الان) إبتسمت ابتسامة مقتضبة وجلست صامتا . وعادوا الى ما كانوا فيه من انس وحديث (رحلة كفاح طويلة ؟) تهز رأسك فى أسف وانت تتأمل الوجه المكتنز (ان اثار الكفاح بادية تماما عليك أيها المهرج! ...) تهمس لنفسك و تتساءل فى سرك ما الذى يجمع بين هذه الدودة الحقيرة واخيك ؟ تبتلع سؤالك ... وتنهض وتختار مجلسا بعيدا وتغيب فى دفء الحوار ، ينقضى الوقت سريعا ، ترفع رأسك على صوت (حمد) مودعا ، يستدير فينهض من حوله يودعونه فى حفاوة ظاهرة ، يرفع يده لك، فتهز رأسك مودعا فى سكون دون ان تفارق مجلسك .
وحين إنفض السامر وبت وحيدا مع عبدالله اجابك ببساطة : (إنها علاقات ضرورية يا أخى... والرجل ودود وخدوم ، هذا كل مافى الامر...) ثم ضحك فى مرح واخذ يحدثك عن زواج (حمد) الوشيك ... عندما لاحظ دهشتك البادية همس بخبث ظاهر : (هذه الزيجة الثالثة ، الرجل يبحث عن الذرية ، ولا يريد ان يقتنع انه مكمن الداء ...) ... لم يكن لديك ما تقول ، فلذت بالصمت حتى حانت ساعة الرحيل .

        XXX  

كان الحفيد يرتعش و يغيب فى نشيج مر  والصمت يلف الدار المكتظة ، اشعث اغبر يبلله عرق غزير ودموع كالمطر تنساب فوق الخد الذى يكسوه الغبار فترسم اخاديد غريبة الشكل على الوجه الصغير ، كراسة مدرسية ممزقة الغلاف مبللة بالعرق كانت فى اليد الصغيرة عندما دخل الدار لاهث الانفاس محمر العيون ترقد الان على المائدة الصغيرة فى سكون ... (بدور) اخذتها الدهشة للمنظر وظنت للوهلة الاولي ان هيئة (أحمد) الصغير مردها مشاجرة مع تلامذة اشرار فاحتضنته واللعنات تتوالى على لسانها كالمطر ومضت تتحسس الجسد الضئىل كى يطمئن قلبها ، كانت كالمجنونة تماما فى البدء ، لكنها الان ساهمة حزينة ، صامتة و قد إنزوت بعيدا وقد هزتها مثلهم جميعا الفاجعة التى فتكت بقلب (احمد) فغابت فى صمت ذاهل ، ( حسبى الله ونعم الوكيل ) تتمتم يا (صالح) وانت تترنح وتغيب فى البعيد مستعيدا المشهد من ذاكرة احمد الصغير: كانوا عصافيرا صغيرة تغرد فى الشوارع فى وداعة و تضرب اقدامهم على الاسفلت واكفهم على الكراسات المدرسية وترتفع حناجرهم بالهتاف ،و حين دوى الرصاص  و هوى (سامى) على الاسفلت وهو يتأوه ظنه الصغار يمزح أو يمارس شقاوة ما ، لكن الدم الذي تدفق احمرا قانيا غزيرا وسامى الذي لا يستجيب للنداء والجنود يقتربون منه وهو لا يركض صوب الاصدقاء ، لا ينهض ، يبقى على الاسفلت والهواء يمزق كراسته الصغيرة كيفما شاء وشعره فقط يتحرك بفعل الهواء، الجنود يقتربون منه،ثم يتراجعون عن الجسد الملقى على الرصيف ، يتراجعون فى فزع ، فتقترب العصافير من سامي الذي لايجيب،ثم الرحلة الي المستشفى و وجوه الاطباء التى يلفها صمت و نساء يجهشن بالبكاء و رجال يهدرون فى غضب كظيم ، هكذا مات (سامى) ياجدى .
وتنهمر الدموع ، تغيم الدنيا امامك يا صالح، تتأرجح الغرفة الصغيرة بك كأنها قطار يقطع المسافات بحزم ، فتخرج مترنحا متثاقل الخطى ، تفتح الباب و تضرب على غير هدى فى الشوارع ، فى الوجوه الواجمة و العربات المكتظة بالجنود و عيونهم القلقة في محاجرها كفئران مذعورة تقرأ ما حدث فى الظهيرة، ما بال المدينة لا تنوح ؟ ما بال الشوارع صامتة مقفرة لا صوت فيها سوى ازيز الرياح ؟ تقودك قدماك فى طريق تعرفه مثلما تعرف راحة يدك ، صامتا تخترق ضجيج الورش الاليف و فى ذهنك تقرع الاف النواقيس ، كنت تسمع وقع اقدامك فى البدء ترن وحيدة فتنتظر الصدى وتوغل فى مسيرك ، لكنك الان تسمع وقع الوف الاقدام ، عن يمينك وعن يسارك ومن خلفك وامامك ، تتقدم ووقع الاقدام يتزايد ، لن تلتفت ، نحفظ الوجوه وتكاد تقرأ التعابير المرتسمة على الوجوه الصامتة التى تلهث لتلاحق وقع خطاك ، همهمة غاضبة تتجمع كقطرات ماء تنساب من نافورة شحيحة فى البدء ،ثم إرتفعت الهمهمة و علا هتاف فارتجت الجدران ، عاد الصدى كشلال هادر ، فجاوبه هتاف جديد ، دبيب الاقدام بدأ يأخذ إيقاعا اليفا حبيبا ، ثم إلتهبت الاكف بتصفيق منغم و أنفتحت البوابة ، تهاوت، فداستها الاقدام المسرعة ، الشوارع تتلوى تحت الاقدام فى شبق كعذراء ليلة زفافها ، الانهار البشرية تتدفق من كل صوب كوابل منهمر و تكتسح ما أمامها كسيل ينقب فى كل الفجاج و يقتلع الاشجار الميتة من الجذور  وانت تعلو وتنخفض فى موجه المندفع ، وغبت يا (صالح) فى النهر ،كنت تعلو وتنخفض ، تعلو وتنخفض كراية جيش مندفع وشمس الظهيرة ساطعة بوهج غريب .
تمت

الجمعة 26 يوليو 1996 

الخرطوم




No comments:

Post a Comment